قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} يدل على أن الله هو الذي يجعل الفجور والتقوى في القلب وقد جاءت آيات كثيرة تدل على أن فجور العبد وتقواه باختياره ومشيئته كقوله تعالى: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وقوله تعالى: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} ونحو ذلك. وهذه المسألة هي التي ضل فيها القدرية والجبرية. وأما القدرية: فضلوا بالتفريط حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالا عن غير تأثير لقدرة الله فيه. وأما الجبرية فضلوا بالإفراط حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلا حتى يؤاخذ به. وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الارتعاشية ليست كالحركة الاختيارية وأثبتوا أن الله خالق كل شيء فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى. فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى مع أن العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب. ولو فرضنا أن جبريا ناظر سنيا فقال الجبري: حجتي لربي أن أقول إني لست مستقلا بعمل وإني لا بد أن تنفذ في مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي فأنا مجبور فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه؟ فإن السني يقول له كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك جعل لك سمعا تسمع به وبصراً تبصر به وعقلا تعقل به وأرسل لك رسولا وجعل لك اختيارا وقدرة ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق وهو ملكه المحض إن أعطاه ففضل وإن منعه فعدل كما أشار له تعالى بقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}. بمعنى أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق فمن أعطيه ففضل ومن منعه فعدل.
ولما تناظر أبو إسحاق الإسفرائيني مع عبد الجبار المعتزلي؛ قال عبد الجبار سبحان من تنزه عن الفحشاء وقصده أن المعاصي كالسرقة والزنى بمشيئة العبد دون مشيئة الله لأن الله أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم، فقال أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل ثم قال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء. فقال عبد الجبار: أتراه يخلقه ويعاقبني عليه؟ فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبرا عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟ فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى على بالردى أتراه أحسن إلي أم أساء؟ فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه ملكا لك فقد أساء وإن كان له فإن أعطاك ففضل وإن منعك فعدل فبهت عبد الجبار وقال الحاضرون والله ما لهذا جواب. وجاء أعرابي إلى عمرو ابن عبيد وقال له ادع الله لي أن يرد على حمارة لي سرقت مني فقال اللهم إن حمارته سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه فقال له الأعرابي: يا هذا كف عني من دعائك الخبيث إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد. وقد رفع الله إشكال هذه المسألة بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فأثبت للعبد مشيئة وصرح بأنه لا مشيئته للعبد إلا بمشيئة الله جل وعلا. فكل شيء صادر من قدرته ومشيئته جلا وعلا. وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وأما على قول من فسر الآية الكريمة بأن معنى فألهمها فجورها وتقواها أنه بين لها طريق الخير وطريق الشر، فلا إشكال في الآية وبهذا المعنى فسرها جماعة من العلماء. والعلم عند الله تعالى.
(سورة الليل)
قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}. يدل على أن الله التزم على نفسه الهدى للخلق مع أنه جاءت آيات كثيرة تدل على عدم هداه لبعض الناس كقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. وقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وقوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا} الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
والجواب هو ما تقدم من أن الهدى يستعمل في القرآن خاصا وعاما فالمثبت العام والمنفي الخاص ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم وأما على قول من قال أن معنى الآية إن الطريق الذي يدل علينا وعلى طاعتنا هو الهدى لا الضلال، وقول من قال أن معنى الآية إن من سلك طريق الهدى وصل إلى الله فلا إشكال في الآية أصلا.
(سورة الضحى)
قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى}. هذه الآية الكريمة يوهم ظاهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ضالا قبل الوحي مع أن قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} يدل على أنه صلى الله عليه وسلم فطر على هذا الدين الحنيف ومعلوم أنه لم يهوده أبواه ولم ينصراه ولم يمجساه بل لم يزل باقيا على الفطرة حتى بعثه الله رسولا ويدل لذلك ما ثبت من أن أول نزول الوحي كان وهو يتعبد في غار حراء فذلك التعبد قبل نزول الوحي دليل على البقاء على الفطرة.
والجواب أن معنى قوله: {ضَالاً فَهَدَى} أي غافلا عما تعلمه الآن من الشرائع وأسرار علوم الدين التي لا تعلم بالفطرة ولا بالعقل وإنما تعلم بالوحي فهداك إلى ذلك بما أوحى إليك فمعنى الضلال على هذا القول الذهاب من العلم ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} وقوله: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى}. وقوله:{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ}.
وقول الشاعر:
وتظن سلمى أنني أبغي بها…بدلا أراها في الضلال تهيم
ويدل لهذا قوله تعالى:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} لأن المراد بالإيمان شرائع دين الإسلام وقوله: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}. وقوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}. وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}. وقيل المراد بقوله ضالا. ذهابه وهو صغير في شعاب مكة وقيل ذهابه في سفره إلى الشام والقول الأول هو الصحيح والله تعالى أعلم ونسبة العلم إلى الله أسلم.
(سورة التين)
قوله تعالى: { وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ } تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: { لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ }.