أهميَّةُ الصَّبْر
الخطبة الأولى:
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد .
فاتقوا اللهَ أيها المؤمنون، ألا وإنَّ أعظمَ ما تحصُلُ به التقوى، وتُجنى به ثمارُها الصبرُ.
واعلموا أن الله سبحانه جعلَ الصبرَ جواداً لا يكبُو، وصارماً لا ينبو، وحِصْناً لا يُهدمُ، ولا يُثلمُ، وقد أجمع العلماءُ على وجوبِه، فقد أمر اللهُ تعالى به عبادَه، فقال جلَّ ذكرُه:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة آل عمران:200.
ونهى عن ضدِّه فقال سبحانه مخاطباً نبيَّه صلى الله عليه وسلم : ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) سورة الأحقاف:35 ، وقال جل وعلا: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) سورة النحل:127، وقال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) سورة الكهف:28، وقد أثنى اللهُ على أهلِه: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) سورة البقرة:177، وأوجبَ سبحانه للصابرين محبَّتَه، فقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) سورة آل عمران:146، وأخبر أنه خيرٌ لأهلِه فقال: ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) سورة النساء:25، وقال: ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) سورة النحل:126، وَوَعدَهم سبحانه بعظيمِ الأجرِ، فقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) سورة الزمر:10-، وقد أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه خَيْرُ ما يُعطاه العبدُ، فقال: «وما أُعطِيَ أَحدٌ عطاءً، خيراً وأوسعَ من الصبرِ» أخرجه البخاري (1400)، ومسلم (1053) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
والصبرُ أيها المؤمنون ضرورةٌ حياتيةٌ قبل أن يكونَ فريضةً دينيةً شرعيةً، فلا نجاحَ في الدُّنيا، ولا فلاحَ في الآخرةِ إلا بالصَّبرِ، فلا تُحقَّقُ الآمالُ، ولا تنجح المقاصدُ، ولا يُؤْتِي عملٌ أُكُلَه إلا بالصَّبرِ، فلولا الصبرُ ما حصدَ الزارعُ زرعَه، وما جَنى الغارسُ ثمَرَه، ولا حصَّلَ الساعي قصْدَه، فكُلُّ الناجحين في الدنيا بمقاصدِهم إنما حقَّقُوا آمالَهم بالصَّبرِ، فاستمرؤُوا المُرَّ، واستعذبوا العَذابَ، واستهانُوا بالصِّعابِ، ومشوا على الشَّوكِ، ووطَّنوا أنفسَهُم على احتمالِ المكارِه دون ضَجَرٍ، وانتظارِ النتائجِ دون مللٍ، ومواجهةِ العقباتِ دون كلَلٍ، مضوا في طريقِهم غيرَ وانين، ولا متوقِّفين.
حادِيهِم في سَيْرِهم: "من صَبَرَ ظفَرَ".
وشاعرُهم يهتفُ مردِّداً:
إني رأيتُ وفي الأيامِ تجْرُبةٌ***للصَّـــبرِ عاقبةٌ محمودةُ الأثَرِ
وقلَّ مَن جدَّ في أمرٍ يحاولُه***فاستصْحَبَ الصَّبرَ إلا فازَ بالظَّفَرِ الشعر والشعراء لابن قتيبة(1|194).
فالصبرُ طريقُ المجدِ وسبيلُ المعالي، فالرِّفعةُ في الدُّنيا لا تُنالُ إلا بركوبِ المشقَّاتِ وتجرُّعِ الغصَصِ، فمن اختطَّ طريقاً يبلغُ به أمانيَه غيرَ هذا فقد أخطَأَ الطريقَ، وضلَّ السبيلَ، وما أصدقَ قولَ القائلِ:
لا تحسَبْ المجدَ تمراً أنت آكِلُه لن تبلغَ المجدَ حتى تلعَقَ الصَّبرا الأمالي في لغة العرب 1/113
أيها المؤمنون.
إذا كانت الدنيا -على هَوانِها، وأنها لا تعدِلُ عندَ اللهِ جناحَ بَعوضةٍ- لا تحصُلُ إلا بالصَّبرِ والمصابرةِ، فكيفَ تحصُلُ الجنةُ -التي عرضُها السماواتُ والأرضُ، والتي أعدَّ اللهُ فيها لأوليائِه ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمِعَت، ولا خطَرَ على قلبِ بشرٍ- بالكسلِ والضَّجرِ والعجزِ والجزعِ؟!
أيها المؤمنون.
إن حاجةَ طلابِ هذا النعيمِ، وخُطَّابِ هذه الجَنَّةِ إلى الصَّبرِ أحوَجُ وألزَمُ، فطريقُهم مليئٌ بالأشواكِ والعقباتِ، ومحفوفٌ بالمخاطرِ والمكارهِ.
ولن تبلغَ أيها المؤمنُ ما ترجُوه من فضلِ اللهِ ورحمتِه، وعظيمِ مَنِّه وعطائِه بمثل الصَّبرِ، وهذا سرُّ احتفاءِ القرآنِ الكريمِ بالصَّبرِ، حتى ذكرَه اللهُ تعالى في كتابِه في نحوِ تسعين موضعاً.
أيها المؤمنون.
أنتم محتاجون إلى الصَّبرِ عند فعلِ ما أمَرَكُم اللهُ تعالى به، وعندَ ترْكِ ما نهاكم اللهُ عنه، وعند حلولِ الكرْبِ، ونزول الضَّيمِ والبلاءِ، فالصبرُ لازمٌ لكم إلى الممَاتِ، وإليكم بيان ذلك:
أما الصبرُ على طاعةِ اللهِ تعالى، فذلك لأنًَّ النفْسَ جُبِلت على حبِّ الراحةِ والدَّعَةِ والكسلِ والعجزِ، فحملُها على فعلِ ما أمر اللهُ به يحتاجُ إلى صبرٍ ومجاهدةٍ وتحمُّلٍ ومعاناةٍ.
فالأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ مثلاً عبادةٌ، تحتاجُ إلى صبرٍ؛ لذلك أمَرَ اللهُ بالصبرِ عنده: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) سورة لقمان: 17.
والصلاةُ فريضةٌ متكرِّرةٌ تحتاجُ إلى صَبرٍ وجُهْدٍ، قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) سورة طـه: 132 .
وعِشْرةُ المؤمنين والإبقاءُ على مودَّتِهم، والإغضاءُ عن هَفَواتِهم، والرِّضا بهم، وهجْرُ غيرِهم خِصالٌ تحتاجُ إلى صبرٍ ومصابرةٍ؛ لذا قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) سورة الكهف: 28.
والخلاصةُُ أيها الإخوةُ الكرامُ أن العبادةَ بشتَّى صُوَرِها وصُنوفِها تحتاجُ إلى صبرٍ ومجاهدةٍ؛ ولذلك جعل اللهُ الصبرَ سبباً لدخولِ الجنةِ، إذ إنه هو الذي يحمِلُ على فعلِ الطاعاتِ، قال تعالى عن أهلِ الجنةِ:﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) سورة الرعد: 24، وقال ابن القيم عنهم:
صَبَروا قليلاً فاستراحُوا دائِماً يا عِزَّةَ التوفيقِ للإنسانِ القصيدة النونية لابن القيم (360)
أما النوعُ الثَّاني من الصبرِ، الذي تحتاجُه يا عبدَ اللهِ، فهو الصَّبرُ عن الشهواتِ والملذاتِ؛ وذلك أن النفسَ ميَّالةٌ إلى الآثامِ، تَوَّاقةٌ إلى الشهواتِ، فإن لم تلجِمْها بلجامِ التقوى، وتحكمْها بحِكمةِ الصبرِ، وقعتَ في الآثامِ، وتلطَّختَ بالأوزارِ، فالإعراضُ عن الملاهي، والإدبارُ عن الشهواتِ، لا يأتي إلا لمن تدرَّعَ بلباسِ المجاهدةِ والصبرِ، ولا يلقَّاه إلا الصابرون، قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) سورة الكهف: 28
فيا أخي الحبيبَ، إذا دعتْكَ شهوتُك إلى مواقَعةِ ما حرَّمه اللهُ عليك، فعليك بالصبرِ عن ذلك، فإن سلعةَ اللهِ غاليةٌ.
وإذا أزَّتْك نفسُك لغِيبةِ أخيك أو سبِّه أو شتمِه أو التنقُّصِ منه، فاصبر عن ذلك.
فعاقبةُ الصَّبرِ الجميلِ جَميلةٌ وأَحْسَنُ أخلاقِ الرجالِ التَّحفُّظُ لباب الآداب (150)
وإذا سوَّلت لك نفسُك، ودعاك جَشَعُك إلى أن تظلِمَ إخوانَك، وتأخُذَ حقوقَهم بغيرِ حقٍّ، فكُفَّ عن ذلك، واصبرْ فبِالصبرِ تنجُو من غوائلِ المعاصي والرَّزايا، وتحصِّلُ الفضائلَ والمزايا.
أيا صاحبي إنْ رُمْتَ أنْ تكسِبَ العلا ***وترقى إلى العَلياءِ غيرَ مزاحمِ
عليك بِحُسنِ الصَّبرِ في كلِّ حــالةٍ***فما صابر فيما يرومُ بنادِمِ المستطرف 2/281
وأما ثالثُ أنواعِ الصبرِ التي يحتاجُها العبدُ، فهو الصبرُ على أقدارِ اللهِ تعالى، ألا وإنَّ من أعظَمِ الصبرِ الصبرَ على قضاءِ اللهِ، وهذا النوعُ من الصبرِ لا غنى للإنسانِ عنه، فإنه إذا استُحكِمَت الأزماتُ، وتعقَّدت حبالُها، وترادَفَت الضوائقُ، وطال ليلُها، وادلهمَّت الخطوبُ والنَّكَباتُ، واشتدَّ أَوَارُها، فالصبرُ خيرُ مطيَّةٍ يرتحلُها العبدُ لتخطِّي تلك الظلماتِ، والنجاةِ من تلك المصائبِ والمدلهِمَّاتِ، هو وحْده الذي يُخرجُك من تلك الظلماتِ، ويُنجِيك من تلك المدلهِمَّاتِ، فالدنيا مليئةٌ بالغُصَصِ والمنغِّصاتِ، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) سورة البلد: 4، فمن ذا الذي لا يشكو همًّا ولا يحمل همًّا، ولم تطرُقْه الدواهي وتَغْشَاه الكروبُ؟!
فهي كما قال الأوَّلُ:
طُبعت على كَدَرٍ وأنت تُرِيدُها صفواً من الأقذاءِ والأكدارِ ديوان علي بن محمد التهامي(276)
فكلُّنا يشكو ضَيماً، ويحمِلُ همًّا، كما قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) سورة البلد: 4؛ أي عناءٍ ومشقةٍ:
كلُّ مَن لاقيتُ يشْكو دهْرَه ليتَ شِعرِي هذه الدنيا لمَنْ؟ ديوان مهيار الديلمي (1588)
والناسُ إزاءَ هذه الحقيقةِ الخِلقيةِ القدريةِ الكونيةِ صنفان:
قومٌ قابلوا أقداَر اللهِ تعالى بالسَّخطِ والضَّجَرِ والجزعِ، فخسروا دينَهم، وأضاعوا دنياهم، فذلك لا يرفعُ خطاباً، ولا يكشفُ كَرْباً، بل هو إثمٌ وذنبٌ.
وقومٌ إذا نزلت بهم نازلةٌ تذكَّروا قولَ اللهِ تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة التغابن:11.
فآمِنوا باللهِ، واصبِروا على قضاءِ اللهِ وقدَرِه، وافزعُوا إلى ما أرشدَكم إليه نبيُّكم صلى الله عليه وسلم حيث قال: «ما من أحدٍ تُصِيبُه مصيبةٌ، فيقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهُمَّ أجُرْني في مصيبتي، وأخلِفْ لي خيراً منها إلا آجرَهُ الله في مصيبتِه، وأَخلَفَ له خيراً منها» أخرجه مسلم (918) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
فاستَرجَعُوا وصَبَروا، ففازوا وظفروا.
فاحرصوا عبادَ الله على أن تكونوا من الصَّابِرين المسترجِعين، عند حلولِ البلاءِ، والشاكرين المُقرِّين عند نزولِ النَّعْماءِ.
الخطبة الثانية :
أما بعد.
فالصبرُ يا عبادَ اللهِ درجاتٌ ومنازلُ، أعلاها صبرُ المرسلين والأنبياءِ، الذي نالوا به عِزَّ الدنيا والآخرةِ، صبرُ الذين يبلِّغُون رسالاتِ اللهِ ويخشونه، ولا يخْشَون أحداً إلا اللهَ، الذين منهم من قُتِلَ، ومنهم من ضُربَ، ومنهم من جُرحَ وجُلدَ وسُجن، فصَبرُ هؤلاء للهِ وباللهِ.
فيا ورثةَ الأنبياءِ، ويا حملةَ الرسالةِ، ويا دعاةَ الإسلامِ، ويا علماءَ الشريعةِ، ويا أبناءَ الصحوةِ، ويا أهلَ الخيرِ والدعوةِ، ويا أيها المؤمنون..
أنتم أحقُّ الناسِ بهذه الصفةِ وأحوجُ الخلقِ إلى هذه الخُلةِ، فإنكم ستلقون خُطوباً عِظاماً، وعقباتٍ كباراً، ومتاعبَ وآلاماً، تنوءُ بها الظُّهورُ، وتضعَفُ عن حملِها الجبالُ، فأنتم تدعون الناسَ إلى عبادةِ اللهِ وحده، وهجرِ الهوى والشيطانِ، وترك المحابِّ والشهواتِ، وتطالبونهم بأن يقِفُوا عندَ حدودِ اللهِ، أمراً ونهياً وفعلاً وتركاً، فأعداؤُكم كُثُرٌ، ومعارضوكم أكثرُ الخلقِ، قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) سورة الأنعام:116.
فما أحوجَكم إلى صبرٍ، تقطَعون به هذه المفاوزَ، ومجاهدةٍ تتحمَّلون بها معارضةَ أكثرِ الخلقِ، فإن أشقَّ ما على النفسِ أن تدعوَ بملءِ فيك، وبأعلى صوتِك، بشيراً ونذيراً، فلا تجِدُ إلا آذاناً صُمًّا، وقُلُوباً غُلفاً.
ما أمسَّ حاجتَكم إلى صبرٍ جميلٍ، تستعِينون به على تلقِّي ما يلحَقُ بكم، من أذىً قوليٍّ أو فعليٍّ، حسِّيٍّ أو معنويٍّ، فأعداءُ اللهِ لا يرقُبون في مؤمنٍ إِلاًّ ولا ذِمةٍ، ولا يتورَّعُون عن إيقاعِ الأذى بشتَّى صنوفِه على أولياءِ اللهِ، من العلماءِ والدعاةِ والعبادِ، بل وعلى كل من قال: لا إله إلا الله.
وما قصَّةُ أصحابِ الأخدودِ عنَّا ببعيدٍ، ولا ما يجري على كثيرٍ من أهلِ الإسلامِ ورجالاتِه وعلمائِه ودعاتِه، من الأذى والقتلِ والضربِ والسجنِ والمطاردةِ والإبادةِ، ومصادرةِ الحقوقِ والحرياتِ، وغيرِ ذلك عنَّا بغائب.
فعليكم أيها المؤمنون أن توطِّنوا أنفسَكم على احتمالِ المكارهِ، دون ضجرٍ، وانتظارِ الفرجِ دون مللٍ، ومواجهةِ الأعباءِ والصعابِ دون كللٍ، فإنَّ هذه سنةُ الله تعالى في عبادِه، ليَمِيزَ الخبيثَ من الطيِّبِ، قال الله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) سورة آل عمران:186.
وما أشدَّ حاجتَكم إلى الصَّبرِ يا ورثةَ الأنبياءِ عند تأخُّرِ النصرِ والمدَدِ من اللهِ، فإن النصرَ لا تشرُقُ شمسُه إلا بعدَ ليلٍ طويلٍ حالِكٍ مليءٍ بالشدائدِ والمحنِ، التي تدمعُ لهَوْلهِا الأبصارُ، وتبلغُ لشدَّتِها القلوبُ الحناجرَ، قال الله تعالى ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) سورة البقرة:214.
ومما يعينُك يا عبدَ اللهِ على الصبرِ في التعلُّمِ والدعوةِ والصَّدْعِ بالحقِّ أن تنظرَ إلى حُسنِ العاقبةِ، وعظيمِ الأجرِ، وما أعدَّ اللهُ تعالى للصابرين، فقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) سورة الزمر:10، وأنَّ الله سبحانه وتعالى معَك، ينصُرُك ويؤَيِّدُك، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) سورة البقرة:153.
ومما يعينُك أيضاً أن تَنتظرَ الفَرَجَ من اللهِ، فإن الفجْرَ لا يطلُعُ إلا بعدَ اشتدادِ ظلمةِ الليلِ، والعاقبةُ للمتقين.
ومما يعينُك أيضاً أن تتذكَّر حالَ السابقين الصادقين، من النبيِّين وغيرِهم، وما جرى لهم، وكيف كانتْ العاقبةُ لهم، فإن ذلك مما يثبِّتُك ويصبِّرُك، قال الله تعالى مخاطِباً نبيَّه صلى الله عليه وسلم : ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) سورة الأحقاف:35
واعلموا أيها المؤمنون أننا في هذه الأزمانِ المتأخرةِ من أشدِّ الناسِ حاجةً إلى الصبرِ، فإن الباطلَ انتعشَ وكثُرَ أعوانُه ودعاتُه، فتكالبت علينا الأعداءُ من كلِّ حَدَبٍ وصوبٍ، وقد أرشدَنا إلى ذلك نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والنسائيُّ والترمذيُّ وحسَّنه، وهو كما قال بمجموعِ طرُقِهِ: «فإنَّ مِن ورائِكم أيامَ الصبرِ، الصبرُ فيها مثلُ القبْضِ على الجَمْرِ، للعاملِ فيهم مثلُ أجرِ خمسين رجلاً، يعملون مثلَ عملِهِ» أخرجه أبو داود (4341)، والترمذي (3058)،من حديث أبي ثعلبة الخشني، وحسنه الترمذي.
وتذكَّروا أن الصبرَ والمجدَ لا يحصُلُ إلا بالتَّعبِ والكَدِّ
بِقَدْرِ الكَدِّ تُكتَسَبُ المعالِي ومَنْ طَلَبَ العُلا سَهرَ الليالِي ديوان الشافعي (90)