أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه
الخطبة الأولى :
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
أيها المؤمنون.
إن اللهَ اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم على الأوَّلين والآخِرين، واصطفى له خيرَ الناسِ بعد النبيين، فجعلهم أصحابَه ﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ سور البقرة (105) ،فأصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هم خيرُ الأمةِ، وأعظمُهم فضلاً، وأعمقُهم علماً، وأصدقُهم إيماناً، وأبرُّهُم قلوباً، لا يرتابُ في ذلك العالِمُ بأخبارِهم، المطالِع لسيرهم، فهم مصابيحُ الدجى، وأئمةُ الهدى، شهدوا الوحيَ والتنزيلَ، وعلموا التفسيرَ والتأويلَ، السابقون إلى الفضائلِ والمكرماتِ، والمتبوِّئُون في الآخرةِ أعاليَ الجنات ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ سورة الفتح (29)، فلا خيرَ إلا في سبيلِهم، لا يحبُّهم إلا مؤمنٌ، ولا يبغضُهم إلا منافقٌ.
أيها المؤمنون.
أصحابُ رسولِ الله هم خيرُ قومٍ ومعشرٍ، رضي الله عنهم ورضوا عنه، إلا أن أفضلَهم منزلةً، وأعلاهم مكانةً، صدِّيقُ هذه الأمةِ أبو بكر عبدُ اللهِ بنُ عثمانَ رضي الله عنه ، السابقُ إلى الإسلامِ والإيمانِ، فهو أولُ مَن آمن من الرِّجالِ.
خـيرُ البريةِ أتقاها وأعدلُها ***بعدَ الـنبيِّ وأوفــاها بما حملا
والثاني التالي المحمودُ مشهدُه *** وأولُ الناسِ منهم صدَّق الرسلا ديوان حسان بن ثابت،و ألفية العراقي في السيرة (ا|5)
أبو بكر الصديقُ، صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهليةِ والإسلامِ، وأعظمُ الصحابةِ اجتماعاً برسولِ الله، ليلاً ونهاراً، حضراً وسفراً، فقد لازمَ أبو بكر رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، حياتَه كلَّها، فكان معه في مكةَ مُعيناً ونصيراً، وكان معه في الهجرةِ إلى المدينةِ رفيقاً شفيقاً، وكان معه في المدينةِ عَضيداً وزيراً، شهدَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم المشاهدَ والمعاركَ كلَّها، وشهد اللهُ له بالصحبةِ في كتابِه، وتلك منقبةٌ عظيمةٌ، وفضيلةٌ شمَّاءُ، فقال الله تعالى: ﴿إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) سورة التوبة (40) .
أيها المؤمنون.
أبو بكر صاحبُ الفضائلِ والمناقبِ، حِبُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وخاصَّتُه.
فكان حبَّ رسولِ الله قد علموا *** من البريةِ لم يعدلْ به رجلا ديوان حسان بن ثابت(162)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من أَمَنِّ الناسِ علي في صحبتِه ومالِه أبا بكر، ولو كنت متَّخِذاً خليلاً لاتخذتُ أبا بكر خليلاً، ولكنه أخي وصاحبي» أخرجه البخاري (446) ، ومسلم (4390) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال صلى الله عليه وسلم مُشِيداً بأبي بكر رضي الله عنه :«إن اللهَ بعثَني إليكم فقلتم:كذبتَ، وقال أبو بكر: صدَقَ، وواساني بنفسِه ومالِه، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟» أخرجه البخاري (3388 ) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
أيها المؤمنون.
إن أبا بكر رضي الله عنه لم يحصِّل تلك المنزلةَ العاليةَ، والمكانةَ الرفيعةَ، إلا بجدٍّ وإخلاصٍ وجهادٍ، همَِّةٌ عاليةٌ؛ رغبةٌ صادقةٌ؛ أعمالٌ صالحةٌ؛ يدٌ باذلةٌ؛ عينٌ باكيةٌ، ويجمع ذلك كلَّه قلبٌ صادقٌ، ونفسٌ زاكيةٌ في طلبِ ما عند الله، جادةٌ صادقةٌ، روى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوماً : «من أصبحَ منكم اليومَ صائماً ؟ قال أبو بكر : أنا ، فقال رسول الله : فمن تبِعَ منكم اليومَ جنازةً ؟ قال أبو بكر : أنا،قال رسولُ الله : فمن أطعمَ اليومَ منكم مسكيناً ؟ قال أبو بكر : أنا ، قال رسول الله : فمن عادَ منكم اليومَ مريضاً ؟ قال أبو بكر : أنا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخلَ الجنةَ»"صحيح مسلم" (1707) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. .
أيها المؤمنون.
عند الصباحِ يحمَدُ القومُ السَّرى، فأبو بكر السَّابقُ إلى الخيراتِ يُدعى يومَ القيامةِ من أبوابِ الجنة الثمانيةِ.
أيها المؤمنون.
أبو بكر رضي الله عنه أعظمُ الأمةِ بعد رسولِ اللهِ صبراً، وأثبتُهم يقيناً، وأعمقُهم إيماناً، وشواهدُ ذلك كثيرةٌ عديدةٌ، فقد ثبَّت اللهُ بأبي بكر صحابةَ رسولِ اللهِ رضي الله عنهم لما طاشت عقولُهم، وارتجت أفئدتُهم، وزُلزلت أقدامُهم عند موتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فقام أبو بكر رضي الله عنه ، فحمِدَ اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: ألا من كان يعبدُ محمداً، فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد اللهَ، فإن الله حيٌّ لا يموت، وقرأ عليهم قولَ الله تعالى : ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ سورة الزمر (30) ، وقول الله تعالى : ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ سورة آل عمران (144)، والحديث أخرجه البخاري (3394) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فكشف اللهُ به عنهم الاضطرابَ، وثابَ الناسُ بكلامِه وتوجيهِه إلى الجادةِ والصوابِ.
أيها المؤمنون! أبو بكر جبلٌ شامخٌ، لا تزعزعُه العواصفُ، ولا تستفزُّه الأزماتُ، رابطُ الجأشِ، سديدُ الرأيِ، فما أن ذاعَ نبأُ موتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتدَّ أحـياءٌ من العربِ؛ ومنعَ قومٌ الزكاةَ، ونجَمَ النفاقُ، وتربَّص اليهودُ والنصارى، فكان خطْباً جللاً؛ وحدثاً جسيماً، تنهَّد له الجبالُ الراسياتُ، فقال أبو بكر: أنا لها، أنا لها، لأقاتلن من فرَّقَ بين الصلاةِ والزكاةِ، فبعث البعوثَ، وجهز الجيوشَ، وقاتل المرتدين ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً﴾ سورة الأحزاب (25) ،وثبَّت اللهُ التوحيدَ في جزيرةِ العربِ بالصِّدِّيق، وقصم فيها فقارَ الشِّركِ والوثنيةِ، فرضي اللهُ عنك يا أبا بكر، وجزاك عن الإسلامِ والمسلمين خيرَ الجزاء، وجمعنا بك في جناتِ النعيم .
أيها المؤمنون.
هذه ومضاتٌ ولمحاتٌ من سيرةِ الصِّدِّيقِ، وهي قليلٌ من كثيرٍ، وغيضٌ من فيضٍ، فخِلال أبي بكرٍ معلومةٌ مشهورةٌ: زهدٌ في ورعٍ، بكاءٌ في خشيةٍ، بذلٌ وعطاءٌ، صبرٌ وجهادٌ؛ صحبةٌ وهجرةٌ، خشية وإنابة؛ حزمٌ وبصيرة؛ صدقٌ وإحسانٌ.
وإذا استطالَ الشيءُ قامَ بنفسه *** وصفاتُ ضوءِ الشمس ِتذهب باطلا حماسة الظرفاء (42)
الخطبة الثانية :
أما بعد.
فالزموا عبادَ اللهِ وصيةََ ربٍّ رحيمٍ، قال لكم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) سورة آل عمران (102) ،فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واقرؤوا سيرَ الصالحين السابقين واللاحقين؛ فإن في قصصِهم وسِيَرِهم عبرةً وعظةً، ينشئُ الله بها أمثالَهم
لعلَّ في أمـةِ الإســـلامِ نابتةً *** تجلو لحاضرِها مِـرْآةَ ماضيها
حتى ترى بعضَ ما شادت *** من الصُّروحِ وما عاناه بانِيها
اعتبروا عبادَ الله، بسِيَرِ صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لتعرفوا فضلَهم وسابقتَهم، وليرسخَ في قلوبِكم حبُّهم، وينشطَ فيها صدقُ الرغبةِ في التأسِّي بهم، ولتعلموا عظمَ جرمِ الرافضةِ الذين كفّروا صحابةَ رسولِ اللهِ وعابُوهم وسبُّوهُم .