الخطبة الأولى
إِنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد .
فاتقوا اللهَ أيها الناسُ، وقومُوا بما فرضَ اللهُ عليكم من الحُقُوقِ والواجِباتِ، وانتهُوا عمَّا نهاكُم عنه من المعاصي والسيئاتِ، فإنَّ اللهَ قدْ أعدَّ لعبادِهِ المتَّقين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمِعت، ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ.
واعلموا أيها المؤمنون، أن ربَّكم، الذي لا إله إلا هو، ولا ربَّ سِواه، له الحكمةُ البالِغةُ، والقدرةُ النافذةُ، يقلِّبُ الليلَ والنهارَ، يولجُ الليلَ في النهارِ، ويولجُ النهارَ في الليلِ: ﴿وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ سورة المزمل: 20.
فمن بديعِ حكمتِه الباهرةِ، وعظيمِ مِنَّةِ اللهِ تعالى على عبادِهِ، ورحمتِه بهِم، أن نوَّعَ لهم الفصولَ في العامِ الواحدِ، بين صَيْفٍ وشتاءٍ، وبين ربيعٍ وخريفٍ، لِتَتِمَّ بذلك مصالحُهُم، ويستقِيمَ معاشُهم، ويُستِويَ أمرُهُم.
فالحمدُ للهِ الذي لا إله إلا هو على بِرِّه وإِحسانِه، ولُطْفِه ورحمتِهِ وحكمتِهِ وامتنانِهِ.
عباد الله.
قد أظلَّكُم فصْلُ الشتاءِ، وهو فَصْلٌ كانَ يَكتُبُ فيه عمرُ رضي الله عنه لعُمَّالِه: ( إنَّ الشِّتاءَ قد حضَرَ، فتأهَّبُوا له أُهْبَتَه، من الصُّوفِ والخِفافِ والجَوارِبِ، واتَّخِذُوا الصوفَ شِعاراً ودِثاراً ) ذكره ابن رجب في: لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف (356).
وإن من مِنَّة اللهِ تعالى عليكم أنْ جَعَلَ لَكُم سَرابيلَ تقِيكُم الحَرَّ، وسَرابيلَ تقِيكم البرْدَ، فخَلَقَ لكم من أصوافِ بهيمةِ الأنعامِ وأوبارِها وأشعارِها، ما فيه دِفءٌ لَكُم ووِقايَةٌ، قال تعالى: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ سورة النحل: 5. فاشكُروا اللهَ تعالى، فإن الشُّكْرَ سببٌ في المزيدِ، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ سورة إبراهيم: 7.
عبادَ الله.
إنَّ من نعمةِ اللهِ عَلَيْكم بتنويعِ الفصولِ أن يحصلَ بذلك تَذَكُّرُ جَهنمَ، فإن شِدَّةَ الحرِّ وشِدَّةَ البردِ يُذكِّرانِ الناسَ بما في جهنمَ، من الحرِّ والزَّمْهريرِ، ففي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: (اشتكتْ النارُ إلى ربِّها فقالت: يا ربِّ أَكَلَ بعضي بعضاً، فأذِن لها بِنَفَسَيْنِ، نفسٌ في الشتاءِ، ونفسٌ في الصَّيْفِ، فهُوَ أشدُّ ما تجِدُون من الحرِّ، وأشدُّ ما تجدُون من الزَّمهرير). أخرجه البخاري ( رقم 3260 ) ومسلم ( رقم 617 ).
قال اللهُ تعالى مخبِراً عن أهلِ جهنمَ -نعوذُ باللهِ منها-: ﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزَاءً وِفَاقاً﴾ سورة النبأ:24-26. ، فجهنمُ يعذَّبُ أهلُها بالحرِّ والزَّمْهرِير.
قال ابن عباس رضي الله عنهما:"الغسَّاقُ الزمهريرُ الباردُ الذي يَحرِقُ من بردِهِ" تفسير ابن رجب 2/336..
وقال الحسن رحمه الله:"كلُّ بردٍ أهلَكَ شيئاً فهو من نَفَسِ جهنمَ". ذكره ابن رجب في: لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف (356).
فَيَا مَنْ آذاهُ حَرُّ الصَّيْفِ، ويا مَن أزْعَجَهُ بَرْدُ الشِّتاءِ، اتَّقِ عذابَ جهنمَ، إن عذابَها كان غراماً، فإن ما تجدُه في هذه الدنيا من شدةِ البردِ، أو شدةِ الحرِّ إنما هو شيءٌ يسيرٌ من حرِّ جهنمَ وزمهريرِها.
فكيفَ بِكَ يا من أسرَفْتَ على نفسِكَ بالذُّنُوبِ والمعاصي، يومَ يُؤْتَى بها تُقادُ بسبعينَ ألفَ زمامٍ، ثم يقال:﴿اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ سورة الطور: 16.
أيها المؤمنون.
إنَّنا نعِيشُ هذا الفصْلَ، ويَعيشُ معنا إخوانٌ لنا، قُدِرَتْ عَلَيهِم أرزاقُهم، وقَصُرَت بهم النَّفَقةُ، وهم بأمسِّ الحاجةِ إلى العوْنِ والمساعدةِ في إِقبالِ الشِّتاءِ، فقَدِّموا لأَنفُسِكم، وَتَفَقَّدُوا إخوانَكم المحتاجين، وابدؤُوا بأقارِبِكم، وذوي أرحامِكُم، ثم جِيرانِكم، وأهلِ بلدِكُم، ثم الأقربِ منكُم فالأقربِ، ولا يحقِرَنْ أحدُكم من المعرُوفِ شيئاً، فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( اتقِ النَّارَ، ولو بِشِقِّ تمرةٍ) أخرجه البخاري ( رقم 1347 ) ومسلم ( رقم 1016 ) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. .
أيها المؤمنون.
أخرج الإمامُ أحمدُ بسندٍ ضعيفٍ من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الشتاءُ ربيعُ المؤمنِ، طالَ ليلُه فقامَه، وقَصُرَ نهارُه فصامَه» "المسند" (11734)، والحديث حسنه الهيثمي في مجمع الزوائد 3/258
قال ابنُ رجب رحمه الله: "إنما كان الشتاءُ ربيعَ المؤمنِ؛ لأنه يَرتَعُ فيه في بساتينِ الطاعاتِ، ويسرحُ في ميادينِ العباداتِ، ويُنـزِّه قلبَه في رياضِ الأعمالِ الميسَّرةِ فيه". لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف (356).
فالمؤمِنُ يا عبادَ اللهِ يَقْدِرُ في الشِّتاءِ على صِيامِ نهارِهِ، من غير مشقَّةٍ ولا كُلفةٍ، فإن نهارَه قصيرٌ باردٌ، فلا يُحَسُّ فيه بمشقةِ الصيامِ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الصِّيامُ في الشِّتاءِ الغنيمةُ الباردةٌ » جاء من حديث عامر بن مسعود عند أحمد (4/335)، والترمذي (794)، وابن خزيمة (3/309) وغيرهم، وفيه علتان: جهالة نمير بن عريب، والإرسال. وجاء من حديث أنس عند الطبراني في الصغير (716ه)، والشجري في الأمالي (2/111)، وابن عدي (3/1210)، وفيه ثلاث علل: ضعف سعيد بن بشير الأزدي، وعنعنة الوليد بن مسلم، والوقف، وجاء من حديث جابر أيضاً عند ابن عدي (3/1075)، وفيه أربع علل: عبد الوهاب البلخي، وهو متروك الحديث بل كذبه أبو حاتم، وعنعنة الوليد بن مسلم، وضعف زهير بن محمد التميمي في رواية الشاميين عنه، وهذا منها، والمخالفة في الإسناد.
فاغتنموا هذه الفرصةَ يا عبادَ الله فإنَّ للصيامِ فضائلَ عظيمةً عديدةً، ولو لم يكن فِيه إلا ما قالَه اللهُ تعالى في الحديثِ الإلهي: ( الصِّيامُ لي وأنا أجْزِي به ) أخرجه البخاري (1904 )، ومسلم (1151 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. لكان كافيا ً.
أيها المؤمنون.
إن من أبوابِ الخيرِ في هذا الفصلِ طولَ الليلِ، الذي يتمكَّنُ العبدُ فيه من القِيامِ، فلِطُولِه يمكنُ أن تأخُذَ النفسَ حظَّها من النَّومِ، ثم تقومُ بعد ذلك إلى الصلاةِ، إلى صلاةِ الليلِ، التي قال اللهُ فيها: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ﴾ سورة الإنسان: 26. ، وقال فيها: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ﴾ سورة ق: 40. ، فإن صلاةَ الليلِ شعارُ المتقين، ودِثارُ أولياءِ اللهِ المفلحين، قال الله تعالى في وصفِ عبادِه المتقين ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ سورة السجدة: 16-17 .
قال الطبريُّ في تفسيرِ هذه الآيةِ: "فلا تعلمٌ نفسٌ أيُّ نفسٍ، ما أخفى اللهُ لهؤلاءِ، الذين وَصَفَ جلَّ ثناؤُه صفتَهم في هاتينِ الآيتينِ، مما تَقَرُّ به أعيُنُهم في جناتِهِ يومَ القيامة، ثواباً لهُمْ على أعمالِهم التي كانوا في الدُّنيا يعملون" تفسير الطبري 18/616.
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، فلَيْلُ الشتاءِ طويلٌ، فلا تقصِّرُوه بمنامِكم، ولا تضيِّعُوه بسهرِكُم على المعاصي والملذَّاتِ، واجعلوا ليْلَكم ليلَ المتَّقِين الذاكِرين، لا ليلَ الغافِلين المستهتِرين.
قال ابنُ القيمِ رحمه الله: "فيا عَجَباً من سفيهٍ في صورةِ حليمٍ، ومعتوهٍ في صورةِ عاقلٍ، آثَرَ الحظَّ الفانيَ الرخيصَ على الحظِّ الباقي النفيسِ، باعَ جَنَّةً عرضُها الأرضُ والسماواتُ بسِجْنٍ ضَيِّقٍ بينَ أصحابِ البليةِ والشهواتِ" حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (4).
أيَا صاحِ هذا الرَّكبُ قد سارَ مُسرِعاً *** ونحنُ قعودٌ ما الذي أنْتَ صانِعُ.
على نفسِه فليبكِ مَنْ كانَ باكــِياً *** أَيَذهَبُ وقتي وهو باللهْوِ ضائعُ
اللهم أعِنَّا على ذكرِك وشكرِك وحُسْنِ عبادتِك.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأحكمِ الحاكِمين، و بعد.
فاتقوا اللهَ عباد اللهِ، وسابقوا إلى مغفرةٍ من ربِّكُم وجنةٍ، عرضُها السماءُ والأرضُ، أُعدَّتْ للمتقين.
أيها المؤمنون.
إن من أبوابِ الخيرِ في فصْلِ الشِّتاءِ إِسباغَ الوضوءِ وإتمامَه، فإن ذلك من أفضلِ الأعمالِ، ففِي صحيح مسلمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم :« ألا أدُلُّكم على ما يمحُو اللهُ به الخطايا، ويرفعُ به الدرجاتِ؟ قالوا: بلى، يا رسولَ اللهِ، قال: إسباغُ الوضوءِ على المكارِهِ، وكثرةُ الخُطا إلى المساجدِ، وانتظارُ الصلاةِ بَعدَ الصلاةِ، فذَلِكُم الرِّباطُ، فذَلِكُم الرِّباطُ» أخرجه مسلم (251 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فأسبغوا أيها المؤمنون الوضوءَ، فإنَّ أجْرَه عند الله عظيمٌ.
وإسباغُ الوضوءِ يكونُ بتعميمِ الماءِ على جميعِ أعضاءِ الطهارةِ، فقد أَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال في حديث لقيطِ بنِ صبرةَ رضي الله عنه:«أسبِغْ الوضوءَ، وخلِّلْ بَيْنَ الأصابعِ، وبالِغْ في الاستنشاقِ ما لم تكُن صائِماً» أخرجه الترمذي (788)، وأبو داود (142)، والنسائي (87) وابن ماجة (407) وقال الترمذي: حديث حسنٌ صحيح.
أيها المؤمنون.
إن ربَّكُم الكريمَ الحليمَ لم يجعل عليكُم في الدِّينِ من حَرَجٍ، بل جَعَلَه يَسِيراً سَهلاً، قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ سورة البقرة: 185.
فمن تيسِيرِه: أن أجازَ لَكُم المسحَ على الخُفَّينِ، بدلاً من غسلِ الرِّجْلَين، إذا كانتا مستورتين بخُفٍّ أو جَوْرَبٍ ونحوهما.
وذلك بشرطِ أن يكونا قد لُبِسَا على طهارةٍ، وقد رَخَّصَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في ذلك للمُقِيم يوْماً ولَيلةً، وللمُسافرِ ثلاثةَ أيام بليالِيها أخرجه أحمد (1277)، وابن ماجه (552)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (447). ، تَبتدِىءُ المدَّةُ منْ أوَّلِ مسحةٍ بعدَ الحَدَثِ، فإذا لبس الإنسانُ الجوربَ مثلاً وقتَ صلاةِ الفجرِ، ولم يمسحْ علَيْهِما أوَّلَ مرةٍ إلا لصلاةِ الجُمُعة، فيَكُونُ ابتدَأَ مُدَّةَ مسحِهِ من صلاةِ الجُمُعةِ إلى مثلِ هذا الوقتِ من الغَدِ، فإذا تمَّتْ المدةُ وجبَ عليه غَسْلُ رِجْلَيْهِ إذا توضأ.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ودعوةً مستجابةً يا ربَّ العالمين.