الحَمْدُ للهِ الَّذيِ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلماتِ وَالنُّوُرِ، لَهُ الحَمْدُ في الأوُلَىَ وَالآخِرَةِ، وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجعوُنَ، لَهُ الحَمْدُ كُلُّهُ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ، ظاهِرُهُ وَباطِنُهُ، لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْهِ، هُوَ كَما أَثْنَىَ عَلَىَ نَفْسِهِ، وَأَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لا شَريِكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرسوُلُهُ، صَفِيُّهُ وَخَليِلُهُ، خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقهِ، صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقوُا اللهَ تَعالَىَ بِامْتِثالِ شَرْعِهِ، وَتَرْكِ ما حَذَّركُمْ مِنْهُ وَنَهاكُمْ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ ﴿مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ الطلاق:5 .
عِبادَ اللهِ, إِنَّ مِنْ آياتِ اللهِ العَظيِمَةِ وَمِنْ نِعَمِهِ الجَليِلَةِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكْمْ أَزْواجًا لِتسكنُوُا إِلَيْها، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾الروم:21 ، فَفِيِ النِّكاحِ يا عِبادَ اللهِ خَيْراتٌ كَثيِرَةٌ، وَمصالحُ عَظيمِةٌ؛ وَلِذِلِكَ أَمَرَ اللهُ – تَعالَىَ - بِهِ في كِتابِهِ في مَواضِعَ كَثيِرَةٌ، ﴿وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ﴾ النور:32 ، ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ﴾ النساء:3 ، َوبَيَّنَ - جَلَّ فيِ عُلاهُ - مِنْ الأَحْكامِ ما يَتَبَيَّنُ بِهِ عظيمُ عِنايَةِ اللهِ – تَعالَىَ - بِهذا العَقْدِ العظيمِ، وَهَذا الميثاقُ الغليِظُ.
وَقَدْ حَثََّّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّتَهُ خَاصَّةً الشَّبابَ، فَقالَ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهَ وَسَلَّمَ -: «يا مَعْشَرَ الشَّبابِ مَنِ اسْتَطاعَ مِنْكُمُ الباءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلفَرْجِ»البخاري(1905), ومسلم(1400)، وَالباءَةُ: هِيَ القُدْرَةُ عَلَىَ النِّكاحِ وَالتَّزْوُّجِ بِالمالِ وَالبَدَنِ.
النَّكاحُ يا عِبادَ اللهِ سُنَّةُ المُرْسليِنَ؛ قالَ اللهُ – تَعالَىَ -: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾الرعد:38 ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ – تَعالَى - باِلاقْتداءِ بِسُنَنِهِمْ؛ فَقالَ: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾الأنعام:90 ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ - يَقوُلُ: «إِنِّي أَقوُمُ وَأَنامُ، وَأَصوُمُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»البخاري(5063), ومسلم(1401)فَلِلنِّكاحِ مَنْزِلَةٌ عَظيِمَةٌ؛ ذَلِكَ لما لَهُ مِنَ العوائِدِ الجميِلَةِ، وَالفوائِدِ الجَليِلَةِ الَّتِيِ تَعوُدُ عَلَىَ الفَرْدِ وَالمجتَمَعِ، فَالنِّكاحُ حِصنٌ حَصينٌ يَتَّقِيِ بِهِ المرْءُ، وَيَتَوَقَّىَ بِهِ المُجْتَمَعُ شَرًّا كَبيرًا، وَفَسادًا عَريِضًا، لاسِيَّما فيِمِا إِذا راجَتْ الفِتَنُ، وَكَثُرَتْ الدَّواعِيِ لِلشَّهواتِ، فَالنِّكاحُ مُعِيِنٌ عَلَىَ الاسْتِقامةِ، مُعِينٌ عَلَىَ حِفْظِ الدِّيِنِ، قاطِعٌ لِكَيْدش الشَّيْطانِ الرَّجيِمِ وَجنوُدِهِ المفْسديِنَ السَّاعيِنَ في غِوايَةِ الخَلْقِ وَإِضْلالِهِمْ؛ قالَ اللهُ – تعالَىَ -: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾النساء:27-28 .
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, إِنَّ مِمَّا يُحْزِنُ القَلْبَ ما نُشاهِدُهُ في واقِعٍ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ كَثْرَةِ العراقيِلِ وَالعَقباتِ الَّتيِ وُضِعتْ في طريقِ النِّكاحِ، في طَريقِ الحلالِ مَعَ كَثْرَةِ الفِتَنِ وَقِيامِ سوُقِ الشَّهواتِ، وَتَيَسُّرِ الحرامِ؛ فَمِنَ العَقباتِ الَّتيِ يَجِبُ التَّعاوُنَ عَلَىَ حَلِّها وَإِزالتِها فيِما يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ النِّكاحِ كَثْرَةِ تَكاليِفِ النِّكاحِ إِلَىَ حَدٍّ أَصْبَحَ النِّكاحُ مَعَهُ عَسيرًا عَلَىَ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ.
فَاتَّقوُا اللهَ أَيُّها المؤْمِنوُنَ، التَّقْوَىَ مَطْلوُبَةٌ مِنَ الجَميِعِ، مِنْ أَوْلِياءِ النِّساءِ وَمِنَ المتَزَوِّجيِنَ وَأُسَرِهِمْ وَعَوائِلِهِمْ، وَجِميِعِ أَفْرادِ المجْتَمَعِ، فَإِنَّ عُلُوَّ كُلْفَةِ الزَّواجِ يَرْجِعُ كَثيرٌ مِنْها إِلَىَ عوائِدَ، وَإِلَىَ أَعْرافٍ، وَإِلَىَ تَقالِيِدَ شاعَتْ في المجتَمَعاتِ حالَتْ دوُنَ تَيَسُّرِ الزَّواجِ وَتَسْهيِلِهِ، فَاتَّقوُا اللهَ أَيُّها المؤْمِنوُنَ، وَاحْرِصوُا عَلَىَ تَقْليِلِ كُلْفَةِ النِّكاحِ ما اسْتَطَعْتُمْ إِلَىَ ذَلِكَ سَبِيِلًا؛ فَإِنَّ قِلَّةَ الكُلْفَةِ، وَيُسْرَ المؤوُنَةِ مِمَّا يُعْظِمُ اللهُ – تَعالَىَ - بِهِ البَرَكَةُ في هَذا الارْتِباطِ، وَفيِ ذَلِكَ النِّكاحِ.
عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ تَعالَىَ عَنْها – أَنَّ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ النِّكاحِ بَركَةً أَيْسَرَهُ مُؤوُنَةً»مسند أحمد(24529)بإسناد ضعيف, وَلَهُ شَواهِدُ تُقَوِّيِهِ.، أَعْظَمُ النِّكاحِ بَركَةً عَلَىَ الزَّوْجَيْنِ، وَعَلَىَ أَهْلِهِما، وَعَلَىَ المجْتَمَعِ هُوَ ما كانَ أَيْسَرَ مَؤوُنَةً، أَيْ ما كانَ أَيْسَرَ كُلْفَةً، وَلَيْسَ فِيِهِ عنَاءٌ وَلا مَشَقَّةً؛ قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ تَعالَىَ عَنْهُ -: "لا تُغالوا في صُدُقِ النِّساءِ (أَيْ: في مُهوُرِهِنَّ) فَإِنَّها لَوْ كانَتْ مَكْرُمَةً فيِ الدُّنْيا، أَوْ تَقْوَىَ في الآخِرَةِ كانَ أَوْلاكُمْ بِها النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -"، ثُمَّ بيََّن كَيْفَ كانَ صَداقُهُ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهَ وَسَلَّمَ -، قالَ: "ما أَصْدَقَ رسوُلُ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً مِنْ نِسائِهِ، وَامْرأَةٍ مِنْ بِناتِه أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَ أوُقِيَّةً"سنن أبي داود(444)،بإسناد صحيح, وَهُوَ ما يُقارِبُ اليَوْمَ نَحْوَ أَلْفَيْ رِيـالٍ سُعوُدِيٍّ، فَهذا صَداقُ خَيْرِ الأَزْواجِ وَخَيْرِ البَناتِ.
فاتَّقوُا اللهِ عِبادَ اللهِ، وَلا تُغالوُا فِيِ مُؤَنِ الزَّواجِ وَمُهوُرِهِ، وَما يَتَعَلَّقُ بِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَجِبَ مِنْ صَحابيٍّ تَزَوَّجَ امْرأَةً بِأَرْبَعِ أَواقٍ مِنْ فِضَّةٍ؛ حَيْثُ جاءَ رَجُلٌ إِلَىَ النَّبِيِّ - صَلَّىَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقالَ: يا رَسوُلَ اللهِ: إِنِّيِ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصارِ، فَقالَ لَهُ الَّنبِيُّ - صِلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْها، فَإِنَّ في عيُوُن الأَنْصارِ شَيْئًا؟»، قالَ: قَدْ نَظَرْتُ إِلَيْها، قالَ: «عَلَىَ كَمْ تَزَوَّجْتَ؟»، قَالَ: عَلَىَ أَرْبِعِ أَواقٍ مِنْ فِضَّةً، فَقالَ لَهُ الَّنِبُّي - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعُ أَواقٍ!»، مُسْتَكْثِرًا ذَلِكَ، «كَأَنَّما تَنْحِتوُنَ الفِضِّةَ مِنْ أَرْضِ هذا الجَبَلِ»مسلم(1424)، فَاسْتَكْثَرَ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذا القَدْرَ مِنَ المَهْرِ في النِّكاحِ، وَهُوَ أَرْبَعُ أَواقٍ، وَهُوَ شَيْءٌ يَسيِرُ دوُنَ نِصابِ الزكاةِ.
فَاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَيَسِّروُا أَمْرَ النِّكاحِ، وَتَيْسيِرُ أَمْرِ النِّكاحِ لا يَخْتَصُّ المهْرُ فَقَطْ، بَلْ حَدَثَ في حَياةِ النَّاسِ اليَومَ مِنَ التَّكالِيِفِ المُحَتِّفَّةِ بِالزَّواجِ ما هُوَ عُسْرٌ وَمَشَقَّةٌ عَلَىَ أَهْلِ الزَّوْجِ وَعَلَىَ أَهْلِ الزَّوْجَةِ، فَهُناكَ حَفْلٌ لِلخُطوُبَةِ، وَهُناكَ حَفْلٌ لِلشَّبَكَةِ، وَهُناكَ حَفْلٌ لِكَتْبِ الكِتابِ، وَهُناكَ حَفْلٌ لِلزَّواجِ، وَهُناكَ حَفْلٌ لما بَعْدَ الزَّواجِ مِنْ اجْتماعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.. في تكاليِفَ طائِلَةٍ لا يَقْوَىَ عَلَيْها كَثيِرٌ مِنَ النَّاسِ.
اسْتَمِعْ إِلَىَ ما كانَ عَلَيْهِ حالُ النَّبِيِّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الولائِمِ، جَاءَهُ عبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ عَوْفٍ، وَهُوَ مِنْ كِبارِ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللهُ تَعالَىَ عَنْهُمْ -، وَمِنْ تُجَّارِهِمْ، فَقالَ لَهُ: «تَزَوَّجْتَ؟»، قالَ: نَعَمْ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَىَ كَمْ؟»، قالَ: عَلَىَ نَواةٍ مِنْ ذَهَبٍ (نواةٌ مِنْ ذَهَبٍ يَعْنِي قَدْرَ عَبَسَةِ، العَبَسِ: نَوَىَ التَّمْرِ)، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَوْلِم ولَوْ بِشاةٍ»البخاري(2048), ومسلم(1427)، وَاليَوْمُ لا يُمْكِنُ أَنْ تُقامَ الوَلِيِمَةُ إِلَّا بِشياهٍ كَثيِرَةٍ، وَمُفاخَرَةٍ عَظيِمَةٍ يَتَفاخَرُ بِها النَّاسُ، وَيَتكاثروُنَ، وَيَرَوُنَ السَّبْقَ وَالعُلُوَّ وَالفَضْلَ في تَكاليِفِ الزُّواجِ، فَكُلَّما عَلَتْ تَكالِيِفُ الزَّواجِ كانَ دَليلًا عَلَىَ عُلُوِّ أَصْحابِهِ، وَشَرَفِهِمْ، وَرَفيِعِ مَنْزِلَتِهِمْ، وَهذا رَسوُلُ اللهِ يَقوُلُ لأَحَدِ المبَشِّريِنَ بِالجَنَّةِ، وَهُوَ مِنْ تجَّارِ الصِّحابةَ: «أَوْلِم وَلَوْ بِشاةٍ».
فَكَيْفَ كانَتْ وَلائِمُهُ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
اسْتَمَعَ إِلَىَ ما قَصَّ أَنَسٌ - رَضِيَ اللهُ تَعالَىَ عَنْهُ - في وَليِمَةِ عُرْسٍ سَيِّدِ الوَرَىَ نَبِيُّنا مُحَمَّدٍ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ - رَضِيَ اللهُ تَعالَىَ عَنْهُ -: "أَقامَ النَّبِيُّ- صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ خَيْبَرَ وَالمديِنَةِ ثَلاثَ لَيالٍ يُبْنَىَ عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ لما تَزَوَّجَها"، قالَ أَنَسُ: "فَدَعَوْتُ المُسلمينَ إِلَىَ وَلِيمَتِه"، دَعا المسْلميِنَ إِلَىَ وَليِمَةِ سَيِّدِ الوَرَىَ النَّبِيِّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يَقوُلُ أَنَسٌ: "وَما كانَ فيَها مِنْ خُبْزٍ وَلا لَحْمٍ، لم يكن في وليمته لا خُبزٌ ولا لحم، على ماذا اجتمع الصحابة في وليمة سيد الورى، وإمامهم، وقائدهم - صلَّى الله عليه وسلَّم -؟ يقول أنس: "وما كان فيها إلا أن أمر بلالًا بالأنطاع" أي: الجلود والسُّفَر "فبُسِطت فألقى فيها التمر والأقِط والسمن"البخاري(4213)،ومسلم(1365)أَوْلَمَ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَىَ عُرْسِهِ بِتَمْرٍ وَأَقْطٍّ (البَقْلُ) وَسَمْنٍ، وَهُوَ مِنْ أَيْسَرِ ما يَكوُنُ، وَمِنْ أَسْمَحِ ما يَكوُنُ في وَلائِمِ الزَّواجِ، وَلَمْ نَعْهَدْ فيما نَرَىَ مِنْ حالَ النَّاسِ اليَوْمَ أَنَّ أَفْقَرَ النَّاسِ أَوْلمَ َبمثْلِ هذاَ.
فَيَنْبِغِيِ لَنا أَيُّها المؤْمِنوُنَ أَنْ نَتَواصَىَ بِاتِّباعِ سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيِ تَيْسيِرِ أُموُرِ الزَّواجِ وَالنِّكاحِ، دوُنَ أَنْ نُحْدِثَ فيِ ذَلِكَ ما يَكوُنُ عائِقًا، وَمَؤوُنَةً، وَكُلْفَةً عَلَىَ الأَزْواجِ وَأَهْليهِمْ في إِتْمامِ الأَمْرِ عَلَىَ الوَجْهِ الَّذيِ يَرْضَىَ اللهُ - تَعالَّىَ - بِهِ.
الَّلهُمَّ وَفِّقْنا إِلَىَ ما تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، خُذْ بِنواصِيِنا إِلَىَ البِرِّ وَالتَّقْوَىَ، أَعِنَّا عَلَىَ طَاعَتِكَ وَاصْرِفْ عَنَّا مَعْصِيَتَكَ، وَاجْعَلْنا مِنْ حِزْبِكَ وَأَوْلِيائِكَ، أَقْوُلُ هَذا القَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العظيمَ لِي وَلَكُمْ فاسْتَغْفِروُهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الغَفوُرُ الرَّحيِمُ.
***
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثيِرًا طَيِّبًا مُباركًا فِيِهِ، أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، أُثْنِي عَلَيْهِ الخَيْرَ كُلَّهُ، أَشْكُرُهُ وَلا أَكْفُرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسوُلُهُ، صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِِ الدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقوُا اللهَ تَعالَىَ؛ فَتَقْواهُ سَبَبٌ لِكُلَّ نَجاةٍ وَفَوْزٍ وَسَبْقٍ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ؛ ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾الطلاق:2-3 .
أيها المؤمنون, احفظوا قول النبي - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ِإنَّ أَعْظَمَ النِّكاحِ بَرَكَةً أَيْسَرَهُ مَؤوُنَةً»مسند أحمد(24529)بإسناد ضعيف, وَلَهُ شواهِدُ تُقَوِّيِهِ .، أَيْ: أَيْسَرُهُ كُلْفَةً، يَشْمَلُ ذَلِكَ جميِعَ ما يَتَعَلَّقُ بِالزَّواجِ مِنْ مَهْرٍ، وَوَليِمَةٍ، وَاسْتِعْدادٍ، وَتَأْسيسٍ، وَتَهْيِئَةٍ، فَكُلَّما كانَ الأَمْرُ يَسيرًا كانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبابِ البرَكَةِ في الزَّواجِ، مِنْ أَسْبابِ حُصوُلِ النَّجاحِ في الزِّواجِ، مِنْ أَسْبابِ سَعادَةِ الزَّوْجَيْنِ في الزَّواجِ، مِنْ أَسْبابِ ذَهابِ الشَّرِّ عَنْهُما، فَيْسِّروُا يُيَسِرِ اللهُ لَكُمْ، وَسَهِّلوُا يُسَهِّلِ اللهُ عَلَيْكُمْ.
وَإِنَّ مِنْ أَعْظِمِ ما يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ تَيْسيِرِ أَمْرِ النِّكاحِ أَنْ يَقوُلَ الإِنْسانُ: ماذا سَيَقوُلُ النَّاسُ عِنْدما أُزوِّجِ ابْنَتِي بِنكاحٍ بِوَلِيمةٍ لَيْسَ فيِها كَذا وَكَذا مِمَّا جَرَىَ بِهِ عَمَلُ النَّاسِ؟ وَالعاقِلُ البَصيِرُ الَّذيِ يَنْظُرُ إِلَىَ الأُموُرِ بِمنْظارِ الشَّرْعِ، وَبمنظارِ الدِّيانَةِ وَالعَقْلِ، لا يَجْعَلُ قَوْلَ النَّاسِ وَكَلامَهُمْ حامِلًا لَهُ عَلَىَ ما فِيِهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، وَفَيِهِ عَناءٌ وَتَأْخيرٌ لِلزَّواجِ وَتَعْسيرٌ لَهُ.
وَيَنْبَغِيِ لَنا أَنْ نَتَواصَىَ، وَأَنْ نَكوُنَ قُدْوَةً حَسَنَةً ما اسْتَطَعْنا إِلَىَ ذَلِكَ سَبيِلًا؛ فَإِنَّ النَّاسَ إِذا شَاعَ بَيْنَهُمْ يُسْرُ المؤَوُنَةِ بِعَدَمِ إِقامِةَ الحَفَلاتِ فِي الصَّالاتِ الَّتِيِ يُدْفَعُ فيِها أَمْوالٌ طائِلَةٌ فيِ الَّليْلَةِ الواحِدَةِ، يُدْفَعُ عَشراتُ الآلافِ، هَذا إِذا كانَ في حالٍ يَسيِرَةٍ، في حالٍ مُعْتادَةٍ، وإِلَّا فَيَتَجاوَزُ في بَعْضِ الأَحْيانِ إِلَىَ مئاتِ الآلافِ، يَنْبَغِيِ لَنا أَنْ نَتْرُكَ مِثْلَ هذهِ العاداتِ القَبِيِحَةِ الَّتِي هِيَ إِضاعَةُ مالٍ، وَإِسْرافٌ، وَلا خَيْرَ فيِها، بَلْ نَبْذُلُ الوُسْعَ في التَّيْسيِرِ وَالتَّسْهيِلِ، وَإِنْ كانَ الِإْنسانُ قَدْ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ فَيْنْبَغِيِ أَنْ يَكوُنَ قُدْوَةً حَسَنَةً لِغَيْرِهِ في تَيْسيِرِ أَمْرِ النِّكاحِ ما اسْتطاعَ إِلَىَ ذَلِكَ سَبِيلًا.
وَإِنَّ الإِصْغاءَ لآراءِ بَعْضِ ضِعافِ العقوُلِ سَواءً رجالًا كانوا أَوْ نِساءً بِأَنْ تَفْعَلَ كَذا وَكذا مِمَّا يَكوُنُ فِيِهِ عُسْرٌ وَمَشَقَّةٌ، وَغَلاءٌ وَكُلْفَةٌ، يَنْبَغيِ نَبْذُهُ وَتَرْكُهُ وَعَدَمُ الالْتفِاتِ إِلَيْهِ، بَعْضُ النَّاسِ يَقوُلُ: عُلُوِّ المهْرِ سَبَبٌ لِتَمَسُّكِ الرَّجُلِ بِالمرأَةْ، وَهذا غَلَطٌ كَبيِرٌ، فَإِنَّ عُلُوَّ المهْرِ لَيْسَ سَبَبًا لِبَقاءِ النِّكاحِ، وَلا لِتَمَسُّكِ الرَّجُلِ بِالمرْأَةِ، فَكَمْ مَرَّ عَلَيْنا مِنْ أَنْكِحَةٍ بُذِلَ في مَهْرِ نِسائِها الشَّيءُ الكَثيِرُ لَمْ تَنْجَحْ، بَلْ كَانَتْ وَبالًا عَلَىَ المرْأَةِ وَأَهْلِها، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذا جاءَ يُفارِقُ طالَبَ المرْأَةَ بما دَفَعَ مِنْ دقيقٍ أَوْ جليِلٍ، فَكانَ عُسْرًا عَلَىَ المرْأَةِ وَأَهْلِها أَنْ يَجْمعوُا ذَلِكَ المَهْرَ الَّذِي باهوا بِهِ النَّاسَ، أَوْ فَرِحوُا بِهِ عِنْدما بُذِلَ لَهُمْ وَهُوَ كَثيرٌ، شَقُّوا بِهِ عَلَىَ الرَّجُلِ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الفِراقِ، وَإِنِ اسْتَمَرَّتْ الحالُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ دواعِيِ عَدَمِ البرَكَةِ، وَذَهابِ هَذِهِ الميِزَةِ الَّتِي ذَكَرها رَسوُلُ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قَوْلِهِ: «إِن أعظم النكاح بركةً أيسره مؤونةً»مسند أحمد(24529)بإسناد ضعيف, وله شواهد تقويه.فَلْنَتواصَ، وَلْنَسْتَعِنْ بِاللهِ وَلنُقْلِلْ المهوُرَ بِالحَدِّ الَّذيِ يَحْصُلُ بِهِ الكِفايَةُ، وَهذا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلافِ أَحْوالِ النَّاسِ، إِلَّا أَنَّ يُسْرَها وَعَدَمَ المُغالاةِ فيِها مِنْ أَسْبابِ الخَيْرِ وَالنَّفْعِ وَالصَّلاحِ في حالِ الزَّوْجَيْنِ.
الَّلهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الهُدَىَ وَالتُّقَىَ وَالعَفافَ وَالرَّشادَ وَالغِنَىَ، خُذْ بِنواصيِنا إِلَىَ ما تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، وَاصْرِفْ عَنَّا السُّوُءَ وَالفَحْشاءَ، الَّلهُمَّ انْشُرِ الخَيْرَ في بِلادِنا وَبِلادِ المسْلِميِنَ، الَّلهُمَّ عُمَّنا باِلفَضْلِ يا ذاض الجَلالِ وَالإِكِرامِ، وَاصْرِفْ عَنَّا السُّوُءَ وَالفَحْشاءَ يا حَيُّ يا قَيُّوُمُ.
الَّلهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أموُرِنا، وَاجْعَلْ وَلايِتَنا فيِمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا ربَّ العالمينَ، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنا الملِكَ سَلْمانَ وَوَليَّ عَهْدِهِ إِلَىَ مَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، خذ بنواصيهم إلى البر والتقوى، واصرف عنهم بطانة السوء، ويسر لهم اليُسر يا ذا الجلال والإكرام.
الَّلهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ لِوُلاتنِا وَبِلادِنا وَجُنوُدِنا نَصْرًا عزيزًا مُؤزَّرًا يا ذا الجَلالِ وَالِإكْرامِ.
الَّلهُمَّ اصْرِفْ عَنَّا كُلَّ سوُءٍ وَشَرٍّ، وَاصْرِفْ ذَلِكَ عَنْ سائِرِ بِلادِ المُسلِمينَ، الَّلهُمَّ عُمَّ بِلادَ المسْلميِنَ بِالخَيْرِ وَالبَرِكَةِ، وَالتَّوْفيِقِ لما فِيِهِ العَمَلِ بِالصَّالحِ وَالتَّحْكيِمِ لِشَريِعَتِكَ، وَالعَمَلَ بِسُنَّةِ نَبِيِّكَ يا ذا الجَلالِ وَالِإكْرامِ.