غزوةُ تبوكَ
الخطبة الأولى :
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
فيا أيها المؤمنون.
إن من غزواتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم التي نوَّه بها القرآنُ العظيمُ غزوةَ تبوك، تلك الغزوةُ التي ميَّز اللهُ فيها بين المؤمنين الصادقين وبين المنافقين الكاذبين، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بلغه أن الرومَ النصارى يعُدُّون لقتالِ المسلمين، بعدما شرِقوا بانتصاراتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في جزيرةِ العربِ، بعد فتحِ مكةَ، فلم يرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بدًّا من التهيُّؤِ لهم، والاستعدادِ لقتالهِم مع شدةِ الوقتِ، من جدبٍ وحرٍّ وقلةِ الموارد، وبُعدِ الشُّقَّةِ وقوةِ العدو وطيبِ الثِّمارِ والظلالِ؛ فاستنفرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المؤمنين لملاقاةِ العدوِّ والخروجِ إليه، والإعدادِ لذلك في شهرِ رجبٍ من السنةِ التاسعة للهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم : «من جهَّز جيشَ العسرةِ، فله الجنة» أخرجه البخاري (2626) .
فتميزت المواقفُ، وبدا ما طوته الصدورُ، وتجلت طوايا النفوسِ، وبليت السرائرُ، فظهر مكنونُ الضمائر، وانقسم الناسُ، فأما المنافقون، فإنهم لما أعلن النبيُّ صلى الله عليه وسلم وجهته أنه منطلق إلى تبوكَ قالوا لأهلِ الإيمان: أتحسبون جلادَ بني الأصفر -؛أي: الروم- كقتالِ العربِ بعضِهم بعضاً؟!، والله لكأنَّا بكم غداً، مقرَّنين في الحبال، ويقولون للناس: لا تنفروا في الحرِّ؛ تثبيطاً وإرجافاً، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ومن هذا المعسكرِ معسكرِ النفاق، جاءت طائفةٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسون للقعودِ أعذاراً باردة، تنبئ عن ضعفِ الإيمانِ في قلوبهم وقوةِ النفاق، وكان من تلك الأعذارِ الكاذبةِ ما اعتذر به الجَدُّ بنُ قيس، أحدُ المنافقين، حيث قال لما عُرض عليه الخروج: يا رسولَ الله، ائذن لي ولا تَفتنِّي، فواللهِ، لقد عرِف قومي أنه ما من رجلٍ، أشدَّ عُجْباً بالنساءِ منِّي، وإني أخشى إن رأيت نساءَ بني الأصفر -؛أي: الروم- ألا أصبر، فكذَّبه اللهُ تعالى وفضحَه، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) سورة التوبة (49).
أما أهلُ التقوى والإيمان، فتسابقوا في الطاعةِ والإحسانِ، فجاهدوا بأموالهم وأنفسِهم، فجاء عثمانُ بن عفان رضي الله عنه بثلاثمائةِ بعيرٍ مجهزةٍ، وجاء بمالٍ كثيرٍ من الذهبِ، فصبَّه في حجرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «ما على عثمانَ ما عمِلَ بعدَ اليومِ» أخرجه أحمد (20107)، والترمذي (3701) وحسنه..
وجاء أبو بكر رضي الله عنه بمالِه كلِّه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل أبقيت لأهلك شيئاً؟ فأجاب أبو بكر رضي الله عنه: أبقيت لهم اللهَ ورسولَه صلى الله عليه وسلم أخرجه الترمذي (3675)، وأبو داود (1680)، والحديث صححه الترمذي..
وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وتسابق المؤمنون في بذل الكثير والقليل، كلٌّ حسب طاقته واستطاعته، ومن خلت يده من المال لم يبخل بدموعه.
أما المنافقون الكاذبون، فشحَّت قلوبُهم، وجفَّت أيديهم، وانطلقت ألسنتُهم في أهلِ الإيمانِ همزاًُ ولمزاً، سُخريةً وطعناً، فإذا جاء المؤمنُ بالمالِ الكثيرِ قالوا: ما أرادَ هذا إلا الفخرَ والرياءَ، وإذا جاء المؤمنُ بالقليلِ قالوا: إن اللهَ لغنيٌّ عن صدقةِ هؤلاء، قال اللهُ تعالى في المنافقين: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة التوبة (79). ،وهكذا هُم في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، لا يرقبون في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمةٍ.
ثم إن أقواماً تشوَّقوا للخروجِ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، لكنَّهم لم يجدوا ما يحملهم في هذا السفرِ البعيدِ الشاقِّ، فجاؤوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليحمِلَهم، فلم يجدْ ما يحملُهم عليه، تولَّوْا من عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وأعينُهم تفيضُ من الدَّمعِ؛ حزَناً ألا يجدوا ما ينفقون.
هذا وهم معذورون عندَ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم !!
أيها الناس.
خرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في حرٍّ شديدٍ، وكربٍ عظيمٍ؛ طاعةً لله، ونصرةً لدينِه ورسولِه صلى الله عليه وسلم ، وفرِحَ المخلَّفون من المنافقين بمقعدِهم خِلافَ رسولِ الله ، وكرهوا أن يجاهدوا في سبيلِ اللهِ بأموالِهم وأنفسِهم، وكان ممن تخلَّف أولاً أبو خيثمةَ، فجاء ذاتَ يومٍ إلى بيتِه بعد خروجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، جاءَ وقد هيَّأ له أهلُه طعاماً، وظلاًّ بارداً، فاستيقظ قلبُه، وقال لنفسه معاتباً: أبو خيثمة في ظلٍّ باردٍ، وطعامٍ مهيَّئٍ، وامرأةٍ حسناءَ، في مالِه مقيمٍ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الشمسِ والرِّيحِ والحرِّ؟ واللهُ ما هذا بالنَّصَف -؛أي: ما هذا بالعدلِ ولا الإنصافِ- فأعدَّ رحلَه، ولحِق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد نزلَ في تبوكَ، فلما أقبلَ عليهم أبو خيثمة، قال الناس: هذا راكبٌ على الطريق مقبلٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :كن أبا خيثمةَ، فقالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمةَ! فجاء إلى رسولِ اللهِ، وأخبره الخبرَ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له.
أيها المسلمون..
بلغ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تبوكَ بعد مصاعبَ، ومشاقٍّ عظيمةٍ، فلم يلقَ فيها كيداً، ولم يواجه عدوًّا، فإن اللهَ تعالى ألقى في قلوبِ الروم -مع كثرةِ عددِهم وعُدَّتهم- الرعبَ، فتحصَّنوا في الشامِ، ولم يخرجوا للقاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وكفى اللهُ المؤمنين القتالَ، وكان الله قوياً عزيزاً.
فرجع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن معه منصورين مؤيَّدين، وفي رجوعِه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "إن في المدينةَ أقواماً، ما سِرْتم مسيراً، ولا قطعتم وادِياً إلا كانوا معكم". فقالوا: يا رسولَ اللهِ، وهم بالمدينةِ؟ قال: وهم بالمدينةِ، حبَسَهم العذرُ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
أيها المؤمنون..
ولما دخل رسول الله المدينةَ، بدأَ بالمسجدِ على عادتِه، ف صلى فيه ركعتين، ثم جلسَ للناسِ، فجاء المخلفون يعتذرون، فقبل منهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم واستغفرَ لهم، ووكَّل سرائرَهم إلى الله.
أما كعبُ بن مالكٍ وصاحباه رضي الله عنهم، وهم الذين تأخرَّت توبةُ اللهِ عليهم لصدقِهم، حيث لم يعتذِروا بشيءٍ، فتابَ اللهُ عليهم بعد بلاءٍ وتمحيصٍ، ضاقت فيه عليهم الأرضُ بما رحُبَت، وضاقت عليهم أنفُسُهم، وظنُّوا ألا ملجأَ من اللهِ إلا إليه، فتابَ عليهم وعفا عنهم، أما المنافقون الكاذبون فقد فضَحَهم اللهُ في سورةِ التوبةِ، وقال لرسولِه صلى الله عليه وسلم : ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) سورة التوبة (80). ، نعوذُ بالله من الخذلان، ونسأله السلامة والفوز والرضوان.
الخطبة الثانية :
أما بعد.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، فإنه من يتقِ اللهَ يجعل له من أمره يسراً.
أيها المسلمون.
لقد سمعتم في الخطبةِ الأولى شيئاً مما جرَى في هذه الغزوةِ العظيمةِ، غزوةِ تبوكَ، وقد حَوَتْ هذه الغزوةُ دروساً عديدةً، وعِبراً كثيرةً، إلا أن أبرزَها وأظهرَها: ما جلَّته سورةُ التوبة، واعتنت به، ألا وهو موقفُ المنافقين، فسورةُ التوبةِ فضَحَت المنافقين، وبيَّنت صفاتِهم وأفعالَهم حتى سميت بسورة "الفاضحة"، فالنفاقُ أيها المؤمنون من أخطرِ ما يحاربُ الإيمانَ وأهلَه؛ ولذلك قال الله تعالى لرسوله بعد ذكر صفاتهم: ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) سورة المنافقون (4) .
ألا، وإن من أبرزِ صفاتِ المنافقين، وقبيحِ صنعِهم في هذه الغزوةِ الكذبَ، فإن اللهَ تعالى قد شهِدَ عليهم به في مواضعَ عديدةٍ، منها هذه الغزوةُ حيث قال عنهم في اعتذارِهم عن الخروجِ: ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) سورة التوبة (42). .
ومن صفاتهم: إشاعةُ الفسادِ والشرِّ والفتنةِ بين المسلمين، قال الله تعالى: ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ -؛أي: بخروجهم- إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ –؛أي: لأسرعوا في الفسادِ بينكم- يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) سورة التوبة (47).
ومن صفاتهم: كراهةُ انتصار الحق وأهله، وفرحُهم بانكسارِ الدين وحملته: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) سورة التوبة (50) ،وقال تعالى: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) سورة آل عمران (120). .
ومن صفاتهم: الكفرُ باللهِ ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وإضاعةُ الصلواتِ بتركِها والتكاسلِ عنها، وكراهيةِ الإنفاقِ في سبيلِ الله، قال الله عنهم: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) سورة التوبة (54).
ومن صفات المنافقين: الاستهزاءُ باللهِ ودينِه ورسولِه والمؤمنين، قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ.لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) سورة التوبة (65-66) .
أيها المؤمنون.
هذا شيءٌ يسيرٌ من صفاتِ المنافقين، ذكره اللهُ تعالى في كتابِه، قرآناً يُتلى إلى يومِ القيامةِ تحذيراً للمؤمنين وتنبِيهاً، فاحذرُوهم وتنبَّهوا لهم، فإن معرفةَ صفاتِهم تقي أهلَ الإيمانِ شرَّهم وكيدَهم، واللهُ لا يصلح عملَ المفسدين، وهو جلَّ وعلا من ورائهم محيطٌ، ولا يحيقُ المكرُ السيئُ إلا بأهله.