إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعيِنُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوُذُ بِاللهِ مِنْ شُروُرِ أَنْفُسِنا وَمِنْ سَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَليًّا مُرْشِدًا.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لا شَريِكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسوُلُهُ، صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ، وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ، ومَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ إِلَىَ يَوْمِ الدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقوُا اللهَ تَعالَىَ في السِّرِّ وَالعَلَنِ، وَالغَيْبِ وَالشَّهادَةِ؛ فَتَقْواهُ تَجْلبُ كُلَّ خَيْرٍ وَتَدْفَعُ كُلَّ سوُءٍ؛ ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ الطلاق: 2 - 3 ، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ الطلاق: 5 .
عِبادَ اللهِ, إِنَّ أُوْلىَ العَلاقاتِ البَشَرِيَّةِ وَأَسْبَقَ الرَّوابِطِ الِإْنسانِيَّةِ هِيَ بَيْنَ الرَّجُلِ واَلمَرْأَةِ بِعَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ, فَرَابِطَةُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالمرأَةِ أَسْبَقُ العلاقاتِ وَأَقْدَمُ الصِّلاتِ؛ قالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ النساء:1 .
عَنْ هِذِهِ الرَّابِطَةِ - رِابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ - نَشَأَتْ كلُّ العلاقاتِ مِنْ أُبُوَّةٍ وَبُنُوَّةٍ وَعُموُمَةٍ وَخُؤُوُلَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّلاتِ؛ قالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ النحل: 72 .
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعالَىَ هَذا الاتِّصالَ وَهذهِ الرَّابِطَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالمرأَةِ في عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ آيةً مِنْ آياتِهِ، وَعَلامَةً مِنْ علاماتِ أُلوُهِيَّتِهِ وَبَراهيَن قُدْرَتِهِ وَرُبوُبِيَّتِهِ؛ قالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الروم: 21 .
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, لَيْسَ في العَلاقاتِ البَشَرِيَّةِ أَقْرَبُ مِنَ العَلاقَةِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالمرْأَةِ، يَصِفُ القُرْآنُ ذَلِكَ بِلَفْظٍ موُجَزٍ فَيَقوُلُ جَلَّ في عُلاهُ: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ البقرة: 187 فَكُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِباسٌ لِلآخَرِ، وَالِّلباسُ يَحْصُلُ بِهِ مِقْصِدانِ: السِّتْرُ وَالوِقايَةُ، وَالتَّجَمُّلُ وَالتَّزَيُّنُ.
قالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ﴾ يَسْتُرُ عَوْراتِكُمْ، ﴿وَرِيشًا﴾ أَيْ: تَتَجَمَّلوُنَ بِهِ، ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾الأعراف:26 ، فَالمرْأَةُ لِلرَّجُلِ وَالرَّجُلِ لِلمَرْأَةِ سِتْرٌ وَجَمالٌ، صِيانَةٌ وَطُمَأْنيِنَةٌ، سَكَنٌ وَمَوَدَّةٌ، هَكَذا صَوَّرَ القُرْآنُ العَلاقَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ في هَذا العِقْدِ.
وَذاكَ أَنَّ هَذِهِ الصِّلَةَ مَبْدَأُ الصِّلاتِ، وَعَنْها تَنْشَأُ كُلُّ العَلاقاتِ فيِ المُجْتَمَعِ؛ وَلهذا لا تَعْجَبْ عِنْدَما تَرَىَ القُرْآنِ الكَريِمِ اعْتَنَىَ بِالأُسْرِةِ عِنايَةً فَائِقَةً، وَاعْتَنَىَ بِعَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ اعْتِناءً عَظيمًا، فَبَيِّنَ ما تَطيِبُ بِهِ الحياةُ الزَّوْجِيِّةُ، وَما تَقوُمُ بِهِ العَلاقَةُ الأُسَرِيَّةُ، وَبيَّنَ المخارجَ في حال وُجِدَتْ العواثِرُ سَواءٌ بِنُشوُزِ الرَّجُلِ أَوْ بِنُشوُزِ المرْأَةِ وَإِعْراضِها، أَوْ بِحصوُلِ الشِّقاقِ، وَبَيَّنَ أَحْكامَ الفِراقِ بِالتَّفْصيِلِ وَما يَتَرَتَّبُ عَلَىَ الطِّلاقِ مِنَ التَّشْريِعاتِ وَالحُقوُقِ.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, إِنَّما تَطيِبُ الصِّلَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيِنِ وَتَعيِشُ الأُسْرَةُ في وِئامٍ وَاسْتِقامَةٍ حالَ؛ إِذا اتَّقَىَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيِنِ رَبَّه فيِما عَلِيْهِ مِنَ الحُقوُقِ، وَبادَرَ إِلَىَ الوفاءِ بِالواجِبِ وَأداءِ الأَمانَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعالَىَ قَدْ جَعَلَ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيِنِ حَقًّا عَلَىَ الآخِرِ؛ قالَ اللهُ تَعالَىَ في عِبارةٍ موُجَزَةٍ وَاضِحَةٍ بَيَّنَ فيِها ما الَّذيِ لِلمَرْأَةِ وَما الَّذِيِ عَلَيْها، وَما الَّذي لِلرَّجُلِ وَما الَّذيِ عَلَيْهِ، قالَ تَعالَىَ: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ البقرة: 228 ، أَيْ: لِلزِّوْجاتِ عَلَىَ أَزْواجِهِنَّ مِنَ الحُقوُقِ وَالَّلوازِمِ مِثْلُ الَّذِيِ عَلَيْهِنّ لأزواجِهِنَّ مِنَ الحُقوُقِ الَّلازِمَةِ وَالمسْتَحَبَّةِ، وَسواءٌ كانَ ذَلِكَ في أَوَّلِ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ في مُنْتَهاهُ، وَكَذَلِكَ في حالِ الوِفاقِ وَالخِلافِ.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعالَىَ المَرْجِعَ في الحقوُقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَىَ المعْروُفِ في كَثِيِرٍ مِنْ شؤوُنِ العَلاقاتِ الزَّوْجِيِّةِ فيِ النَّفَقَةِ وَالكِسْوَةِ وَالمعاشَرَةِ وَالسَّكَنِ، كُلُّ ذَلِكَ يِأْمُرُ اللهُ تَعالَىَ فيِهِ بالمعروُفِ؛ ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ النساء:19 ، وَالمَعْروُفُ هُوَ: العَادَةُ الجَارِيَةُ المُسْتَقيِمَةُ فيِ كُلِّ بَلَدٍ بِحَسْبِهِ عَلَىَ اخْتِلافِ الزَّمانِ وَعَلَىَ اخْتِلافِ الأَحْوالِ، يخَتْلِفُ بِاخْتِلافِ الأَزْمِنَةِ وَالأَمْكِنَةِ وَالأَحْوالِ وَالأَشْخاصِ وَالعوائِدِ.
وَقَدْ بَدَأَتِ الآِيةُ الكرِيَمةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ بِبَيانِ حَقِّ المرْأَةِ قَبْلِ الَّذِيِ عَلَيْها؛ لِأَنَّ المرْأَةَ ضَعيِفَةٌ، وَقَدْ قالَ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ، وَالْمَرْأَةِ»أخرجه ابن ماجة(3678)بإسناد جيد فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَاعْلَموُا أَنَّ الدَّرَجَةَ الَّتِيِ ذَكَرها اللهُ تَعالَىَ لِلِّرجالِ عَلَىَ النِّساءِ في قَوَلِهِ: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، لِيْسِتْ دِرِجِةَ عُلُوٍّ وَلا عَسَفٍ وَلا عُنْفٍ وَلا اسْتِكْبارٍ، إِنَّما هِيَ دَرَجَةُ القَوامَةِ الَّتيِ هِيَ مَسْؤوُلِيَّةٌ وَأَمانَةٌ، وَهِيَ وَاجِبٌ كَلَّفَ اللهُ بِهِ الرِّجالُ في قِيادَةِ الأُسْرَةِ وَإِصْلاحِ هَذِهِ الصِّلَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ، فالحُقوُقُ الَّتيِ عَلَىَ الرَّجُلِ أَعْظَمُ مِنَ الحُقوُقِ عَلَىَ المَرْأَةِ في هذا العَقْدَ؛ ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ النساء: 34 .
وقد جاءت السُّنَّة مبيِّنةً لِكُلِّ ما تَصْلُحُ بِهِ هَذِهِ الصِّلَةُ، وَمُبَيِّنَةً لِبَعْضِ الحُقوُقِ الَّتِي تَثْبُتُ لِلزِّوْجَيْنِ، وَقَدْ ذَكَّرَ بِها النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مَشاهِدَ عَديِدَةٍ، وَخَصَّ أَعْظَمَ مَشْهَدٍ حَصَلَ لَهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْظَمُ جَمْعٍ كانَ فيِهِ، فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَالنَّاسُ جَمْعٌ عَظيمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، مِنْهُمْ حَديِثُ العَهْدِ بِالإِسْلامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَبَقَ إِلَىَ الإِيمانِ، قَالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فاتقوا الله في النساء، فإنكم استحللتم فروجهن بكلمة الله، وأخذتموهن بأمان الله، ولكم عليهن أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَه، فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح» تأديبًا لا ألـمًا وعقوبةً، «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن».مسلم(1218) وَقَدْ جاءَ رَجُلٌ إِلَىَ النَّبِيِّ- صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقالَ: يا رَسوُلَ اللهِ ما حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنا عَلَيْنا؟ قَالَ: «أَنْ تُطْعِمَها إِذا طَعِمْتَ، وَأَنْ تَكْسوُها إِذا كُسيِتَ، وَلا تَضْرِبَ الوَجْهَ وَلا تُقَبِّحْ»أبوداود(2142), بإسناد صحيحيعني: ولا تَتَكَلَّمْ بِكلامٍ قَبيِحٍ، «وَلا تَهْجُرِ إِلَّا في البَيْتِ» أَيْ: إِذا اقْتَضَىَ الأَمْرُ أَنْ يَتْرُكَ الرَّجُل مُحادَثَةَ المرأَةِ لِإصْلاحٍ وَإِقامَةِ حَقٍّ وَزَجْرٍ عَنْ شَرٍّ، فَلا يَكوُنُ ذَلِكَ إِلَّا في البَيْتِ دونَ هَجْرٍ لِلبَيْتِ وَتَرْكٍ لِلمَنْزِلِ.
أَكَّدَ النَِّبيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقَّ الرَّجُلِ عَلَىَ المرأَةِ فَقالَ: «لَوْ أَمَرْتُ أَحدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ المرْأَةَ أََنْ تَسْجٌدَ لِزَوْجِها»الترمذي(1159), وَقالَ: حَسَنٌ.، وَرَتَّبَ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهَ وَسَلَّمَ عَلَىَ القِيامِ باِلحقوُقِ أَجْرًا عَظيمًا وَفضْلاً كَبيِرًا، فَقالَ فيما يَتَعَلَّقُ بِالمرْأَةِ: «إذا صَلَّتِ المرْأَةُ خَمْسَها، وَصامَتْ شَهْرَها، وَحَفِظَتْ فَرْجَها وَأَطاعَتْ بَعْلَها»؛ يَعْنِي زَوْجَها؛ «دَخَلَتْ مِنْ أَيْ أَبْوابِ الجَنَّةِ شاءَتْ»أحمد(1661), وهو: حسن لغيره.
وَقالَ في فَضْلِ قِيامِ الرَّجُلِ بِالحَقِّ الذِّيِ عَلَيْهِ لِأَهْلِهِ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنا خَيْرُكُمْ لِأَهْليِ»الترمذي(3895), وقال:حسن صحيح..
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, وُجوُدُ القُصوُرِ أَوْ التَّقْصيِرِ مِنْ طَرَفٍ في عَقْدِ الزَّوْجِيِّةِ مِنْ الرَّجُلِ أَوِ المرْأَةِ لا يُسوِّغُ أَنْ يُعالجَ ذَلِكَ التَّقْصيِرَ وَذَلِكَ القُصوُرَ بِالبُغْضِ وَالكراهِيَةِ وَالنُّفوُرَ، بَلْ قَدْ قالَ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً» أي: لا يكره مؤمنٌ مؤمنةً، «إن كره منها خلقًا رضي منها خلقًا آخر»مسلم(1469)، إِنَّهُ لا يُمْكِنُ أَنْ يَجِدَ الِإنْسانُ مَنْ يُوافِقُهُ في كُلِّ شَأْنِهِ، وَيَقوُمُ عَلَىَ الحالِ الَّتِي يَشْتَهِيِ وَيُحِبُّ في كُلِّ أَحْوالهُ، بَلْ ذَلكَ محُالٌ أَنْ يَكوُنَ؛ فالطَّبائِعُ وَالنُّفوُسُ لَها مِنَ الحوائِجِ وَالاخْتِلافِ وَالتَّنَوُّعِ ما يِقْتَضِيِ في بَعْضِ الأَحْيانِ التَّنافُرَ وَعَدَمَ الموَافَقَةِ، لَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَّهَ إِلَىَ ما يَحِلُّ بِهِ مِثْلِ هذا، بِأَنْ يَنْظُرَ الإِنْسانُ إِلَىَ الإيِجابِيِّ في خِصالِ صاحِبِهِ، فالمرأَةُ تَنْظُرُ إِلَىَ حَسناتِ زَوْجِها وَتُعْرِضُ عَنِ السِّيئاتِ، وَالرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَىَ حَسَناتِ امْرأَتِهِ وَيُعْرِضُ عَنِ السَّيِّئاتِ، «لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، وَلا تَفْرَكْ مُؤْمِنَةٌ مُؤْمِنًا، إِنْ كَرِهَ مِنْها خُلُقًا، رَضِيَ مِنْها خُلَقًا آخَرَ»مسلم(1469).
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, قِيامُ الِإنْسانِ بما يَجِبُ عَلَيْهِ يَحْتاجُ إِلَىَ صَبْرٍ وَمُصابَرَةٍ، وَإِلَىَ مُعاناةٍ وَدوَامِ مُلاحَظَةٍ؛ فَإِنَّ النُّفوُسَ مَجْبوُلَةٌ عَلَىَ الشُّحِّ، فَالنُّفوسُ مَجْبوُلَةٌ عَلَىَ عَدَمِ الرَّغْبَةِ في بَذْلِ ما عَلَيْها مِنْ الحُقوُقِ، وَفي المقابِلِ هِيَ مَجْبوُلَةٌ عَلَىَ تَحْصيِلِ كُلِّ ما لهَا مِنَ الحُقوُقِ، وَذاكَ هُوَ التَّطْفيِفُ الَّذِيِ تَوعَّدَ اللهُ أَهْلَهُ فَقالَ: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ﴾ أي: أخذوا الحق منهم، ﴿يَسْتَوْفُونَ﴾ المطففين: 1 - 2 ؛ أي: يأخذونه كاملًا، ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ﴾ أي: وعند بذل الحق الذي عليهم، ﴿يُخْسِرُونَ﴾ المطففين: 3 ، أَيْ: يُنْقِصوُنَ، فَهُمْ في الاسْتِيفاءِ وَأَخْذُ الحقوُقِ يَسْتَقْصوُنَ الغايَةَ وَالمنْتَهَىَ لأَخْذِ كُلِّ ما لَهُمْ، وَفيما يَتَعَلَّقُ بِبَذْلِ الحُقوُقِ يَتكاسَلوُنَ وَيَعْجَزوُنَ وَيَبْخلوُنَ، فَيَنْقصوُنَ حقوُقَ الخَلْقِ؛ هَؤُلاءِ هُمْ المطَفِّفوُنَ سَواءً كانَ ذَلِكَ في بَيْعٍ أَوْ شِراءٍ، أَوْ كانَ ذَلِكَ في مُعامَلَةٍ مِنَ المعامَلاتِ وَلَوْ لمْ تَكُنْ بَيْعًا أَوْ شِراءً كَحَقِّ الرَّجُلِ عَلَىَ المرْأَةِ، وَالمَرْأَةِ عَلَىَ الرَّجُلِ، وَحَقِّ الوالِدَيْنِ، وَحَقِّ الجيرانِ، وَحَقِّ الأَصْحابِ، وَحَقِّ وُلاةِ الأَمْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الحُقوُقِ، كُلِّها يَنْبَغِيِ أَنْ تُبْنَىَ عَلَىَ العَدْلِ، بِأَنْ تَبذُلَ الحَقَّ الَّذِي عَلَيْكَ وَأَنْ تَسْأَلَ اللهَ الحَقَّ الَّذِي لَكَ؛ فَإِنَّ ذَلَكِ ما وَجَّهَ إِلَيْهِ النَّبِيُ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ - فيِما جاءَ في الصَّحيحَيْنِ مِنْ حديِثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعوُدٍ، قالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكمْ سترونَ بعديِ أَثَرَةً، وأمورًا تُنكرونَها»، قالوُا: فَما تأْمرُنا يا رسوُلَ اللهِ؟ يَعْنيِ إذا وُجِدَتْ الأَثَرَةُ، وَهِيَ الإِمْساكُ عَنْ بَعْضِ ما لِلإِنْسانِ مِنَ الحَقِّ. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «أدوا إليهم»، يَعْنِيِ لِوُلاةِ الأَمْرِ وَلأَصْحابِ الحُقوُقِ «حَقَّهُمْ، وَاسْأَلوُا اللهَ حَقَّكُمْ»البخاري(7052) وَفِي كُلِّ الأَحوالِ؛ الواجِبُ عَلَىَ الزَّوْجيْنِ العَشْرَةُ بِالمعْروُفِ كَما أمَرَ اللهُ جَلَّ وَعَلا، فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُقيِمَنا وَإِيَّاكُمْ عَلَىَ الطَّاعَةِ وَالإِحْسانِ، وَأَنْ يُصْلحَ ذاتِ البَيْنِ، وَأَنْ يَرْزُقَنا أَداءَ الحُقوُقِ الَّتِيِ عَلَيْنا، وَأَنْ يُعيِنَنا عَلىِ الصَّبْرِ عَلَىَ ما يَكوُنُ مِنْ قُصوُرٍ أَوْ تَقْصيرٍ، أَقوُلُ هَذا القَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظيمِ َليِ وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِروُهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفوُرُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ حَْمدًا كَثيرًا طَيِّبًا مُباركًا فِيِهِ، أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، لَهُ الحَمْدُ فيِ الأوُلَىَ وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستصحبوا رقابته ووقوفكم بين يديه؛ فإنه سائلكم عن الدقيق والجليل، «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته»البخاري(893), ومسلم(1829).
اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
أيها المؤمنون عباد الله، إنَّ الله تعالى أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وجعل الصلة بين الزوجين قائمةً على الأمر بالمعروف وإصلاح الحال على نحوٍ تستقيم به هذه الصلة، فالواجب على الزوجين ما أمر الله تعالى به في قوله: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وهو مأمورٌ به في كل الأحوال، فقد قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، حتى في حال الطلاق والفراق أمر الله تعالى بالمعروف، فقال جل وعلا: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾، وخيَّر الناس بين أمرين: ﴿فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ البقرة: 229 ، وقال الله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾، مع أنَّ الطلاق لا يكون في الغالب إلا عن نوع من المفارقة والاختلاف والتباعد بين الزوجين، قال تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ البقرة: 231 ، وفي الآية الأخرى قال: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ الطلاق: 2 ، فَهَنيِئًا لمَنْ لزِمَ المعروُف في كُلِّ مُعامَلاتهِ؛ فَإِنَّهُ ناجِحٌ مُفْلِحٌ مَهْما اعْتراهُ مِنْ نَقْصٍ في دُنيْاه،ُ فَإْنَّهُ فَائِزٌ بِسَعَةِ الصَّدْرِ وَانْشراحِ البالِ وسَلامَةِ الحالِ، كَما أَنَّهُ فائِزٌ بِسلامَةِ المآلِ وَالمنْتَهَىَ، فالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقينَ.
الَّلهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ المتَّقيِنَ وَحِزْبِكَ المفْلِحينَ وَأَوْلِيائِكَ الصَّالحينَ.
عِبادَ اللهِ, قوُموِا بحَقِّ الخَلْقِ؛ فَإِنَّ حُقوُقَ الخَلْقِ مَبْنِيَّةٌ عَلَىَ المشاحَّةِ، وَذاكَ لَيْسَ في الدُّنْيا فَقَطْ، بَلْ في الآخِرَةِ؛ قالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ﴾ النساء: 128 ، هَذا في الدُّنْيا، وَفيِ الآخِرَةِ الأَمْرُ كَذلِكَ فَإِنَّ الإِنْسانَ يَرْتِهَنُ بِعَمَلِهِ، وَيَطْلُبُ زيادَةَ عَمَلِهِ مِنْ كُلِّ سَبيلٍ، ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ عبس: 34 - 36 ، يَفِرُّ لِئَلاَّ يُطالَبَ بِالحُقوُقِ الَّتيِ قَصَّرَ فِيها أوُ لِئَلا يُطالَبَ بَعَوْنٍ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ﴿يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا﴾ الدخان:41 .
الَّلهُمَّ أَعِنَّا عَلَىَ ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، اسْلُكْ بِنا سَبيِلَ الرَّشادِ، أَعْنَّا عَلَىَ ما فِيِهِ خَيْرُ المعاشِ وَالمعادِ، وَفِّقْنا إِلَىَ ما فِيِهِ صَلاحُ حالِنا وَمآلِنا يا ذا الجلالِ وَالِإكْرامِ.
الَّلهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أَموُرِنا، وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فيِمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ وَاتبَّعَ رضاكَ يا رَبَّ العالميِنَ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَليَّ أَمْرِنا الَملِكَ سَلْمانَ إِلَىَ ما تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، وَوَلِيَّ عَهْدِهِ إِلَىَ ما فِيِهِ الخَيْرُ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ. الَّلهُمَّ خُذْ بِنواصيِهِمْ إِلَىَ البِرِّ وَالتَّقْوَىَ وَصلاحِ العِبادِ وَالبَلادِ يا حَيُّ يا قَيُّوُمُ، وَاكْتُبْ مِثْلَ ذَلِكَ لِسائِرِ وُلاةِ المسْلِمينَ يا رَبَّنا يا ذا الجَلالِ وَالِإكْرامِ.
الَّلهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ لأَنْفُسِنا وَبِلادِنا وَالمسْلِميِنَ كُلَّ خَيْرٍ عَاجِلٍ وَآجِلٍ، وَأَنْ تَصْرِفَ عَنَّا الفِتَنَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، الَّلهُمَّ إِنَّا نَعوُذُ بِكَ مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ مِنْها وَمَا بطَنَ، الَّلهُمَّ إِذا أَرَدْتَ بِعبادِكَ فِتْنَةً فاقْبِضْنا إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتوُنَيِنَ، الَّلهُمَّ اقْبِضْنا إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتوُنِيِنَ، الَّلهُمَّ اقْبِضْنا إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتوُنِيَِن يا ذا الجَلالِ وَالإِكرْامِ.
﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الأعراف:23 .
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ الحشر:10 .
صَلوُّا عَلَىَ نَبِيِّكُمْ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلِّموُا، وَأَكْثرِواُ مِنَ الصَّلاةِ عَلَيْهِ يَوْمَكُمْ هَذا؛ فَإِنَّ صَلاتَكُمْ مَعْروُضَةٌ عَلَيْهِ، فيِها مَزيدَ أَجْرٍ وَفَضْلٍ وَثوابٍ في هَذا اليَوْمِ، يَوْمِ الجُمْعَةِ عَلَىَ سائِرِ الأَيَّامِ؛ وَلِذَلِكَ قالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحابِهِ وَلِأُمَّتِهِ: «إن مِنْ أفضل أيامِكُم يومَ الجُمعة..فأكثروا على مِن الصلاةِ فيه، فإن صلاتكم معروضة علىّ»أخرجه: أبو داود(1047), والنسائي(1374), وهو: صحيح، الَّلهُمَّ صَلِّ عَلَىَ مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آلِ مُحَمَّدٍ؛ كَما صَلَّيْتَ عَلَىَ إِبْراهيمَ وَعَلَىَ آلِ إِبْراهيِمَ؛ إِنَّكَ حميِدٌ مَجيدٌ.