استقبال شهر الخير ( رمضان)
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ.
أيها المؤمنون.
قد أظلَّكُم شهرٌ كريمٌ، وموسمٌ عظيمٌ، فها هو يطرقُ الأبوابَ هلالُه، يُرتقب الليلةَ أو القابلةَ، فلا إله إلا الله، ما أسرعَ تعاقبَ الليالي والأيامِ، وما أعجلَ دورانَ رحى الزمانِ، فالليالي والأيامُ تُطوى، والأعمارُ والأعوامُ تَفنى، ويبقى وجهُ ربِّك ذو الجلالِ والإكرامِ، لكلِّ أجلٍ كتابٌ ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ سورة الأعراف: (34) ، فهذا مولودٌ يبكي، وهذا مقبورٌ يُبكى، وكلُّ الناسِ يغدو، فبائعٌ نفسَه إلى ربه ومولاه فمعتقُها، وبائعٌ نفسَه للشيطان وهواه فمُهلِكُها.
أيها المؤمنون.
إن خيرَ ما استقبلتم به شهرَ رمضانَ المباركَ التوبةُ الصادقةُ، والدموعُ الهاميةُ على التفريطِ والتقصيرِ ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ سورة النور: (31) فإنَّ من لم يتب فأولئك هم الظالمون.
وفي "صحيح البخاري" من حديث أبي هـريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»"صحيح البخاري" (6307).
عباد الله، إن التوبةَ الصادقةَ المقبولةَ لا تكون إلا بالندمِ على ما فرَّط من السيئات، والإقلاعِ فوراً عن الخطايا والموبقاتِ، والعزمِ على عدمِ مواقعة الذنوبِ والمهلكاتِ، وردِّ المظالمِ، والتحللِ من أصحاب الحقوقِ والجناياتِ.
أيها المسلمون.
إن مما يُستقبلُ به هذا الموسمُ الكريمُ الفرحَ ببلوغِه وإدراكِه، فإن من النعمِ العظيمةِ على العبدِ: أن يبلِّغَه اللهُ مواسمَ الخيراتِ، ومنازلَ المغفرةِ والرحماتِ:﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ سورة يونس: ( 58) .
أيها الإخوة الكرام.
إن المؤمنَ يفرحُ برمضانَ؛ لما فيه من أسبابِ الفوزِ بالجناتِ، والنجاةِ من النيرانِ، يفرحُ المؤمنُ برمضان، يصومُ نهارَه، ويقوم ليلَه، ويسأل ربَّه ومولاه من خير الدنيا والآخرة، فيحقق بذلك التقوى، التي قال في أهلها:﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ سورة يونس (62-63) .
يفرح المؤمنُ برمضان؛ لأنه شهرٌ يربِّي فيه نفسَه على الصبرِ عن الشهوات، والصبرِ على الطاعات، فيفيده ذلك قوةً في دينه، ورسوخاً في يقينه، وزيادةً في إيمانه، فما أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيراً، ولا أوسعَ من الصَّبر.
يفرح المؤمنُ برمضان؛ لأنه يتذكَّرُ به ما صنعَ اللهُ لأوليائه، من الانتصاراتِ والفتوحِ، فشهرُ رمضانَ شهرُ نصرٍ لأمةِ الإسلامِ، فيه وقعت بدرٌ الكبرى، وفيه فتحَ اللهَ لنبيه مكةَ، البلدَ الحرامَ، وفيه معركةُ اليرموكِ وحطينَ، وغيرُ ذلك من وقائعِ النصرِ والفتحِ المبينِ.
فكلُّ انتصاراتِ أهلِ الإسلامِ العظامِ، التي حصل بها للمسلمين الفرجُ، وغيَّرت موازينَ القوى، إنما كانت في هذا الشهرِ المباركِ، فصدَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم القائلُ: «واعلم أنَّ النصرَ مع الصبرِ، وأنَّ الفرجَ مع الكربِ، وأنَّ مع العسرِ يسراً» أخرجه أحمد (2803) من حديث ابن عباس رضي الله عنه ، وحسَّنه السخاوي في المقاصد الحسنة (336). .
يفرح المؤمنُ بهذا الشهر؛ لأنه يجدِّد في نفسه الأملَ، فإن المستقبل للإسلام، مهما اشتد الظلام، وإن الله ناصرُ دينِه، ومعلي كلمتِه، بعِزِّ عزيزٍ، أو بذُلِّ ذليلٍ، عِزًّا يعِزُّ اللهُ به أهلَ الإسلام، وذُلًّا يذِلُّ به الكفارَ، فما أحوجَ الأمةَ اليومَ، وهي تعيشُ هذه النكباتِ، والخطوبَ المدلهماتِ، إلى من يحيي في قلبها الأملَ، ويذكِّرها بأسباب الخروج من هذه الأزماتِ، فإنه من يتقِ اللهَ يجعلْ له مخرجاً، ويجعلْ له من أمره يسراً: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ سورة يونس (58).
أيها المؤمنون.
إن من الناس من عمِيَ عن كلِّ هذه المعاني، التي يحملُها هذا الشهرُ المباركُ، ولم يرَ فيه إلا موسماً سنويًّا للموائدِ الزاخرةِ، وفرصةً للسمرِ واللهوِ، ومتابعةِ البرامج، والسَّهَرِ الممتدِ إلى بزوغِ الفجرِ، والنومِ الطويلِ إلى غروبِ الشمسِ، فإني واللهِ أخشى على هذا أن يجيبَ اللهُ فيه دعاءَ جبريل، الذي أمَّنَ عليه خاتمُ المرسلين:
ففي "صحيح ابن خزيمة" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتاني جبريلُ فقال: مَن أدرك رمضانَ، فلم يُغفر له فدخل النارَ، فأبعَدَه الله. قال جبريلُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : قُلْ آمين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : آمين» صحيح ابن خزيمة (1888)، وهو عند أبي يعلى (5922).
أيها المؤمنون.
إنني أحذِّرُكم -نصيحةً لله، نصيحةَ مُشفِقٍ محِبٍّ- أن تستجيبوا إلى شياطينِ الإنس، الذين يدعونكم إلى متابعةِ القنوات، بما أعدُّوه من البرامجِ والفقراتِ؛ ليصدُّوا عن سبيل الله، ويذهبوا بما حصلته قلوبُكم من التقوى والإيمان، بسبب الصّيامِ والقيامِ.
فاتقوا الله عباد الله، واجعلوا شهرَكم شهرَ توبةٍ وأوبةٍ وصلاحٍ ودعاءٍ وتضرُّعٍ وبكاءٍ، فعند الصباح يَحمدُ القومُ السَّرى الأمثال لابن سلام (31)، جعلنا الله وإياكم ممن يقول: ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ. إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ سورة الطور: ( 26-28).
الخطبة الثانية :
أما بعد.
فاتقوا الله عباد الله، واستقبلوا شهرَكم بالعزمِ على الطاعات، ونيةِ الخيرات، والمسارعةِ إلى الباقياتِ الصالحاتِ، فإن ذلك من المسابقةِ إلى الخيراتِ، ونيةُ الطاعةِ طاعةٌ يثابُ عليها المؤمنُ يا عباد الله.
ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» أخرجه البخاري (6491)، ومسلم (131). .
أيها الإخوةُ الكرامُ..
إن من نعمةِ الله تعالى على أهلِ الإسلام أن خصَّ شهرَ الصيامِ، شهرَ رمضانَ المباركِ بفضائلَ قدريةٍ وشرعيةٍ.
فمن ذلك: أن الله تعالى أنزل فيه أحسنَ كتبِهِ: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ سورة البقرة: ( 185).
ومن تلك الخصائصِ: أنه جعل فيه ليلةَ القدرِ، التي يُفرقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيمٍ، فيجري فيها تقديرُ اللهِ عز وجل لما يكون في تلك السَّنةِ.
ليلةُ القدرِ، التي عظَّم الله شأنَها، فقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ سورة القدر: (1- 2).
ليلةُ القدر، التي قال فيها الصادقُ المصدوقُ صلى الله عليه وسلم : «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» أخرجه البخاري ( 37)، ومسلم (760) عن أبي هريرة رضي الله عنه .
ومن الفضائلِ والخصائصِ التي جعلها اللهُ لشهر الصيام: أنْ منَّ على عبادِهِ المؤمنين، بفتحِ أبوابِ الجنانِ، وتغليقِ أبوابِ النيرانِ، و تصفيدِ الشياطينِ من أوَّلِ ليلةٍ من ليالِيه.
ففي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسُلسِلت الشياطين»"صحيح البخاري" (1899)، ومسلم ( 2548) .
وفي رواية: «وصُفّدت الشياطين» أخرجه مسلم (1079) عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وفيه ينادي منادي الإيمان: يا باغيَ الخيرِ أقبلْ، ويا باغيَ الشرِّ أقصرْ.
ومن فضائلِ الشهرِ المباركِ: أن الله جلَّ وعلا منَّ فِيهِ على أهلِ الإسلامِ بأعظمِ الانتصاراتِ، وأكبرِ الفتوحاتِ، ففيه نَصَرَ اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم على أهل الكفرِ والإلحادِ، يومَ الفرقانِ، يومَ التقى الجمعان في غزوةِ بدر الكبرى، التي هي شامةٌ في عينِ التَّاريخِ:
إذا قامت الدنيا تعُدُّ مفاخِراً *** فتاريخُنا الوضَّاحُ من بدر ابتدأَ ديوان وليد الأعظمي (95)
وفيه فتح اللهُ بيتَه المعظَّم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وخلَّصه بذلك من أوضارِ الشِّرْكِ، ولوثاتِ الكفر.
شهرٌ عظيمٌ مباركٌ، فيه تكفَّرُ الخطايا، وتُمحى الذنوبُ، ويُعفى عن السيئاتِ، من حُرِم خيرَه فقد حُرِم.
أتى رمضانُ مزرعةُ العبادِ *** لتطهيرِ القلوبِ من الفسادِ
فأدِّ حقـوقَه قولاً وفِعلاً *** وبادرْ فيه أزوادَ المعــاد