الخطبة الأولى
إن الحمد لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
فيا أيها المؤمنون.
إن مما وقع فيه كثيرٌ من الناسِ التهاونَ بأمرِ الطلاقِ؛ جهْلٌ بأحكامِه ، تلاعبٌ به، غفلةٌ عن عواقبِه، إيقاعٌ له في غير محلِّه، استخفافٌ وتهورٌ وطيشٌ، فإنا للهِ وإنا إليه راجعون.
أيها المؤمنون.
اتقوا اللهَ في أمرِ الطلاقِ، فإن الطلاقَ شريعةٌ محكمةٌ، وليس أهواءً متحكمةً، ولا انفعالاتٍ طائشةً، ولا كلماتٍ فارغةً.
أيها المؤمنون! إن التلاعبَ بالطلاقِ، والتهاونَ بأمرِه تلاعبٌ بكتابِ اللهِ، يوجبُ سخطَه وعقوبتَه، ففي الحديث أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبرَ أن رجلاً طلَّقَ امرأتَه ثلاثَ تطليقاتٍ جميعاً، فقام صلى الله عليه وسلم وهو غضبانُ، ثم قال: (أيُلعبُ بكتابِ اللهِ وأنا بينَ أظهُرِكم؟!) فقام رجلٌ فقال: يا رسولَ الله ألا أقتله؟ أخرجه النسائي (3348) وصححه ابن حجر في بلوغ المرام (1072).
فاتقوا اللهَ أيها الأزواجُ، واعرفوا لهذا الأمرِ حقَّه، فإن اللهَ جل وعلا قد فرضَ فيه فرائضَ فلا تضيِّعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها.
أيها المؤمنون! إن من المؤسفِ المحزنِ أن كثيراً من سفهاءِ الأحلامِ تهاونَ في أمرِ الطلاقِ، فترى الواحدَ من هؤلاء يجري الطلاقُ على لسانِه عند أدنى استفزازٍ، ولأوهى سببٍ، لا يراعي في ذلك للهِ أمراً ولا نهياً، ولا يقيمُ فيه لشرعِ اللهِ وزناً.
ومن هؤلاء الرجالِ مَن يطلِّقُ الطلقاتِ الكثيرةَ، في مناسباتٍ عديدةٍ، دون أن يلتزمَ بمقتضى هذه الكلماتِ، فتجدُه يعاشرُ المرأةَ ويبقِيها معه، مع أنه طلَّقَها مِراراً وتِكراراً، وهي لا تحلُّ له ! زنا وسفاحٌ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن صورِ التهاونِ في أمرِ الطلاقِ: ما يفعله بعضُ الجهلةِ وضعفاءِ العقولِ من الحلفِ بالطلاقِ؛ فما أكثرَ ما تسمعُ من أحدِهم قوله : "عليَّ الطلاقُ" عندَ تأكيدِه لأمرٍ؛ أو نفيِه له؛ أو حثٍّ عليه؛ أو منعٍ منه، وبعضُهم يقولُ: عليَّ الطلاقُ بالثلاث!
ولا شكَّ أيها المؤمنون أن من جعلَ الطلاقَ يمينَه على طرفِ لسانِه، يردِّده عند كلِّ تأكيدٍ أو نفيٍ أو حثٍّ أو منعٍ، أنه مستهينٌ بهذا العقدِ، متلاعبٌ به، وأنه على خطرٍ كبيرٍ.
أيها المؤمنون.
إن من صورِ الاستهانةِ بالطلاقِ: تهديدَ المرأةِ به عندَ كلِّ عارضٍ، فتجدُ الواحدَ من هؤلاء المستهترين يهدِّدُ زوجتَه بالطلاقِ بكرةً وعشيًّا، ولا شكَّ أن هذا ليس من العشرةِ بالمعروفِ، وأنه ضربٌ من التهاونِ والتلاعبِ، فإما إمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ.
فيا أيها الأزواجُ، اتقوا ربَّكم واستوصوا بالنساءِ خيراً، فإنهن عوانٍ عندكم، وعظِّموا حرماتِ الله وشعائرَه لعلكم تفلحون.
الخطبة الثانية:
أما بعد.
فيا أيها المؤمنون! إن اللهَ تعالى قد شرعَ الطلاقَ لحكمةٍ بليغةٍ، فإن هذه الكلمةَ بقدرِ ما تكونُ مؤلمةً موجعةً قاسيةً، إذا كانت في غيرِ محلِّها، تكون عذبةً مفرحةً مفرِّجةً إذا كانت في محلِّها، على الوجهِ الذي شرعَه اللهُ تعالى.
إذا أراد أحدُكم الطلاقَ في الحالِ التي يجوزُ فيها الطلاقُ، فليطلِّقْ مرةً واحدةً لا أكثرَ، فإنَّ ما زاد على الطلقةِ الواحدةِ طلاقٌ بدعيٌّ محرَّمٌ، وإن من العجبِ أن بعضَ ضعفاءِ العقولِ يطلِّق ثلاثَ تطليقاتٍ جميعاً، ثم يتندمُ بعد ذلك فيشرِّقُ ويغرِّبُ؛ بحثاً عمن يفتيه بعدمِ الوقوعِ، سفهٌ وحُمْقٌ وجهلٌ وطيشٌ.
أيها المؤمنون! إن على من أرادَ الطلاقَ أن يطلِّقَ زوجتَه في طهرٍ لم يجامعْها فيه، فلا يحلُّ له أن يطلِّقَها وهي حائضٌ، ولا في طهرٍ جامعَها فيه، إلا إن كان قد تبيَّنَ حملُها، فإن الطلاقَ في الحملِ جائزٌ واقعٌ، لا حرجَ فيه.
أيها المؤمنون! إذا طلقَ الرجلُ امرأتَه طلاقاً له فيه رجعةٌ، فإن الواجبَ عليه ألا يخرجَ المرأةَ من البيتِ، حتى تنتهِيَ عِدَّتُها، فهي زوجتُه ما دامت في عِدَّةِ الطلاقِ الرجعيِّ.
فاتقوا الله عباد الله في أمر الطلاق، وتأنوا فيه، فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً.