صلح الحـديبيةِ
الخطبة الأولى :
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
فيا أيها المؤمنون.
اتقوا اللهَ تعالى، واعتبروا بما في سيرةِ نبيِّكم صلى الله عليه وسلم من العِبَرِ والعظاتِ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) سورة الأحزاب (21).
أيها المؤمنون.
خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من المدينةِ إلى مكةَ، في شهرِ ذي القعدةِ، من السنةِ السادسةِ، ومعه نحوُ ألفِ وأربعمائةٍ من أصحابه رضي الله عنهم، فأحرمَ صلى الله عليه وسلم ومن معه من ذي الحليفةِ، فلما علمت قريشٌ بذلك جمعوا له جموعاً، ليصدُّوه عن البيتِ، فلما دنا صلى الله عليه وسلم من الحرمِ خلأت ناقةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم -؛أي: بركَتْ وأَبَت المسيرَ- فقال صلى الله عليه وسلم :«حبسها حابسُ الفيلِ» أخرجه البخاري (2529). –؛أي: حبسها اللهُ ربُّ العالمين لحكمةٍِ بالغةٍ- فقال صلى الله عليه وسلم :«والذي نفسي بيده، لا يسألوني خُطةً، يعظِّمون فيها حرماتِ اللهِ، إلا أعطيتُهم إياها» أخرجه البخاري (2529)..
ثم رجرج ناقتَه، فوثبت فعدلَ عن قريشٍ ونزلَ بأقصى الحديبيةِ، ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثَ إلى قريشٍ عثمانَ بنَ عفان رضي الله عنه ليخبرَهم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأتِ لقتالِ أحدٍ، إنما جاءَ معتمراً، فلما أبطأ عثمانُ على رسولِ اللهِ، وشاعَ بين المسلمين أن قريشاً قتلته، دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه إلى البيعةِ على القتالِ، وألا يفرُّوا إلى الموتِ، فجلس صلى الله عليه وسلم تحتَ شجرةٍ في الحديبية، وبايعه الناسُ، وفيها قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) سورة الفتح (181).
وبشَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه رضي الله عنهم ، فقال: «لا يدخلُ النارَ رجلٌ ممن بايعَ تحتَ الشجرةِ» أخرجه الترمذي (3860) ،وصححه. ثم إن عثمانَ رضي الله عنه لم يلبث أن رجعَ، ولما رأت قريشٌ تصميمَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على العمرةِ بعثت إليه بعضَ أشرافِها، فجاء عروةُ بن مسعودٍ الثقفي، فجعل يكلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، وكان كلما تكلَّمَ أخذَ بلحيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وكان المغيرةُ بن شعبةَ رضي الله عنه -ابنُ أخي عروةَ- واقفاً عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بسيفِه، فكان كلما مدَّ عروةُ يدَه ضربها بنعلِ السيفِ، وقال: "أخِّرْ يدَك عن لحيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ".
وكان مما رآه عروةُ شدةُ تعظيمِ الصحابةِ رضوان الله عليهم لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وانقيادِهم له، فلما رجعَ عروةُ إلى قريش قال لهم: "واللهِ لقد وفِدتُ على الملوكِ، كسرى وقيصر والنجاشي، فما رأيتُ مَلِكاً قط، يعظمه أصحابُه، مثلما يعظِّمُ أصحابُ محمدٍ محمداً، فواللهِ ما تنخَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامةً، إلا وقعتِ في يدِ أحدهم، فدَلَكَ بها وجهَه وجلدَه، وإذا أمرهم بأمرٍ ابتدروا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادوا يتقاتلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّموا خَفضوا أصواتَهم عندَه، وما يحدُّون النظرَ إليه تعظيماً له"، ثم أمرَهم بقبولِ مصالحةِ النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم جاء رجل آخر من كنانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما أُخبر بقدومه: ابعثوا الإبل المهداة بين يديه، فلما رآها الرجل قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدوا عن البيت، فلما رجع إلى قريش قال لهم: لقد رأيت الإبل قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت، ثم إن قريشاً بعثت سهيل بن عمرو ليصالح النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكاتبَ، فقال له : اكتبٍ:بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيلٌ: اكتب باسمِك اللهمَّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : اكتبْ: باسمك اللهم. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمدٌ رسولُ الله، فقال سهيل: لو كنَّا نعلمُ أنك رسولُ اللهِ ما صددناك عن البيتِ، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمدُ بنُ عبدِ الله، فقال رسولُ الله: واللهِ إني لرسولُ الله، وإن كذبتموني، اكتب: محمدُ بنُ عبدِ الله، وإنما وافقه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك تعظيماً لحرماتِ الله، ولما يترتبُ على هذا الصلحِ، من الخيرِ للإسلامِ والمسلمين، وكان من جملةِ ما في هذا الصلحِ أن يرجع النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، ومن معه عن مكةَ هذا العامَ، ويأتوا في العامِ المقبلِ، وأن من جاءَ إلى محمدٍ مسلماً من المشركين يردُّه إليهم، ومن جاءَ من المسلمين إلى قريشٍ لم يرده.
فاشتملَ هذا الصلحُ أموراً شقَّت على أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، حتى إن عمرَ رضي الله عنه قال: يا رسولَ الله،ِ ألَسْنا على الحقِّ وعدوُّنا على الباطلِ؟! قال: بلى، قال: فعلامَ نُعطي الدنيةَ في دينِنا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «إني رسولُ اللهِ، ولست أعصيه، وهو ناصري» أخرجه البخاري (2734)، ثم إن رسولَ اللهِ نحر هديَه، وحلق رأسَه، فلما رأى الصحابةُ ذلك، نحروا هديَهم وحلقوا رؤوسَهم، واغتموا لذلك غمًّا شديداً، فأنزلَ اللهُ سكينتَه على المؤمنين، وأثابهم فتحاً قريباً، فلم تمضِ أيامٌ طوالٌ حتى تبين للمسلمين خيرُ هذا الصلحِ، الذي سمَّاه اللهُ فتحاً مبيناً، وكانَ ذلك الفتحُ تمهيداً لفتحِ مكةَ، حيثُ تفرَّغَ النبيُّ في هذه المدةِ وأصحابُه للدعوةِ والبلاغِ، فدخل الناسُ في دينِ اللهِ أفواجاً، فلما نقضت قريشٌ العهدَ بعدَ سنتين منه جاءها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعشرةِ آلافِ مقاتلٍ، فالحمدُ لله الذي أعزَّ جندَه، ونصر عبدَه، وهزم أهلَ الشركِ وحدَه.
أيها المؤمنون! لقد كان في الغزوةِ من الآياتِ الباهراتِ: أن الصحابةَ رضي الله عنهم اشتكَوْا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قلةَ الماءِ، وكان بين يدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم إناءٌ صغيرٌ، يتوضأُ منه، فوضع النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدَه في الإناءِ، فجعل الماءُ يفورُ من بينِ أصابعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كأمثالِ العيونِ، فشرِبَ الصحابةُ رضي الله عنهم وتوضؤوا.
ومن الفوائدِ: تمامُ الانقيادِ لله ورسولِه، وهذا من أعظمِ دروسِ هذه الواقعةِ، فينبغي للمؤمنِ أن يسلِّم للهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم ، كما قال اللهُ تعالى:﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمـْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِـيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَـدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) سورة الأحزاب (36).،، وليعلمَ المؤمنُ أنه مهما بدا له أن الخيرَ في غيرِ مرادِ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم ، فإنما ذلك خيالٌ كاذبٌ، ووساوسُ من الشيطان.
ومن فوائدِ هذه الغزوة تعظيمُ الصحابةِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم .