المبحث الثالث: الوقوف بمزدلفة
المطلب الأول: مشروعيته وزمانه
مزدلفة هي أول المنازل التي ياتيها الحاج في الحرم بعد عرفة، ولذلك سميت مزدلفة؛ لأن الحاج يقترب بها إلى الحرم (يقال: ازدلف القوم إذا اقتربوا. انظر: إكمال المعلم (4/ 279).) . وتسمى أيضا جمعا؛ لاجتماع الناس فيها (إعلام الساجد بأحكام المساجد، ص (71).) . وقد سماها الله المشعر الحرام في قوله جل وعلا: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام (البقرة 198) . وسماها الله بالمشعر الحرام؛ لأن الصلاة فيها، والوقوف، والدعاء والذكر من معالم الحج، وفروضه التي أمر الله بها عباده (ينظر: تفسير الطبري (3/ 515).) ، وسميت حراما؛ لأنها أول مواضع مناسك الحج داخل الحرم بعد عرفة التي تسمى المشعر الحلال؛ لأنها في الحل.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد دفع إليها من عرفة لما غابت الشمس، وذهبت الصفرة، وأوصى الناس بالسكينة (رواه مسلم (1218) عن جابر رضي الله عنه.) .فلما وصل مزدلفة أمر المؤذن فأذن، ثم أقام فصلى المغرب، قبل أن ينزل الناس رحالهم، فجمع بين المغرب والعشاء، ولم يصل بينهما شيئا (رواه البخاري (139)، ومسلم (1280) عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.) .
فبادر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إلى ما أمر الله تعالى به من ذكره في قوله تعالى: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} (البقرة: 198.) . واضطجع، ثم استيقظ في أول وقت الفجر، فأمر المؤذن فأذن وصلى الفجر في أول وقتها، حتى ظن بعض الصحابة رضي الله عنه أنه صلى قبل الوقت. وإنما بادر إلى الصلاة في أول الوقت ليتسع الوقت للذكر بعدها وقبل الدفع إلى منى؛ فإن مقصود المبيت هو الذكر والدعاء بعد صلاة الفجر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عن عروة بن مضرس: «من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد تم حجه، وقضى تفثه» (رواه أحمد (16208)، وأبو داود (1950)، والترمذي (891)، والنسائي (3039)، وابن ماجه (3016). وقال عنه الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن خزيمة (2820)، وابن حبان (3850)، وقال الحاكم (1701): هذا حديث صحيح على شرط كافة أئمة الحديث.) .
ويدل لذلك أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام, فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده، والمشعر الحرام اسم لكل مزدلفة كما تقدم، ويطلق على جبل صغير وسط مزدلفة، وهو الذي عليه المسجد.
وحيثما وقف الحاج من مزدلفة فقد أتى بالمطلوب؛ لقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: «وقفت هاهنا، وجمع كلها موقف» (رواه مسلم (1218) عن جابر رضي الله عنه.) . فلم يزل واقفا يذكر الله ويدعوه حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس (أخرجه مسلم (1218).) مخالفة للمشركين. وعن عمرو بن ميمون، قال: «شهدت عمر رضي الله عنه صلى بجمع الصبح، ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم، خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس» (رواه البخاري (1684).) .