أسبابُ القلقِ والفرَحِ
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
فيا أيها المؤمنون.
إن هذه الدارَ التي نحيا ونعيشُ فيها ليست دارَ قرارٍ، بل هي دارُ زوالٍ وارتحالٍ، كثيرةٌ آلامُها عديدةٌ همومُها وغمومُها، فأسباب الضَّجَرِ والكدَرِ والضيقِ والقلقِ في هذه الدنيا كثيرةٌ متنوعةٌ، قال الله تعالى: ﴿لقد خَلَقنا الإنسانَ في كبَد﴾ سورة البلد ( 4 ) أي: معاناةٍ وشدةٍ ومشقَّةٍ، والناظرُ في أحوالِ الناسِ يرى صِدْقَ هذا في واقعِهم ومعاشِهم، فالدنيا مجبولةٌ على الأكدارِ والشدائدِ:
جُبِلت على كدَرٍ وأنت تريدُها *** صفواً من الأقذارِ والأكدارِ لكشكول 2/206.
وإنما يتمايزُ الناسُ ويفترِقون في التعاملِ مع هذه الحقيقةِ، والتخلُّصِ من أسبابِ الضيقِ والكدَرِ.
أيها الإخوة الكرام.
رغمْ ما نعيشُه في هذا العصرِ من وسائلِ الراحةِ وأسبابِ رغَدِ العيشِ وهنائِه، إلا أن معدلَ الضَّجرِ والقلقِ في ازديادٍ وعلوٍّ، وهذا يوجب على كلِّ من رغِبَ في السعادةِ أن يبحثَ عن أسبابِها الحقيقيةِ، التي يحصل بها سكونُ الفؤادِ وصلاحُ البالِ واستقامةُ الحالِ وزوالُ الضجرِ والقلقِ.
أيها المؤمنون.
إن أعظمَ الأسبابِ التي تحصُل بها طمأنينةُ النفسِ وتحمُّلُ مشاقِّ هذه الحياةِ: الإيمانُ الصادقُ والعملُ الصالحُ، قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ سورة النحل ( 97) .
فبالإيمان الراسخِ يهونُ على العبدِ ما يلقاه: «إنْ أصابَتْه سرَّاءٌ شكَرَ فكان خيراً له، وإن أصابتْه ضرَّاءٌ صبرَ فكان خيراً له» أخرجه مسلم ( 5318 ) فهو في خيرٍ في كل ما يطرقهُ من المسرّأت والمكارِهِ، فكلُّ شيءٍ بقضاءٍ وقدرٍ ﴿إنا كلَّ شيءٍ خَلَقناهُ بِقَدَر﴾ سورة القمر (49) فعلامَ الضجرُ والقلقُ؟! فاللهُ غالبٌ على أمرِه ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون، فالمؤمنُ الذي يبصرُ قضاءَ اللهِ وقدرِه في كلِّ ما يحدثُ له ويصيبُه؛ يسلمُ من التخبُّطِ الناجم عن تقلب الأحوالِ.
أيها الإخوة الكرام.
إن مما يعينُ الإنسانَ على إزالةِ القلقِ والهمِّ من حياتِه أن يوطِّنَ نفسَه على ملاقاةِ ما يكرَهُ، فإن ذلك يهوِّنُه عليه ويزيلُ عنه شِدَّتَه ويعينُ الإنسانَ على الخروجِ مما حلَّ به ونزلَ.
أما إذا كان الإنسانُ مقدِّراً في كلِّ أمورِه أكملَ الأحوالِ وأحسنَ النتائجِ؛ فإن ذلك يوقِعُه في كثيرٍ من الأزماتِ والضوائقِ.
أيها المؤمنون.
إن مما يزيلُ القلقَ والضجرَ: أن يتخلَّى الإنسانُ عن الأوهامِ والخيالاتِ، فإن الاستسلامَ للأوهامِ والخيالاتِ من أعظمِ المنغصاتِ.
ومن أبرزِ هذه الخيالاتِ التي يعاني منها كثيرٌ من الناسِ التخوُّفُ من المستقبلِ والمجهولِ، والاشتغالُ بذلك عن معالجةِ الواقعِ والحاضرِ، فيخسر بذلك إصلاحَ يومِه بسبب همِّ يومٍ لم يدركه، بل قد لا يدركُه، قال الله تعالى: ﴿ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ﴾ سورة محمد (20،21) فإياكم أيها الإخوةُ والاستسلامَ للأوهامِ والخيالاتِ، بل ثِقُوا باللهِ تعالى واركنوا إليه ﴿ وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ﴾ سورة المائدة (23) .
أيها المؤمنون.
إنَّ مما يساعدُ المرءَ على اجتيازِ المشكلاتِ والأزماتِ أن لا يعطيَ المشكلةَ أكبرَ من حجمِها، فإن ذلك يخلقُ القلقَ والاضطرابَ، وهذا سبب لتشتُّتِ أفكارِه وغرقِه في مشكلاتِ متعاقبةٍ لا مخرجَ له منها.
ومما يعين على الخروجِ من القلقِ والضيقِ أن يستشعرَ المرءُ أن الشدةَ والضيقَ مهما طالا فهما إلى زوالٍ، فدوامُ الحالِ من المحالِ؛ وهذا الشعورُ يفتحُ له أبوابَ الأملِ ويعينُه على الصبرِ؛ وبالصبرِ يتخطَّى المرءُ الصعابَ، فما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً ولا أوسعَ من الصبرِ.
ومما يعينُ على حصولِ السعادةِ وزوال الكدرِ كثرةُ ذكرِ الله تعالى.
الخطبة الثانية :
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث إلى عامة الورى بالحق والهدى والنور والضياء، وعلى آله وأصحابه الأطهار الأنقياء، وعلى سائر عباد الله الأتقياء.
أما بعد.
عباد الله، اعلموا أننا عندما نتحدث ونتكلم عن العلم وفضله ومنزلة أهله؛ فإننا لا نخاطب بذلك فئة من الناس، أو شريحة من المجتمع، بل نتحدث ونخاطب الجميع الصغير والكبير، الذكر والأنثى، فالعلم ليس وقفاً على طائفة من الناس، لا يَرِدُه غيرهم، بل هو مباح للجميع، إذ العلم يحتاجه كلُّ أحد، فحريٌّ بنا -كباراً وصغاراً ذكوراً وإناثاً- أن نبذل قُصارى جهدنا في تحصيل العلم وكسبه. فلا يمنعن كبيراً كِبَرُ سنه أن يطلب العلم ويتفقه ويستدرك ما فات من عمره؛ فإن استدراك المعالي فضيلة، ولأن تكون كبيراً متعلماً أولى من أن تكون كبيراً جاهلاً، وقد حُكي أن بعض العلماء رأى شيخاً كبيراً يحب العلم ومجالسه، إلا أنه يستحي من كبر سنه فقال له: يا هذا أتستحي أن تكون في آخر عمرك أفضلَ منك في أوله ؟
والمطالع في سير العلماء الفضلاء والأئمة النبلاء، يرى أن بعض كبار من ذاع صيتُهم وعلا ذكرهم وترددت أسماؤهم في مجالس الذكر وكتب العلم ودواوين السنة؛ لم يبدؤوا رحلتهم في طلب العلم وتحصيله، إلا بعد أن تقدمت بهم السن، ومع هذا كله حازوا الفضائل وبلغوا الأماني وكان لهم من الأثر في زمانهم وبعده ما حفظه التاريخ لهم، والسر في هذا أن العلم فضلٌ من الله تعالى ومنَّه ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ لحديد: 21. فليست الفضائل العلمية والمراتب العلية مرهونة بالأسباب المادية من حضور الحِلَق وقراءة الكتب وثني الركب فحسب، بل الأمر أعظم من ذلك، فالعلم حقيقته ما قاله الأول:
فتلك مواهبُ الرحمنِ ليستْ *** تحصُلُ باجتهادٍ أو بكسبٍ
ولكن لا غنى عن بذلِ جهـدٍ *** بإخلاصٍ وجدٍّ لا بلِعبٍ"مدارج السالكين"(2/508)
فعليكم -يا من سلكتم دروب العلم وركبتم مناهج الطلب- بصدق التوجه إلى الله تعالى، ودعائه بذُلٍّ وخضوع أن يرزقكم علماً نافعاً، قال الله تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فاطر: 2..
أيها المؤمنون! اعلموا أن من العلم ما لا يعذر العبد بجهله وتركه، وضابط هذا العلم أنه هو الذي يستقيم به دين العبد، سواءٌ كان ذلك في العقائد أو الأحكام، ويجمع أصول ما يجب معرفته في العقائد والأحكام حديث جبريل الطويل، والذي فيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان وعن أمارات الساعة، فإن في آخر الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) أخرجه مسلم في الإيمان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم 9 وقد تيسرت للأمة في هذه الحقبة من التاريخ سبلُ العلم ووسائل تحصيله، فالدروس قائمة والمحاضرات متوافرة والأشرطة العلمية والكتب الدينية منتشرة ميسرة. فهل بعد هذا من عذر أم هل بعد ذاك من مبررٍ لتفشي الجهل بين الأمة ؟ لا، ولكنه الإعراض عن الخير والزهد في البر والرضا بالجهل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فمن كانت هذه حاله فإنه يُخشى أن لا يُرجى فلاحه، ولا يؤمل صلاحه، فإن من أعرض عن العلم أعرض الله عنه، ومن تركه وأدبر عنه كان ضلاله مستحكماً ورشاده مستبعداً، وكان هو الخامس الهالك الذي قال فيه أبو الدرداء رضي الله عنه: (اغد عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامس فتهلِك) رواه البيهقي في المدخل "381" ص269, والفسوي 3/ 398)، وانظر "جامع بيان العلم وفضله"(1/71). وقال ابن القيم رحمه الله:
والجهل داء قاتل وشـفاؤه *** أمران في التركيب متفقان
نص من القرآن أو من سنة*** وطبيب ذاك العالم الربانِ"متن القصيدة النونية" ص(265)
وفقنا الله وإياكم إلى العلم النافع الراسخ ورزقنا أوفر الحظ والنصيب.