آلام وآمال
الخطبة الأولى :
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
فاتقوا الله عباد الله، فقد أوصاكم بتقواه، واشكُروه على أن اختارَكم على العالمين، فجعَلَكم من أتباعِ خاتمِ النبيين وإمامِ المرسلين نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، في وقتٍ اندرست فيه أعلامُ الهدى، وكثُرَ فيه أهلُ الباطلِ والفسادِ، ونفقت فيه بضاعةُ أهلِ الإباحيةِ والإلحادِ، وراجت فيه سوقُ الزندقةِ والنفاقِ عند أكثر العبادِ، تفشَّت فيه البدعُ والحادثاتُ، فلبست الأمةُ فتنٌ، رَبَا فيها الصغارُ، وفنِيَ عليها الكبارُ، قلَّ الفقهاءُ والعلماءُ والصلحاءُ، وكثُر الأدعياءُ والقرّاءُ، فظهر صدقُ ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم مما ستقع فيه الأمةِ من الانحرافاتِ والمنكرات والمخالفاتِ.
فمن ذلك: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم الذي أمضى أكثرَ دعوتِه يحذِّر من الشركِ ويدعو إلى التوحيدِ، أخبر أن الشركَ سيقعُ في الأُمَّةِ فقال: «لا تقومُ الساعةُ حتى يلحقَ حيٌّ من أمَّتي بالمشرِكين، وحتى تعبدَ فِئامٌ من أمَّتي الأوثان» أخرجه أبو داود (4252)، والترمذي (2219)، وابن ماجه (3952) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2654) وها هو صدقُ ما أخبرَ به صلى الله عليه وسلم ،فإن فِئاماً من الأمةِ يبنون القبابَ على القبورِ، ويعمِّرون المشاهدَ والأضرحةَ، يدعون غيرَ الله ويعبدون الأمواتَ ويذبحون لهم القرابين، وينذِرون لهم النذورَ، يُعلون أعلامَ الشركِ، ويطمسون مناراتِ التوحيدِ.
ومما وقعَ في الأمةِ وقد أخبرَ به صلى الله عليه وسلم : متابعةُ اليهود والنصارى والتشبهُ بهم والأخذُ عنهم، ففي "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لتتبعن سَننَ من كان قبلَكم حذوَ القُذَّةِ بالقذةِ حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ » صحيح البخاري" (7320)، ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ؟
والأمة اليومَ تتسابقُ وتتسارعُ في التبعيَّةِ لليهودِ والنصارى والتشبُّهِ به، حتى أصبحَ تقليدُهم ومضاهاتُهم في سلوكِهِم وأفكارِهِم وأخلاقِهِم ونُظُمِهِم واقتصادياتِهم وسياساتِهم معيارَ التحضُّرِ والتقدمِ والتمدُّنِ عند كثيرٍ من المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأخبرنا أيضاً صلى الله عليه وسلم أن الأمةَ ستضطربُ موازينُها وتنتكِسُ مقاييسُها وتُغشُّ معاييرُها، فقال صلى الله عليه وسلم :«سيأتي على الناسِ سنواتٌ خدَّاعاتٌ، يُصدَّق فيها الكاذبُ ويُكذَّب فيها الصادقُ، ويُؤتمنُ فيها الخائنُ، ويخوَّنُ فيها الأمينُ، وينطِقُ فيها الرُّوَيبِضةُ، قيل: وما الرُّوَيبِضةُ؟ قال: الرَّجُلُ التَّافِهُ يتكلَّمُ في أمرِ العـامَّةِ» أخرجه ابن ماجه (4036)، والحاكم (8493 )وصححه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
ومما أخبرَ به صلى الله عليه وسلم : أن الأمةَ ستدعُ الجهادَ وتأخذُ أسبابَ الضعفِ والرِّقادِ، فقال صلى الله عليه وسلم : «إذا تبايعتُم بالعِينةِ، وأخذتم أذنابِ البقرِ ورضيتم بالزرعِ وتركتُم الجهادَ سلَّط اللهُ عليكم ذلاً لا ينـزِعُه حتى ترجعوا إلى دينِكم» أخرجه أبو داود (3462) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والحديث صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1389).
وهاهي الأمةُ رَكَنَتْ إلى الدُّنيا وأعرَضَتْ عن الآخرةِ، هَجَرَتْ ظهورَ الخيلِ التي عُقِد في نواصيها الخيرُ إلى يومِ القيامةِ، وأخَذَتْ أذنابَ البَقَرِ، فسلَّطَ اللهُ عليها الذُّلَّ الموعودَ، حتى تجرَّعت كؤوسَ الذُّلِّ والهوانِ والصِّغارِ من أذلِّ الخلقِ يهود، الذين ضُرِبَتْ عليهِم الذلةُ والمسْكَنةُ وباؤوا بغضبٍ على غضبٍ حتى غدَت كما قال الأول:
ويُقضى الأمرُ حينَ تغيبُ تيمٌ *** ولا يستأذنون وَهُمْ شهودُ خزانة الأدب 3/27.
هذا بعضُ ما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه سيقعُ في الأمةِ، وهو وللأسفِ جزءٌ من واقعِها اليومَ لا يمكن إغفالُه، فالأمةُ اليومَ تصطلي بنارِ الوهَنِ والضعف والغفلةِ من أبنائِها، و بنارِ الكيدِ والمكرِ والتخطيطِ والتشويه والتدمير والمسخِ من أعدائِها، فالأزماتُ والكروبُ تحدِقُ بها من كل جانبٍ، فالحقُّ في أمتِنا ضعيفُ الشوكةِ مهيضُ الجناحِ؛ لذا فإن الناظرَ لحالِ أمتِنا اليومَ قد تعتريه مشاعرُ اليأسِ والقنوطِ من ابتعاثِ هذه الأمة وحياتها ،وقد تنتابه مشاعر الإحباط من أن تعود هذه الأمة إلى سابق عزها وسالف مجدها ومكانتها.
ولكن هذا الشعورَ وهذه الهواجسَ والوساوسَ سَرَعانَ ما تتبدَّدُ وتنقشعُ وتزولُ وتضمحلُ عندما ندركُ أن الله وَعَدَنا بحفظِ دينِه كما قال تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ سورة الحجر:9. فهذه الأمة محفوظةٌ بحفظ رسالتِها ودينِها وكتابها، فهي باقيةٌ ما بقيَ الليلُ والنهارُ.
ووَعدَ اللهُ هذه الأمةَ أن لا يجمعَها على ضلالةٍ، وأنها مهما ضعُفَت وبعُدَت وأعرضَت عن ذكرِه ودينِه سبحانه، فلا تزالُ فيها طائفةٌ تحملُ هذا الدِّينَ، هي منارٌ للسائرين ودليلٌُ للحائرين وملاذٌ للمستضعفين، يقومون لله بالحجةِ ويدعون إليه على بصيرةٍ، يبلغون رسالاتِ الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا اللهَ، فمما تواتَرَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قوله: « لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي على الحقِّ ظاهرين إلى يومِ القيامةِ» أخرجه مسلم (156) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري من حديث معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يزال من أمتي أمةٌ قائمةٌ بأمرِ اللهِ، لا يضرُّهم من خذَلهم ولا من خالفَهم حتى يأتيَهم أمرُ اللهِ وهم على ذلك» أخرجه البخاري (3641). جعلنا الله وإياكم منهم.
ومما يسرِّي عن المؤمنين الصادقين الذين تقرَّحَت قلوبُهم وتفتقت أفئدتُهم مما نزلَ بالأمةِ من المآسي والخطوبِ أن يعلموا أن الإسلامَ دينُ اللهِ، وأنه ليس أحدٌ أغيرَ من اللهِ على دينِه أن يُذلَّ أو يُمتهن، ولا على أوليائِه أن يُعذَّبوا أو يُقهَرُوا، وهو سبحانه وتعالى تكفَّلَ بنصرِ دِينِه وإظهارِه على كلِّ دينٍ، قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ سورة التوبة: 33..
وقد بشَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك فقال فيما أخرجه مسلم وغيره عن ثوبانَ رضي الله عنه: «إن الله زوى لي الأرض – أي: جمعَها وضمَّها- فرأيتُ مشارِقَها ومغاربَها، وإن مُلكَ أمَّتي سيبلغُ ما زوى لي منها» أخرجه مسلم (2889). .
وقال صلى الله عليه وسلم مبشِّراً أمَّتَه فيما أخرجه أحمدُ وغيرُه: (ليبلُغنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ الليلُ والنهارُ، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله اللهُ هذا الدِّينَ، بعزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ، عزّاً يعز اللهُ به الإسلامَ، وذلّاً يذِلُّ به الكفرَ» أخرجه أحمد (16509) من حديث تميم الداري رضي الله عنه، والحديث صححه الهيثمي في مجمع الزوائد (9807).
وما أجمل ما قاله ابن القيم رحمه الله في نونيته:
فاللهُ ناصـرُ ديـنـِه وكـتابِه*** والله كافٍ عـبدَه بأمانِ
لا تخشَ من كيدِ العدوِّ ومكرِهم *** فقتالُهم بالكذبِ والبهتانِ
واثبُتْ وقاتلْ تحتَ راياتِ الهدى *** واصبرْ فنصرُ اللهِ ربِّك دانِ
والحقُّ منصورٌ وممتَحَـنٌ فـلا *** تعجبْ فهذي سنةُ الرحمنِ
لكنما العُقبى لأهلِ الـحقِّ إنْ فا *** تتْ هنا كانت لدى الديانِ القصيدة النونية (16).
الخطبة الثانية :
أما بعد.
فمن بشائرِ الخير التي بشر بها نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم أمتَه ما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن اللهَ يبعثُ لهذه الأمةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يجدِّدُ لها دينَها»"سنن أبي داود" (4291) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2755). ، فكلما أصاب الأمةَ الضعفُ والوهنُ، وقل تمسُّكُها بدينِ الله تعالى بعث اللهُ لها من يردُّها إلى جادةِ الطريقِ، ويعيدُها إلى الصراط المستقيم.
وإن من بشائرِ الخيرِ وبوارقِ الأملِ التي تشعُّ في النفوسِ الفرحَ والسرورَ، وتلبسها لباسَ البهجةِ والحُبورِ، هذه الجذوةُ التي تلوحُ في الأفقِ، تشرقُ كالفجرِ والتي يسمونها الصحوةَ، وهي حقيقةُ تجديدٍ وبعثٍ لهذا الدِّين، أهلُها من الغرسِ الموعودِ الذي بشَّر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، ففي "سنن ابن ماجه" بسند جيد عن أبي عنبة الخولاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يزال ُاللهُ يغرسُ في هذا الدِّينِ غرساً يستعملُهم في طاعتِه»"سنن ابن ماجه "(8) وصححه الكناني في مصباح الزجاجة (4).، فأهلُ الصحوةِ هم غرسُ اللهِ، وهم حُرَّاسُ الدِّين وحُماتُه، قبلوا شريعة الله قولاً وفعلاً، وحرسوا سنةَ نبيه حفظاً وعملاً، قوامون بأمرِ الله، عن الدِّين ينافحون، ودونَه يناضلون، ينفون عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين.
هدمَ اللهُ بهم البدعَ المحدثةَ للمذاهبِ الضالة والآراءِ المنحرفة، صاحوا بأعلى أصواتهم ينادون بالعودةِ إلى الكتابِ والسنةِ والتمسكِ بهما في العقائدِ والأحكامِ، فمَنَّ الله تعالى على كثيرٍ من المسلمين فاستجابوا لدعاةِ الإيمانِ مع كثرةِ العوائقِ والعقباتِ، فعاد قِطاعٌ عريضٌ من الأمةِ إلى الله تعالى، فحيثما توجَّهتَ رأيت رُجوعاً خاشعاً خاضعاً لله تعالى، ووجدت نفوساً متعطشةً إلى الدِّين وأهلِه، مشتاقةً إلى الإسلامِ ورجالِه، بعد أن أضناها طولُ السَّرى وراءَ مناهجِ الكفرِ والإلحادِ، وأرهقَها طولُ السعي وراءَ السراب، وأمضاها السيرُ في دروبِ التِيه والظلامِ، فحيثما مشيتَ سمعت آهاتِ التائبين وزفراتِ النادمين وعبراتِ الباكين ترددُ ودموعُ الخشوعِ والندمِ تزينُ وجوهَهم: تائبون عائدون لربنا حامدون، فالحمد للهِ الذي نصر دينَه وأنجزَ وعدَه وهزمَ الأحزابَ وحده، وصدقَ القائلُ:
صُبحٌ تنفسَ بالضِّـياء وأشـرقا *** والصحوةُ الكبرى تهزُّ البَيْرقا
ما أمر َهذي الأوبةِ الكبرى سوى وَعْدٌ من اللهِ الجليلِ تحقَّقـا
عبادَ الله، إن هذه الوعودَ وهذه الآمالَ وهذه المبشراتِ لا تعفي الأمةَ وأهلَ الصحوةِ والخيرِ خاصةً من العملِ الدائبِ والكدِّ الدائمِ الناصحِ، فلا بد من جهدٍ صادقٍ ونيةٍ صالحةٍ ودعوة مثابرة وعلم راسخٍ حتى يتحققَ للأمةِ نصرُ الله تعالى، فإن اللهَ سبحانه وعد الأمةَ بالنصرِ والعزِّ والتمكينِ والظهورِ على الأعداءِ والمعاندين إذا استقامت على الشرعِ القويم علماً ودعوةً وعملاً ،قال الله تعالى: ﴿الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾ سورة الحج: (41)..
ولا يظنُّ ظانٌّ أن هذا النصرَ وهذا الوعدَ بالتمكينِ سيأتي بارداً بلا آلامٍ وتضحياتٍ ،فإن سنة الله تعالى تأبى ذلك، قال تعالى ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ﴾ سورة البقرة: (214).
فنسأل اللهَ الكريمَ ربَّ العرشِ العظيم أن يرزقنا وإياكم الثباتَ على الدينِ، وأن يجعلنا جميعاً من عباده المتقين ومن حزبه المفلحين وأن يقر أعيننا بنصر الدين.