×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

 غزوة الأحزاب الخطبة الأولى  : إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.   أما بعد: فيا أيها المؤمنون! إن الله بعث محمدا  صلى الله عليه  وسلم  بين يدي الساعة بالسيف، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، فجاهد  صلى الله عليه  وسلم  في الله حق جهاده، بالقلب والجنان والدعوة والبيان والسيف والسنان، فكانت حياته كلها موقوفة على الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، فكان  صلى الله عليه  وسلم  بذلك أرفع الناس ذكرا، وأعظمهم عند الله قدرا، فقاتل  صلى الله عليه  وسلم  وقوتل، وأصاب وأصيب منه، هو وأصحابه رضي الله عنهم، فكان جهادهم، وكانت دماؤهم مشاعل نور وهداية، أخرج الله بها كثيرا من الناس من الظلمات إلى النور.  هم العصبة المثلى ولولا جراحهم *** لظل بهيم الليل كالموج عاتيا ولولاهم كانت ظلاما لأهلها *** ولكن هم فيها بدور و أنجم   أيها المؤمنون. إن من المعارك التي خاضها رسول الله  صلى الله عليه  وسلم  بنفسه غزوة الأحزاب، التي قص الله تعالى نبأها في كتابه، في سورة سميت باسم تلك الغزوة، وهي سورة الأحزاب، أظهر الله سبحانه وتعالى فيها من عظيم قدرته، وبديع صنعه، ولطيف فعله ونصره لأوليائه، وخذلانه لأعدائه، ما تطيب به قلوب المؤمنين المتقين، ففي السنة الخامسة من الهجرة في شهر شوال جاءت قريش، ومن معها من الأحزاب، على الصفة التي ذكرها الله تعالى في كتابه، حيث قال:﴿إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم)+++ سورة الأحزاب: 10.---؛ وذلك أن اليهود -عليهم لعنة الله- لما رأوا انتصار المشركين على أهل الإيمان يوم أحد، طمعوا في القضاء على الإسلام بالكلية، فانتشروا في أحياء العرب، يحرضونهم على غزو رسول الله  صلى الله عليه  وسلم  ويؤلبونهم عليه، ويعدونهم بالمؤازرة والنصر، فاستجابت قريش وغطفان وغيرها من قبائل العرب لهم، فكان من وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف مقاتل، يريدون أن يطفئوا نور الله بأسيافهم، والله يتم نوره ولو كره الكافرون، فلما سمع رسول الله  صلى الله عليه  وسلم  بمسيرهم إليه استشار أصحابه، فأشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق، ليحول بين العدو وبين المدينة، فأمر النبي  صلى الله عليه  وسلم  بحفر الخندق شمالي المدينة، فبادر المسلمون إلى ذلك، وشاركهم النبي  صلى الله عليه  وسلم  بنفسه في الحفر، فكان ينقل التراب يوم الخندق، حتى اغبر بطنه، وهو يقول:  والله لولا الله ما اهتدينا  *** ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا   *** وثبت الأقدام إن لاقينا+++ أخرجه البخاري (3034)، ومسلم (4771) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه--- وقد كان أيها المؤمنون في حفر النبي  صلى الله عليه  وسلم  هذا الخندق، من آيات نبوته، وعلامات رسالته، ما ازداد بها المؤمنون إيمانا، فمن ذلك:  أن هذه الغزوة كان فيها من النصب والجوع مالم يكن في غيرها، فاستمع إلى ما ذكره جابر  رضي الله عنه  من نبأ تلك الغزوة، قال  رضي الله عنه : «كنا يوم الخندق فعرضت كدية شديدة، فأخبروا بها النبي  صلى الله عليه  وسلم  فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر من شدة الجوع، فأخذ النبي  صلى الله عليه  وسلم  المعول فضرب في الكدية فعاد كثيبا أهيل، فقلت: يا رسول الله، ائذن لي إلى البيت ؟ فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي  صلى الله عليه  وسلم  شيئا ما كان لي في ذلك صبر، فعندك شيء؟ فقالت: عندي صاع من شعير، وعناق -وهي الصغير من المعز- فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم بالقدر، فجئت النبي  صلى الله عليه  وسلم  فقلت: يا رسول الله، طعيم لي، فقم أنت يارسول الله، ورجل أو رجلان قال: كم هو ؟ فذكرت له، فقال: كثير طيب، فدعا النبي  صلى الله عليه  وسلم  المهاجرين والأنصار، وقال: ادخلوا ولا تزاحموا، فجعل يكسر من هذا الخبز، ويجعل فيه شيئا من اللحم، فما زال كذلك حتى شبع المهاجرون والأنصار، وبقي بقية من ذلك الطعام، فقال: كلي هذا، وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة»+++ أخرجه البخاري (4101)---.  ومن الآيات أيها المؤمنون التي ظهرت في حفر هذا الخندق: ما أخرجه الإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله  صلى الله عليه  وسلم  بحفر الخندق قال: وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق، لا تأخذ فيها المعاول، قال: فشكوها إلى رسول الله  صلى الله عليه  وسلم  فجاء رسول الله  صلى الله عليه  وسلم  ، قال عوف: وأحسبه قال: وضع ثوبه، ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول فقال: باسم الله، فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال: باسم الله، وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: باسم الله، وضرب ضربة أخرى، فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا»+++ أخرجه أحمد (18219) قال الهيثمي: رواه أحمد، وفيه ميمون أبو عبد الله، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات. مجمع الزوائد (10138).---.  فاستبشر بذلك المؤمنون الصادقون، وتبلبل الواهنون المرتابون، فقال الذين في قلوبهم مرض: «ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا»+++ سورة الأحزاب: 12---.  فلما اجتمعت جحافل الكفر حول المدينة، وضيقوا عليها الخناق، اشتدت الحال بالمسلمين، وعظم عليهم الكرب، وزاد الأمر أن يهود بني قريظة نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي  صلى الله عليه  وسلم  ، فضاق الأمر بالمسلمين، كما قال الله تعالى: ﴿إذ جاءوكم من فوقكم﴾ ؛يعني: الأحزاب ﴿ومن أسفل منكم﴾ ؛يعني: يهود بني قريظة ﴿وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا  هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا)+++ سورة الأحزاب: 10 -11---، ومع شدة الكرب وعظم البلاء مازاد المؤمنون على أن قالوا: ﴿هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما)+++ سورة الأحزاب: 22--- ،أما المنافقون فقد قالوا: ﴿ ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا﴾ .  أيها المؤمنون. أقام المشركون محاصرين رسول  صلى الله عليه  وسلم  شهرا، ولم يكن بينهما قتال يذكر، لأجل ما حال الله به من الخندق بينهم وبين المسلمين، فأراد النبي  صلى الله عليه  وسلم  لما طال على المسلمين الخطب أن يصالح الكفار، إلا أن الصحابة رضي الله عنهم أبوا ذلك، لما شاورهم النبي  صلى الله عليه  وسلم .  فكان من بديع لطف الله، وعاجل فرجه أن صنع للمسلمين أمرا من عنده، خذل به أعداءه، وهزم جموعهم، ونصر به أولياءه، وأعز حزبه، فكان مما هيأ من ذلك أن نعيم بن مسعود رضي الله عنه كان من المشركين، فأسلم وجاء للنبي  صلى الله عليه  وسلم  فقال له: يارسول الله، إني قد أسلمت، فمرني بما شئت، فقال له النبي  صلى الله عليه  وسلم : «إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة»+++ دلائل النبوة (3|445)---، فأوقع  رضي الله عنه  الخلاف بين اليهود وحلفائهم من المشركين، فتخاذل الفريقان، وبدت علامات الشقاق والخلاف بينهم.  وكان من عظيم ماهيأه أيضا لأمة الإسلام أن أرسل على المشركين جندا من الريح، فقوضت خيامهم، وخربت بنيانهم، فلم تدع لهم قدرا إلا كفأته، ولا ظنبا إلا قلعته، وأرسل عليهم الملائكة فألقوا في قلوبهم الرعب والخوف، فلما بلغ الأمر مبلغه بقريش، صاح فيهم أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم –والله- ما أصبحتم بدار مقام ﴿ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ﴾+++ سورة الأحزاب: 25---.    الخطبة الثانية : أما بعد.   فقد سمعتم أيها المؤمنون نبأ هذه الوقعة، وخبر هذه الغزوة، التي حوت آيات بينة، ودروسا قيمة، فدروس هذه الوقعة وعبرها كثيرة، فسأشير إلى أهمها وأبرزها:  فمن أهم دروس هذه الغزوة: أن الله سبحانه  يدافع عن الذين آمنوا، كما قال جل ذكره: ﴿إن الله يدافع عن الذين آمنوا)+++ سورة الحج: 38---، فالله سبحانه نعم المولى ونعم النصير، يبتلي أولياءه ليميز الخبيث من الطيب، فإذا تبين أهل محبته وأهل دينه، وتميزت الصفوف جاءهم وعده، ووقع خبره ﴿إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)+++ سورة غافر: 51.---.  ومن دروس هذه الغزوة: حسن بلاء النبي  صلى الله عليه  وسلم  وأصحابه ؛ حيث إنهم صبروا على ماقدره الله تعالى عليهم، بقلوب ثابتة، وعزائم راسخة، فلم تستفزهم الكروب، ولم تقعدهم الخطوب، بل كانوا كلما اشتدت الكروب، وادلهمت الخطوب، زادهم ذلك إيمانا وتسليما.  وتصديق ذلك في هذه الغزوة قوله تعالى: ﴿ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما)+++ سورة الأحزاب: 22---  ومن دروس هذه الغزوة: أن المؤمنين إذا اجتهدوا في الدفاع عن دينهم، وجهاد أعداء الله، وأعداء رسوله  صلى الله عليه  وسلم ، وفعلوا قصارى طاقتهم في نصر الله ورسالته، فإن الله -سبحانه وتعالى- يكرمهم بعون منه وتأييد، فيصنع لهم ويهييء لهم من أسباب الغلبة والنصر، ويبعث لهم من جنود العز والتمكين، مالم يكن لهم على حساب، ويؤيدهم بجند من عنده، وما يعلم جنود ربك إلا هو، فإذا صدقنا إيماننا، وتمسكنا بديننا، والتزمنا بنهج نبينا في كل أمورنا، فلا يضرنا كيد الكائدين، ولا مكر الماكرين.  ومن دروس هذه الغزوة: شدة عداوة اليهود للإسلام وأهله، وأما نقضهم للعهود ونكثهم للمواثيق، فهذه من أخص خصائصهم على مر العصور، وكر الدهور، قال الله تعالى: ﴿أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون)+++ سورة البقرة: 100. ---. 

المشاهدات:4784

 غزوةُ الأحزابِ

الخطبة الأولى  :

إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.  

أما بعد:

فيا أيها المؤمنون! إن اللهَ بَعَثَ محمَّداً  صلى الله عليه  وسلم  بين يدَيِ الساعةِ بالسَّيفِ، حتى يُعبدَ اللهُ وحدَه لا شريك له، فجاهدَ  صلى الله عليه  وسلم  في اللهِ حقَّ جهادِه، بالقلبِ والجِنانِ والدعوةِ والبيانِ والسيفِ والسنانِ، فكانت حياتُه كلُّها موقوفةً على الدعوةِ إلى الله، والجهادِ في سبيلِ الله، فكان  صلى الله عليه  وسلم  بذلك أرفعَ الناسِ ذكراً، وأعظمَهم عند اللهِ قدراً، فقاتل  صلى الله عليه  وسلم  وقوتل، وأصابَ وأُصيبَ منه، هو وأصحابُه رضي الله عنهم، فكان جهادُهم، وكانت دماؤُهم مشاعلَ نورٍ وهدايةٍ، أخرج اللهُ بها كثيراً من الناسِ من الظلماتِ إلى النورِ. 
هم العصبةُ المثلى ولولا جراحُهُمُ *** لظلَّ بهيمُ الليلِ كالموجِ عاتِيا
ولولاهُم كانت ظلاماً لأهلِها *** ولكنْ هم فيها بُدُورٌ و أنجُمُ
 
أيها المؤمنون.
إن من المعاركِ التي خاضَها رسولُ اللهِ  صلى الله عليه  وسلم  بنفسِهِ غزوةَ الأحزابِ، التي قصَّ اللهُ تعالى نبَّأَها في كتابِه، في سورةِ سُمِّيَت باسمِ تلك الغزوةِ، وهي سورةُ الأحزابِ، أظهرَ اللهُ سبحانه وتعالى فيها من عظيمِ قدرتِه، وبديعِ صنعِه، ولطيفِ فعلِه ونصرِه لأوليائِه، وخذلانِه لأعدائِه، ما تطيبُ به قلوبُ المؤمنين المتقين، ففي السنةِ الخامسةِ من الهجرةِ في شهرِ شوالٍ جاءت قريشٌ، ومن معها من الأحزابِ، على الصفةِ التي ذكرَها الله تعالى في كتابِه، حيثُ قال:﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُم) سورة الأحزاب: 10.؛ وذلك أن اليهودَ -عليهم لعنة الله- لما رأوا انتصارَ المشركين على أهلِ الإيمانِ يومَ أُحدٍ، طمِعُوا في القضاءِ على الإسلامِ بالكليةِ، فانتشروا في أحياءِ العربِ، يحرِّضُونهم على غزوِ رسولِ الله  صلى الله عليه  وسلم  ويؤلبُونهم عليه، ويعِدُونهم بالمؤازرةِ والنصرِ، فاستجابت قريشٌ وغطفانُ وغيرُها من قبائل العرب لهم، فكان من وافى الخندقَ من الكفار عشرةُ آلافِ مقاتل، يريدون أن يُطفئِوا نورَ الله بأسيافِهم، واللهُ يتمُّ نورَه ولو كره الكافرون، فلما سمعَ رسولُ اللهِ  صلى الله عليه  وسلم  بمسيرِهِم إليه استشارَ أصحابَه، فأشارَ عليه سلمانُ الفارسي رضي الله عنه بحفرِ الخندقِ، ليحولَ بين العدوِّ وبين المدينةِ، فأمرَ النبيُّ  صلى الله عليه  وسلم  بحفرِ الخندقِ شماليَ المدينة، فبادرَ المسلمون إلى ذلك، وشاركَهم النبيُّ  صلى الله عليه  وسلم  بنفسِه في الحفرِ، فكان ينقلُ الترابَ يومِ الخندق، حتى اغبرَّ بطنُه، وهو يقول: 
واللهِ لولا اللهُ ما اهتدينا  *** ولا تصدَّقْنا ولا صلَّيْنا
فأنزِلَنْ سكينةً علينا   *** وثبِّت الأقدامَ إن لاقينا أخرجه البخاري (3034)، ومسلم (4771) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه
وقد كان أيها المؤمنون في حفرِ النبيِّ  صلى الله عليه  وسلم  هذا الخندقَ، من آياتِ نبوَّتِه، وعلاماتِ رسالتِه، ما ازداد بها المؤمنون إيماناً، فمن ذلك:
 أن هذه الغزوةَ كان فيها من النَّصَبِ والجُوعِ مالم يكن في غيرِها، فاستمع إلى ما ذكره جابرٌ  رضي الله عنه  من نبأِ تلك الغزوةِ، قال  رضي الله عنه : «كنا يومَ الخندقِ فعرضت كُديةٌ شديدةٌ، فأخبروا بها النبيَّ  صلى الله عليه  وسلم  فقال: أنا نازلٌ، ثم قام وبطنُه معصوبٌ بحجرٍ من شدةِ الجوعِ، فأخذ النبيُّ  صلى الله عليه  وسلم  المِعوَلَ فضربَ في الكُدية فعاد كثيباً أهْيَلَ، فقلت: يا رسولَ الله، ائذن لي إلى البيتِ ؟ فقلت لامرأتي: رأيتُ بالنبيِّ  صلى الله عليه  وسلم  شيئاً ما كان لي في ذلك صبرٌ، فعندك شيءٌ؟ فقالت: عندي صاعٌ من شعيرٍ، وعناقٌ -وهي الصغيرُ من المعِزِ- فذبحت العناقَ، وطحنت الشعيرَ، حتى جعلنا اللحمَ بالقدرِ، فجئتُ النبيَّ  صلى الله عليه  وسلم  فقلت: يا رسولَ اللهِ، طُعَيِّمٌ لي، فقُم أنت يارسولَ اللهِ، ورجلٌ أو رجلان قال: كم هو ؟ فذكرتُ له، فقال: كثيرٌ طيِّبٌ، فدعا النبيُّ  صلى الله عليه  وسلم  المهاجرين والأنصارَ، وقال: ادخلوا ولا تزاحموا، فجعلَ يكسَرُ من هذا الخبزِ، ويجعلُ فيه شيئاً من اللحمِ، فما زالَ كذلك حتى شبِعَ المهاجرون والأنصارُ، وبقي بقيةٌ من ذلك الطعامِ، فقال: كُلِي هذا، وأهدي، فإن الناسَ أصابتهم مجاعةٌ» أخرجه البخاري (4101)
ومن الآياتِ أيها المؤمنون التي ظهرت في حفرِ هذا الخندقِ: ما أخرجه الإمامُ أحمدُ عن البراءِ بن عازبٍ رضي الله عنه قال: «أمَرَنا رسولُ اللهِ  صلى الله عليه  وسلم  بحفْرِ الخندَقِ قال: وعرَضَ لنا صَخْرةٌ في مكانٍ من الخندقِ، لا تأخذ فيها المعاولُ، قال: فشكَوْها إلى رسولِ اللهِ  صلى الله عليه  وسلم  فجاءَ رسولُ اللهِ  صلى الله عليه  وسلم  ، قال عوف: وأحسبُه قال: وضعَ ثوبَه، ثم هبطَ إلى الصخرةِ، فأخذَ المعولَ فقال: باسمِ اللهِ، فضربَ ضربةً فكسر ثلثَ الحجرِ، وقال: اللهُ أكبر، أُعطِيتُ مفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لأُبصرُ قصورَها الحمْرَ من مكاني هذا، ثم قال: باسمِ اللهِ، وضرب أخرى فكسرَ ثلُثَ الحجرِ، فقال: اللهُ أكبر أعطيت مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لأُبصرُ المدائنَ، وأُبصرَ قصرَها الأبيضَ من مكاني هذا، ثم قال: باسم الله، وضربَ ضربةً أخرى، فقلعَ بقيةَ الحجرِ، فقال: اللهُ أكبر، أُعطيتَ مفاتيحَ اليمنِ، واللهِ إني لأُبصرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا» أخرجه أحمد (18219) قال الهيثمي: رواه أحمد، وفيه ميمون أبو عبد الله، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات. مجمع الزوائد (10138).
فاستبشر بذلك المؤمنون الصادقون، وتبلبَلَ الواهنون المرتابون، فقال الذين في قلوبهم مرضٌ: «مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا» سورة الأحزاب: 12
فلما اجتمعت جحافلُ الكفرِ حولَ المدينةِ، وضيَّقوا عليها الخناقَ، اشتدت الحالُ بالمسلمين، وعظُمَ عليهم الكربُ، وزادَ الأمرُ أن يهودَ بني قريظةَ نقضًوا العهدَ الذي بينَهم وبينَ النبيِّ  صلى الله عليه  وسلم  ، فضاقَ الأمرُ بالمسلمين، كما قال الله تعالى: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ ؛يعني: الأحزاب ﴿وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ ؛يعني: يهود بني قريظة ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا  هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) سورة الأحزاب: 10 -11، ومع شدَّةِ الكربِ وعِظمِ البلاءِ مازاد المؤمنون على أن قالوا: ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) سورة الأحزاب: 22 ،أما المنافقون فقد قالوا: ﴿ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ . 
أيها المؤمنون.
أقام المشركون محاصرين رسولَ  صلى الله عليه  وسلم  شهراً، ولم يكن بينهما قتالٌ يُذكرُ، لأجلِ ما حالَ اللهُ به من الخندقِ بينَهم وبينَ المسلمين، فأراد النبيُّ  صلى الله عليه  وسلم  لمَّا طالَ على المسلمين الخطْبُ أن يصالحَ الكفارَ، إلا أن الصحابةَ رضي الله عنهم أبوْا ذلك، لمَّا شاوَرَهم النبيُّ  صلى الله عليه  وسلم . 
فكان من بديعِ لطفِ الله، وعاجلِ فرجِه أن صنعَ للمسلمين أمراً من عندِه، خذلَ به أعداءَه، وهزَمَ جموعَهم، ونصرَ به أولياءَه، وأعزَّ حزبَه، فكان مما هيَّأ من ذلك أن نُعيم بن مسعود رضي الله عنه كان من المشركين، فأسلمَ وجاءَ للنبيِّ  صلى الله عليه  وسلم  فقال له: يارسولَ اللهِ، إني قد أسلمتُ، فمُرْني بما شئتَ، فقال له النبيُّ  صلى الله عليه  وسلم : «إنما أنت فينا رجلٌ واحدٌ، فخذِّلْ عنَّا ما استطعتَ، فإن الحربَ خُدعةٌ» دلائل النبوة (3|445)، فأوقعَ  رضي الله عنه  الخلافَ بين اليهودِ وحلفائِهم من المشركين، فتخاذلَ الفريقان، وبَدَتْ علاماتُ الشِّقاقِ والخلافِ بينهم. 
وكان من عظيمِ ماهيَّأه أيضاً لأمةِ الإسلامِ أن أرسلَ على المشركين جُنداً من الرِّيحِ، فقوَّضَتْ خيامَهم، وخرَّبت بنيانَهم، فلم تَدَعْ لهم قِدراً إلا كفأته، ولا ظنباً إلا قلعتْه، وأرسلَ عليهم الملائكةَ فألقوا في قلوبِهم الرُّعبَ والخوفَ، فلما بلغَ الأمرُ مبلغَه بقريشٍ، صاحَ فيهم أبو سفيان: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنكم –واللهِ- ما أصبحتم بدارِ مقامٍ ﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴾ سورة الأحزاب: 25
 
الخطبة الثانية :
أما بعد.  
فقد سمعتم أيها المؤمنون نبأَ هذه الوقعةِ، وخبرَ هذه الغزوةِ، التي حَوَت آياتٍ بينةً، ودروساً قيمةً، فدروسُ هذه الوقعةِ وعِبرُها كثيرةٌ، فسأُشِيرُ إلى أهمِّها وأبرزِها: 
فمن أهمِّ دروسِ هذه الغزوةِ: أن اللهَ سبحانه  يدافعُ عن الذين آمنوا، كما قال جلَّ ذكرُه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) سورة الحج: 38، فاللهُ سبحانه نِعْمَ المولى ونِعْمَ النصيرُ، يبتلي أولياءَه ليميزَ الخبيثَ من الطيِّبِ، فإذا تبيَّنَ أهلُ محبَّتِه وأهلُ دينِه، وتميزت الصفوفُ جاءَهم وعدُه، ووقعَ خبرُه ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) سورة غافر: 51.
ومن دروسِ هذه الغزوةِ: حسنُ بلاءِ النبيِّ  صلى الله عليه  وسلم  وأصحابِه ؛ حيث إنهم صبروا على ماقدَّره الله تعالى عليهم، بقلوبٍ ثابتةٍ، وعزائمَ راسخةٍ، فلم تستفزَّهم الكُروبُ، ولم تقعِدْهم الخطوبُ، بل كانوا كلما اشتدَّت الكروبُ، وادلهمت الخطوبُ، زادهم ذلك إيماناً وتسليماً.
 وتصديقُ ذلك في هذه الغزوةِ قولُه تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) سورة الأحزاب: 22 
ومن دروسِ هذه الغزوةِ: أن المؤمنين إذا اجتهدوا في الدفاعِ عن دينِهم، وجهادِ أعداءِ اللهِ، وأعداءِ رسولِه  صلى الله عليه  وسلم ، وفعلوا قصارى طاقتِهم في نصرِ اللهِ ورسالتِه، فإن اللهَ -سبحانه وتعالى- يكرمُهم بعونٍ منه وتأييدٍ، فيصنعُ لهم ويهيِّيءُ لهم من أسبابِ الغلبةِ والنصرِ، ويبعثُ لهم من جنودِ العزِّ والتمكينِ، مالم يكن لهم على حسابٍ، ويؤيِّدُهم بجندٍ من عندِه، وما يعلمُ جنودَ ربِّك إلا هو، فإذا صدَّقنا إيمانَنا، وتمسكَّنا بدينِنا، والتزمنا بنهجِ نبيِّنا في كلِّ أمورِنا، فلا يضرُّنا كيدُ الكائِدين، ولا مكرُ الماكرين. 
ومن دروسِ هذه الغزوة: شدةُ عداوةِ اليهودِ للإسلامِ وأهلِه، وأما نقضُهم للعهودِ ونكثُهم للمواثيقِ، فهذه من أخصِّ خصائِصِهم على مرِّ العصورِ، وكرِّ الدهورِ، قال الله تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) سورة البقرة: 100.
المادة السابقة
المادة التالية

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : أهمية الدعاء ( عدد المشاهدات85992 )
3. خطبة: التقوى ( عدد المشاهدات80483 )
4. خطبة: حسن الخلق ( عدد المشاهدات74769 )
6. خطبة: بمناسبة تأخر نزول المطر ( عدد المشاهدات61838 )
7. خطبة: آفات اللسان - الغيبة ( عدد المشاهدات56369 )
9. خطبة: صلاح القلوب ( عدد المشاهدات53356 )
12. خطبة:بر الوالدين ( عدد المشاهدات50922 )
13. فما ظنكم برب العالمين ( عدد المشاهدات50647 )
14. خطبة: حق الجار ( عدد المشاهدات46029 )
15. خطبة : الإسراف والتبذير ( عدد المشاهدات45575 )

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف