المسألة الثالثة: الرمي أيام التشريق
الفرع الأول: الحكمة من مشروعية الرمي
رمي الجمار أيام التشريق من مناسك الحج وأعماله باتفاق المسلمين (ينظر: الإجماع لابن المنذر ص (58)، التمهيد (17/ 254).) . ومقصود هذه الشعيرة وغايتها إقامة ذكر الله تعالى، فقد جاء النص على ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله» (رواه أحمد (24351)، وأبو داود (1888)، والترمذي (902)، وصححه الترمذي، وابن خزيمة (2882)، وابن دقيق العيد في الإلمام (614).) . وقد روى البيهقي عن ابن عباس مرفوعا في حكمة الرمي، وفي تخصيص مواضع الجمرات بالرمي: أن الشيطان عرض لإبراهيم - عليه السلام - عندها، فعرض عند الجمرة الصغرى، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ (يقال: ساخ في الأرض يسوخ ويسيخ إذا دخل فيها. ينظر: تهذيب اللغة (7/ 320)، ولسان العرب (3/ 35).) في الأرض، ثم سار فعرض له عند الجمرة الوسطى، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض. وفيه قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الشيطان ترجمون وملة أبيكم تتبعون (السنن الكبرى (5/ 153) .
قال الشنقيطي رحمه الله: «فذكر الله الذي يشرع الرمي لإقامته، هو الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان، ورميه، وعدم الانقياد إليه. والله يقول: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم}، فكأن الرمي رمز وإشارة إلى عداوة الشيطان التي أمرنا الله بها في قوله: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا}، وقوله منكرا على من والاه: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو}، ومعلوم أن الرجم بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة» (أضواء البيان (4/ 480). وأشار النووي إلى أن الرمي مما لا تعقل له حكمة سوى تمام الانقياد لله، قال في المجموع شرح المهذب (8/ 243): «قال العلماء: أصل العبادة الطاعة، وكل عبادة، فلها معنى قطعا؛ لأن الشرع لا يأمر بالعبث ثم معنى العبادة قد يفهمه المكلف، وقد لا يفهمه، فالحكمة في الصلاة التواضع والخضوع، واظهار الافتقار إلى الله تعالى والحكمة في الصوم كسر النفس وقمع الشهوات والحكمة في الزكاة مواساة المحتاج وفي الحج اقبال العبد أشعث أغبر من مسافة بعيدة إلى بيت فضله الله كإقبال العبد إلى مولاه ذليلا. ومن العبادات التي لا يفهم معناها السعي والرمي فكلف العبد بهما ليتم انقياده فان هذا النوع لاحظ للنفس فيه ولا للعقل به، ولا يحمل عليه الا مجرد امتثال الامر وكمال الانقياد. فهذه إشارة مختصرة تعرف بها الحكمة في جميع العبادات، والله أعلم».) .
وقد حكى الطبري عن بعض أهل العلم أن الحاج لو ترك رمي جميع الجمار وكبر عند كل جمرة بسبع تكبيرات أجزأه ذلك. وقال: إنما جعل الرمي في ذلك بالحصى سببا لحفظ التكبيرات السبع، كما جعل عقد الأصابع بالتسبيح سببا لحفظ العدد ... قد كانت عائشة زوج النبي عليه السلام تقول: إنما الحصى للجمار؛ ليحفظ به التكبير» (رواه البخاري (10)، ومسلم (40) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.) .