وسائلُ الإعلامِ
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
فيا أيها المؤمنون.
اتقوا اللهَ تعالى، واحذروا أسبابَ الشرِّ وسبلَه، فإن الشيطانَ قاعدٌ لكم بالمرصاد، يؤزُّكُم إلى المعاصي أزًّا، ويزهِّدُكم في الطاعات والقربات، كما قال الله تعالى: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ سورة الأعراف (16).
أيها المؤمنون.
إن من أبرزِ سماتِ هذا العصر ثورةً كبرى في الإعلامِ والاتصالاتِ، غدا بها عالمُنا اليومَ شبكةً متداخلةً، متصلةَ الأطرافِ، فمَا يجرِي في أقصى العالم يعلمُه ويطَّلعُ عليه من في سائرِه، ولم تعُدْ بقعةٌ من العالمِ في منأىً عن هذا الاشتباكِ والاتصالِ، الذي يكادُ يطبقُ على الأرضِ، فوسائلُ الإعلامِ والاتصالِ على اختلافِها وتنوُّعِها، تطرُقُ كلَّ بابٍ، وتدخل كلَّ بيتٍ، وتنزلُ في كلِّ وادٍ، فيطالعُها الصغيرُ والكبيرُ، والعالمُ والجاهلُ، والذكرُ والأنثى، والحاضرُ والبادِ.
فليت شعري !! كيف هي الحالُ لو سُخِّرت هذه النعمةُ الكبرى في هداية الناس، ودلالتهم على سعادة الدنيا وفوز الآخرة؟!
أيها المؤمنون.
إن لوسائلِ الإعلامِ على اختلافِها قوةً، لها شأنُها وأثرُها الكبيرُ في تشكيلِ الآراء والأفكار، وصياغةِ العقولِ وتربية الأجيالِ، وإن مما يُفزِع العقلاءَ، ويُقلق الحكماءَ، ويقضُّ مضاجعَ العلماء أن هذه الوسائلَ الخطيرةَ -التي لا يخفى أثرُها في تغييرِ الأممِ والمجتمعات- ما تزالُ في معظمِها في يدِ حفنةٍ من أعداءِ اللهِ ورسله عليهم الصلاة والسلام، الذين يصدُّون عن سبيلِ اللهِ ويبغونها عِوَجاً، ويحبون أن تشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا، ويريدون أن نميلَ ميلاً عظيماً, ومما يزيدُ الأمرَ شِدَّةً، والطينَ بِلَّةً أن أكثرَ الناسِ في غفلةٍ عن خطورةِ هذه الوسائلِ، حتى أن فِئاماً من الناسِ أقبلوا على هذه الوسائلِ إقبالَ الجائعِ الصاديِ على طعامِه وشرابِه، لا سيما قنواتُ البثِّ المباشرِ، التي تسمى الدشوشُ، فأسلموا لهذه القنواتِ قيادَهم، وعطَّلوا عقولَهم وفطرَهم، فتحوا لها أبوابَهم، بل أفئدتَهم وقلوبَهم، فأَعنَّا أعداءَنا على أنفسِنا، فغدا بسببِ كثيرٍ من هذه الأجهزةِ المعروفُ منكراً، والمنكرُ معروفاً، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المؤمنون! إن لوسائلِ الإعلامِ والاتصالِ على اختلافِها وتنوعها، صحافةً أو إذاعةً أو تلفازاً أو قنواتِ بثٍّ مباشرٍ أو غيرَها مما شابهها، إن لها أضراراً وأخطاراً عظاماً، يتلاشى أمامها ما قد يوجدُ فيها من المنافع إن وجدت، فالواجبُ توقي هذه الأخطارِ، وتلك الأضرارِ، والحذرُ منها، والانتباهُ لها، وليس الخبرُ كالمعاينة.
أيها المؤمنون! إنَّ من أكبرِ أخطارِ هذه القنوات، وتلك الوسائلِ الإعلاميةِ: أنها غَدَت من أهمِّ أدواتِ أعدائنا، في تحقيقِ مآربِهم وأهدافِهم ومخططاتِهم، في التسلطِ على الأمةِ، ونهْبِ خيراتِها، وسلبِ إرادتِها، والتشكيكِ في دينِها وثوابتِها.
ومن أخطارِ هذه الوسائلِ أيضاً: إضعافُ العقيدةِ، بإظهارِ شعائرِ الكفرِ وتمجيدِها، والقضاءِ على مفهومِ البراءةِ من الكفرِ ومِلَلِه وأهلِه، فإنَّ نشرَ صورِ الكفارِ وديانتِهم وشعائرِهم وأعمالِهم، تُذهبُ من النفوسِ استنكارَها، وتُقِرُّ استساغتَها، وتزيلُ من النفوسِ البغضَ لها ولأهلها .
أيها المؤمنون! إن من مفاسدِ الإعلامِ وأجهزتِه: أنها تروِّجُ وتدعو إلى التشبُّهِ بالكفارِ في أخلاقِهم وأفكارِهم وآدابِهم ونُظُمِهم وعاداتِهم، وملابسِهم وقصَّات شعورِهم، بل وفي معتقداتهم.
أيها المؤمنون.
إن من مفاسدِ قنواتِ الشرِّ، ووسائلِ الإفساد: أنها تقتلُ الفضيلةَ، وتحيي الرذيلةَ، وتشيعُ الفاحشةَ، وتحاصرُ الحسنةَ وتمجدُ الفسادَ والإلحادَ، وتزهِّدُ في طاعةِ ربِّ العبادِ، تثيرُ الشهواتِ والغرائزَ، وتزيِّنُ السيئاتِ والفواحشَ، فهي سببُ كثيرٍ من الانحرافِ، الذي يعانيه كثيرٌ من الناسِ في أبنائِهم وبناتِهم، وهو نتاجُ تلك المسموعاتِ والمرئياتِ.
أيها المؤمنون.
إنَّ من مفاسدِها: أنها تعوِّدُ المرءَ على رؤيةِ المنكراتِ وعدمِ إنكارِها، وهذا من أخطرِ مفاسدِها، وإنه لمن المؤسفِ المؤلمِ حقَّا أن ترى كثيراً ممن يحبُّون الخيرَ، ويحضرون مجامعَ البرِّ فضلاً عن غيرهم من الخلق، قد استمرؤوا جلوسَ الساعاتِ الطوالِ أمامَ أجهزةِ الإعلامِ، لمتابعةِ برامجٍ تعجُّ بالمنكراتِ، فيها النساءُ المتبرجاتُ، والكلماتُ القبيحاتُ، والعقائدُ الفاسداتُ، وفيها الشرورُ والموبقاتُ، ملؤوا بها أبصارَهم وأسماعَهم، بل وأفئدتَهم وقلوبَهم، دون إنكارٍ لها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ألا يظنُّ أولئك أنهم مبعوثون، وعن هذه المناظرِ مسؤولون، وعلى تلك الساعاتِ محاسبون، أما يخشى هؤلاء على قلوبهم الفسادَ والعطبَ، من تلك المناظرِ القاتلةِ، والمشاهدِ الفاتنةِ، التي تخرجُ فيها المرأةُ بكاملِ زينتِها، قد ارتدت أبهى ملابسِها، وأكثرَها فتنةً، وأصرخَها ألواناً، تحكي على الملأِ كلاماً، يبعثُ في القلوبِ الشهواتِ، ويهيِّج في النفسِ الغرائزَ والنزواتِ، مع ما يصاحبُها من مجمِّلاتٍ ومحسِّناتٍِ، أين هؤلاء من قوله صلى الله عليه وسلم : (النظرةُ سهمٌ من سهامِ إبليسٍ) أحرجه الحاكم (7875)، وقال: صحيح الإسناد.
أيها المؤمنون، إن من مفاسدها تقليلَ الخيرِ، وهدمَ بناء أهله، وتكثيرَ الشرِّ، وإفسادَ أهلِه، فإن ما تبنيه وسائلُ الإصلاح، ومنابعُ الخير في المساجدِ والمدارسِ وغيرها، تهدمُه الأغنيةُ الماجنةُ، وتبغِّضُ فيه الأفلامُ الخليعة، أو الصحفُ والمجلاتُ المبتذلةُ، أو القصصُ الرخيصةُ أو القنواتُ الخبيثةُ، وما أجودَ ما قاله الأوَّلُ في وصفِ هذا الواقع، حيث قال :
متى يبلـغُ البنيانُ يـوماً تمامَه *** إذا كنتَ تبنِيِه وغيرُك يهدمُ
ولو ألفُ بانٍ خلفَهم هادمٌ كفى *** فكيف ببانٍ خلفَه ألفُ هادمٍ ديوان بشار بن برد (1031)
الخطبة الثانية :
أما بعد .
فإن من واجبِنا تجاهَ ماذكرناه من أخطارٍ حفظَ النفسِ والأهلِ، من هذه الوسائل، لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾ سورة التحريم : (6).
التواصيَ بالحقِّ، وذلك بإشاعةِ الوعي بأخطارِ هذه الوسائلِ، والتذكيرِ بها.
الاحتسابَ عليها بالإنكار على ماتبثُّه من شرورٍ، وتنشرُه بين المسلمين، بالمهاتفةِ أو المكاتبةِ، أو غير ذلك من الوسائلِ المتاحةِ الممكنةِ.