وحاصل إيضاح هذا الجواب أن الذكرى تشتمل على ثلاث حكم:
الأولى:
خروج فاعلها من عهدة الأمر بها.
الثانية:
رجاء النفع لمن يوعظ بها وبين الله تعالى هاتين الحكمتين بقوله تعالى: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وبيّن الأولى منها بقوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}. وقوله تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} ونحوها من الآيات. وبين الثانية بقوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}.
الثالثة:
إقامة الحجة على الخلق وبينها الله تعالى بقوله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}. وبقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} الآية. فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا كرر الذكرى حصلت الأولى والثالثة فإن كان في الثانية طمع استمر على التذكير وإلا لم يكلف بالدوام والعلم عند الله تعالى.
وإنما اخترنا بقاء الآية على ظاهرها مع أن أكثر المفسرين على صرفها عن ظاهرها المتبادر منها وأن معناها: فذكر مطلقا إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع لأننا نرى أنه لا يجوز صرف كتاب الله عن ظواهره المتبادر منه إلا لدليل يجب الرجوع له. وإلى بقاء هذه الآية على ظاهرها جنح ابن كثير حيث قال في تفسيرها أي ذكر حيث تنفع التذكرة ومن هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم فلا يضعه في غير أهله كما قال على رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. وقال حدث الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله.
(تنبيه) هذا الإشكال الذي في هذه الآية إنما هو على قول من يقول باعتبار دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة وأما على قول من لا يعتبر مفهوم المخالفة شرطا كان أو غيره كأبي حنيفة فلا إشكال في الآية وكذلك لا إشكال فيها على قول من لا يعتبر مفهوم الشرط كالباقلاني فتكون الآية نصت على الأمر بالتذكير عند مظنة النفع وسكت عن حكمه عند عدم مظنة النفع فيطلب من دليل آخر فلا تعارض الآية الآيات الدالة على التذكير مطلقا.
(سورة الغاشية)
قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ}.
قوله تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} الآية. ظاهر هذه الآية أن الجنة فيها عين واحدة وقد جاءت آيات آخر تدل على خلاف ذلك كقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}. والجواب هو ما تقدم في الجمع بين قوله:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} مع قوله فيها: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية. فالمراد بالعين العيون كما تقدم نظيره في سورة البقرة وغيرها.
(سورة الفجر)
قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} يوهم أنه ملك واحد وقوله: {صَفّاً صَفّاً} يقتضي أنه غير ملك واحد بل صفوف من جماعات الملائكة.
والجواب: أن قوله تعالى: {والملك} معناه والملائكة ونظيره قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا}. وتقدم بيانه بشواهده العربية في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنّ} الآية.