وجوب الخوف من الذنوب
الخطبة الأولى :
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
أيها المؤمنون اتقوا اللهَ، وذروا ظاهرَ الإثمِ وباطنَه، فإن الذنوبَ والآثامَ أصلُ كلِّ بلاءٍ، ومصدر كلِّ فتنةٍ، وسببُ كلِّ فسادٍ في البرِّ أو البحرِ، كما قال الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ سورة الروم: 41 ،فكلُّ بلاءٍ وحادثةٍ، وكلُّ فتنةٍ وكارثةٍ، وكلُّ تغيُّرٍ في أحوالِ الناسِ، فبسببِ ذنوبِهم وما كسبت أيديهم ،قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ سورة الشورى: 30.
فاتقوا اللهَ أيها المؤمنون، وأقلِعُوا عن الذنوبِ والمعاصي، واحذروا مكرَ اللهِ تعالى، فإن مكرَ اللهِ بأعدائِه شديدٌ، قال اللهُ تعالى:﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أو يَأْخُذَهُمْ على تخوُّفٍ فإن ربكم لرؤوفٌ رحيمٌ﴾ سورة النحل: 45-47،وقال الله تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ* أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ سورة الأعراف: 97-99.
أيها المؤمنون.
إن مما يؤكِّدُ وجوبَ الخوفِ من الذُّنوبِ والمعاصي والحَذَرِ من عاقبتِها وشؤمِ مآلِها أنَّ اللهَ تعالى قد أهلكَ أُمماً وأقواماً وقرىً وقروناً، كانوا أشدَّ قوةً وأطولَ أعماراً وأرغدَ عيشاً وأكثرَ أموالاً، فاستأصلَهم وأبادَهم﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾ سورة الدخان: 25-29 وما ذاك واللهِ إلا بسببِ الذنوبِ والآثامِ والخطايا والأوزارِ، قال تعالى:﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً﴾ سورة الطلاق: 8-9، وقال تعالى بعدَ أن ذكرَ جمْعاً من الأممِ التي عصَتْ وعَتَت وأذنَبَت وكذَّبَت اللهَ ورسلَه: ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ سورة العنكبوت: 40.
لهذا المعنى قال ابنُ القيمِ -رحمه الله- كلاماً طويلاً، منه قوله رحمه الله: "وهل في الدنيا والآخرةِ شرٌّ وداءٌ إلا سببُه الذنوبُ والمعاصي، وما الذي غرق أهلَ الأرضِ كلَّهم حتى بلغ الماءُ فوقَ رؤوسِ الجبالِ، وما الذي أرسلَ على قومِ ثمود الصيحةَ حتى قُطِّعَت قلوبُهم في أجوافِهم وماتوا عن آخِرِهم، وما الذي أهلكَ القرونَ من بعدِ نوحٍ بأنواعِ العقوباتِ ودمَّرها تدميراً، وما الذي رفعَ قرى اللوطيةِ حتى سمعت الملائكةُ نبيحَ كلابِهم ثم قلبَها عليهم، فجعل عاليَها سافلَها، فأهلكَهم جميعاً ثم أتبعَهم حجارةً من السماءِ أمطرَها عليهم فجمعَ عليهم من العقوبةِ مالم يجمعْه على أمةٍ غيرِهم، ولإخوانِهم أمثالُها، وما هي من الظالمين ببعيد" الجواب الكافي (43)..
أيها المؤمنون! لم يجرِ ما جرَى لهؤلاءِ إلا بسببِ الذُّنوبِ والآثامِ، وهذه سنَّةُ اللهِ في كلِّ من عصاه وخالفَ أمرَه و تنكَّبَ عن صراطِه، وهَجَر هُداه وهي لا تتغيرُ ولا تتبدلُ.
فسننُ اللهِ الدينيةُ الشرعيةُ مطردةٌ منضبطةٌ، لا تتغيرُ فما وقعَ من العذابِ للأممِ السابقةِ يقعُ لكلِّ أمةٍ شابهتْها في كلِّ عصرٍ ومصرٍ، كما قال تعالى:﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾ سورة فاطر: 43.
الخطبة الثانية :
أما بعد.
فيا أيها المؤمنون.
قد أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن من الذنوبِ والآثامِ ما هو سببٌ لحلولِ العقابِ والعذابِ العامِّ، فمن ذلك ما أخرجه ابن ماجه والحاكم بسندٍ لا بأس به من حديث ابنِ عمرَ رضي الله عنهما، وفيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ :لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا ، إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ ، وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ، إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ ، وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ ، إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلاَّ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ، إِلاَّ جَعَلَ اللهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهم» أخرجه ابن ماجه (4019) وأبو نعيم (8/333) ، والحاكم (4/583)ح(8623) وقال :" صحيح الإسناد".
أيها المؤمنون.
إن من أسبابِ نزولِ البلاءِ وحلولِ الهلاكِ ظهورَ الرِّبا، الذي قال فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم :«الرِّبا ثلاثٌ وسبعون شعبةً، أيسرُها مثلُ أن ينكحَ الرجلُ أمَّه، وإن أربى الرِّبا الاستطالةُ في عرضِ الرجلِ المسلمِ» أخرجه الحاكم في مستدركه (2|43) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ،قال الحاكم :"حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ".
وقد تهدَّد اللهُ تعالى أهلَ الرِّبا وتوعَّدَهم، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ سورة البقرة: 278-279، فقد آذنَ اللهُ تعالى المرابِين المصِرِّين بالحربِ، فيالها من عقوبةٍ عظيمةٍ، لا تقومُ لها الجبالُ الرَّواسِي.
وقد جعلَ اللهُ تعالى أكلَ الرِّبا سبباً لتحريمِ الطَّيِّباتِ،فقال تعالى:﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ سورة النساء: 160-161.
وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" من حديثِ عمْرِو بنِ العاصِ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم :«ما من قومٍ يظهرُ فيهم الرِّبا إلا أُخذوا بالسَّنة» مسند أحمد" (17367). ؛أي: الجَدْبِ والقَحْطِ.
فاتقوا الله أيها المؤمنون ولاتأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة.
أيها المؤمنون.
ومن أسبابِ نزول العقوباتِ الشُّحُّ الذي بُلِيَت به كثيرٌ من النفوسِ، فحملتهم على أخذِ الأشياءِ من غيرِ حِلِّها، ومنعِ ما أوجبَ اللهُ عليها من الحقوقِ، وحقيقةُ الشحِّ تشوُّقُ النفسِ إلى ماحرَّم اللهُ ومَنَعَ، فلا يقنعُ المرءُ بما أحلَّ اللهُ له من مالٍ أونكاحٍ أو نصيبٍ، فيتعدَّى إلى ما حرَّمَ اللهُ تعالى، وقد حذَّر اللهُ من الشحِّ، فقال:﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ سورة التغابن: 16.
وفي "صحيحِ مسلمٍ" من حديث جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اتقوا الشحَّ، فإن الشحَّ أهلك من كان قبلَكم، حملَهم على أن سَفَكوا دماءَهم واستحلوا محارِمَهم» أخرجه مسلم (2578)..
نعوذ بالله من معصيته وغضبه وسوء عاقبته.