إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتعيِنُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوُذُ بِاللهِ مِنْ شروُرِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَليًّا مُرْشِدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ شَهادَةً تُنَجِّيِ قائِلَها مِنَ النَّارِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مَُحمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرسوُلُهُ، صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّيِنِ.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾الأحزاب:70 - 71، والقَوْلُ السَّديِدُ الَذيِ جَعَلَهُ اللهُ - تَعالَىَ - مِفتاحًا لِلعَمَلِ الصَّالحِ وَعظيِمِ الأَجْرِ المرتَّبِ عَلَيْهِ هُوَ ما كانَ مُوافِقًا لِلحَقِّ قَائِمًا بِهِ، فَكُلُّ قَوْلٍ يَخْرُجُ عَنِ الحَقِّ وَالهُدَىَ فَإِنَّهُ خَارجٌِ عَنِ القَوْلِ السَّديِدِ.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ عِبادَ اللهِ, الكَذِبُ جِماعُ كُلِّ شَرٍّ، وَأَصْلُ كُلِّ ذَمٍّ وَسوُءٍ، عَواقِبُهُ وَخيِمَةٌ، وَشُروُرُهُ عَظيمَةٌ، لمْ يَأْتِ في الكتابِ وَالسُّنَّة تَحْذيرٌ مِنْ خُلُقٍ كَما جاءَ فيِ شَأْنِ الكَذِبِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الكَذِبَ يُنافيِ الإيمانَ، فالإِيِمانُ صِدْقٌ وَتَصْديِقٌ وَإِقْرارٌ، وَالكَذِبُ عَلَىَ نَقيضِ ذَلِكَ فَهُوَ جُحودٌ وَإِنْكارٌ.
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾التوبة:119، كونوُا معَ الصَّادِقينَ في أَقْوالِكُمْ، وَكوُنوُا مَعَ الصَّادِقينَ فيِ أَعْمالِكُمْ، وَاحْذروُا الكَذِبَ في الدَّقيقِ وَالجَليلِ، وَالصَّغيرِ وَالكبيرِ؛ فَإِنَّ الكَذِبَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ حِرْمانِ الهِدايةِ وَالتَّوْفيِقِ؛ قالَ اللهُ – تَعالَىَ -: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾الزمر:3، وقال سُبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾غافر:28.
وَقَدْ بَيَّنَ رَسوُلُ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَواقِبَ الكَذِبِ وَنَتَائِجَهُ في كَلِمَةٍ جَامِعَةٍ، فَقالَ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياكم والكذِبَ»، أَيْ: احْذروُا الكَذِبَ، «إِيَّاكُمْ وَالكذِبَ؛ فَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِيِ إِلَىَ الفُجوُرِ، وَإِنَّ الفُجوُرَ يَهْدِيِ إِلَىَ النَّارِ، وَلا يَزالُ الرُّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّىَ الكَذِبَ»، أَيْ: يَطْلبُهُ وَيَتَقَصَّدُهُ «حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا»أخرجه البخاري(6094), ومسلم(2607) ، فَاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ تَجنَّبوُا الكَذِبَ في كُلِّ أَحْوالِكُمْ، وَأَقْوالِكُمْ، وَأَعْمالِكُمْ، فاللهُ يُحِبُّ الصَّادِقيَنَ.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ عِبادَ اللهِ, إِنَّ الكَذِبَ يَنْفرُ مِنْهُ أَطايِبَ الخَلْقِ، فَالكَذِبُ إِذا تَوَرَّطَ فِيِهِ الِإنْسانُ نَفَرَ مِنْهُ الملَك كَما نَفَرَ مِنْهُ الخَلْقُ، قالَ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيِما رواهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَديِثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: «إذا كَذَب العبد»، أَيْ: تَكَلَّمَ كَلامًا كاذِبًا، سَواءٌ كانَ فِي جِدٍّ أَوْ هَزْلٍ، فِي مُعامَلةٍ أَوْ غَيْرِها «إِذَا كَذَبَ العَبْدُ تَبَاعَدَ عَنْهُ المَلَكُ مِيلًا»، لماذا؟ «مِنْ نَتْنِ مَا جَاءَ بِهِ»الترمذي(1972), وَقالَ:هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَضَعَّفَهُ الأَلْبانِيُّ؛ فَفِيِ سَنَدِهِ: عَبْدُ الرَّحيمِ بْنِ هاروُنَ الغَسَّانِيِّ، وَهُوَ ضَعيِفٌ، أَيْ: مِنْ قُبْحِ رائِحِةَ ما جاءَ بِهِ، وَهَذا يُبَيِّنُ لَكَ عَظيِمُ ما يَحْصُلُ بِالكَذِبِ وَلَوْ كانَ صَغيِرًا، مِنْ نُفوُرِ الملائِكَةِ، وَمِنْ نُفوُرِ الخَلْقِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللهَ - تَعالَىَ - إذا أَبْعَدَ عَنِ العَبْدِ الملائِكَةَ؛ بَعُدَتْ عَنْهُ الرَّحْمَةِ، وَوَقَعَ فيِ الرِّيِبَةِ، وَتَحاوَشَتْهُ الشَّياطيِنُأَيْ:أَحاطوُا بِهِ وَجَعَلوُهُ وَسَطَهُمْ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُ ذِكْرَ اللهِ.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ: «الصِّدْقُ طُمَأْنيِنَةٌ، وَالكَذِبُ رِيِبَةٌ»كَما قالَ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -أَخْرَجَهُ: التِّرْمِذِيُّ (2518)، وَقالَ: حَسَنٌ صَحيحٌ ، فَلا أَمانَ مَعَ الكَذِبِ، وَلا طُمَأْنيِنَةَ مَعَهُ، وَلا رَاحَةَ وَلا سَكَنَ، بَلْ هُوَ قَلَقٌ وَاضْطِّرابٌ وَخوْفٌ وَعَدَمُ أَمْنٍ، فَاتَّقوُا اللهَ وَبادِروُا إِلَىَ الصِّدْقِ في كُلِّ شؤوُنِكُمْ وَأَحوالِكُمْ؛ فإَنِ َّالكَذِبَ لا يَزيِدُ العَبْدَ إِلَّا سُوُءًا أَوْ شَرًّا، «حتى يُكتب عند الله كذابًا».
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, الكَذِبُ في كُلِّ صُوَرِهِ نَهَتْ عَنْهُ الشَّريِعَةُ، وَحَذَّرَتْ مِنْهُ، وَأَكَّدَتْ عَلَىَ وُجوُبِ البُعْدِ عَنْهُ، وَالحَذَرُ مِنَ التَّوَرُّطِ في شَيْءٍ مِنْهُ؛ وَلِذَلِكَ اتَّقوُا الكَذِبَ صَغيِرَهُ وَكَبيِرَهُ، دَقيِقَهُ وَجَليِلَهُ، واعلموُا أنَّ أَعْظَمَ الكَذِبَ ما كانَ كذِبًا عَلَىَ اللهِ وَرَسوُلِهِ؛ فَإِنَّ الكذَبِ َعَلَىَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - يُفْضِيِ إِلَىَ التَّكذيِبِ بما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ - صَلواتُ اللهِ وَسلامُهُ عَليْهِمْ -، قالَ اللهُ - عزَّ وَجَلَّ -: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾الأنعام:21، أَيْ: لا أَظْلَمُ ممَّنْ كَذَبَ عَلَىَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَافْتَرَىَ عَلَيْهِ ما لمْ يََقْضِ بِهِ، أَوْ ما لمْ يَحْكُمْ بِهِ شَرْعًا أَوْ قَدَرًا، ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾الأنعام:21، فَاتَّقوُا الكَذِبَ عَلَىَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، واتَّقوُا الكَذِبَ عَلَىَ ديِنِهِ، أَوْ عَلَىَ قَدَرِه، أَوْ عَلَىَ شَرْعِهِ، فَإِنَّ عواقِبَ الكَذِبِ عَلَىَ اللهِ وَخيِمَةٌ، نَفَىَ اللهُ عَنْهُمُ الفلاحَ، وَأَخْبَرَ بِعَظيِمِ ما وَقَعوُا فِيِهِ مِنَ الظُّلْمِ، وَأَنَّهُ لا أَظْلَمَ مِنْهُمْ.
وَمِنَ الكَذِبِ عَلَىَ اللهِ الكَذِبُ عَلَىَ رسوُلِهِ - صلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمْ -؛ فَإِنَّ الكَذِبَ عَلَىَ النَّبِيَّ - صلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذِبٌ عَلَىَ اللهِ؛ لأنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ، وَلهذا قالَ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ -: «مَنْ كذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّدًا»عَنْ جماعةٍ منَ الصَّحابَةِ في الصَّحيحَيْنِ, وغَيْرِهِما, يُنظر: البخاري(110)(1291)(3461)، ولَوْ كانَ في أَدَقِّ ما يكوُنُ مِنَ الأُموُرِ، «مَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، أَيْ: فلَيَتَهَيَّأْ لمقْعدٍ مِنَ النَّارِ يُعذَّبُ بِهِ، وَالأَمْرُ لَيْسَ فَقَطْ في ابْتِداءِ الكَذِبِ عَلَيْهِ، بَلْ حَتَّى في نَقْلِ الكَذِبِ عَنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ في الوَعيِدِ، قالَ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ»مسلم في مقدمته، فَاتَّقوُا اللهَ في الخَبِرِ عَنْ رَسوُلِهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَمِنْ ذَلِكَ الخَبَرُ عَنْ ديِنِ اللهِ في أَحْكامِ الشَّريِعَةِ بِالحلالش وَالحرامِ، أَوْ فيما يَتَعَلَقُ بِالعقائِدِ، فَإِنَّ ذَلِكَ ممَّا يَجِبُ أَنْ يَتَحَرَّىَ الإِنْسانُ فِيِهِ، وَأَلَّا يَقوُلَ فيِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَفْتَرِيَ فِيِهِ عَلَىَ اللهِ ما لَيْسَ بِحقٍّ وَلاَ هُدَىَ.
أَيُّها المِؤمِنوُنَ, حَذَّرَ رَسوُلُ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أُناسٍ في آخِرِ الزَّمانِ كَذَّابِيِنَ دَجَّاليِنَ، قالَ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ، وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ»مسلم (7)، وَهذا التَّحْذيِرُ النَّبَوِيُّ جَديرٌ بِأَنْ يَعْتَنِيَ بِهِ الِإنْسانُ مَعَ هذا الانْفِتاحِ الإِعْلامِيِّ، وَالتَّواصُلُ الكَبيِرُ الَّذِيِ يَسْمَعُ فِيِهِ الإِنْسانُ مِنَ الأَخْبارِ وَالأَحاديِثِ وَالأقاويِلِ وَالآراءِ ما لَيْسَ عَلَىَ هُدًى وَلا بَصيِرَةٍ، وَلَيْسَ مِمَّا قالَ بِهِ الصَّحابَةُ وَلا التَّابِعوُنَ، وَلا تابِعوُهُمْ، وَلا أَئِمَّةُ الإِسْلامِ الَّذينَ اتَّبَعوُهُمْ بإِحْسانٍ.
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَاحذَروُا الكَذِبَ دَقيِقَهُ وَجليِلَهُ، الكَذِبُ عَلَىَ اللهِ، وَالكَذِبُ عَلَىَ رَسوُلِهِ، وَالكَذِبُ عَلَىَ ديِنِهِ، وَالكَذِبُ عَلَىَ العُلَماءِ الَّذيِنَ يُخْبِروُنَ عَنْ ديِنِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الكذِبِ العظيِمِ الكَبيِرِ الَّذيِ يَنْدَرِجُ في قَوْلِ اللهِ - تَعالَىَ -: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾الأنعام:21.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ عِبادَ اللهِ, إِنَّ الكَذِبَ دَرَجاتٌ، وَهُوَ مَنازِلُ، ومِنْ أَخْبَثِهِ ما كانَ مُتَعَلِّقًا بِالدِّيانَةِ، كَما دَلَّتْ عَلَىَ ذَلِكَ النُّصوُصُ، ثُمَّ إِنَّ الكَذِبَ يَكوُنُ في المعامَلاتِ بَيْنَ الخَلْقِ، وَكُلُّ ذلِكَ ممَّا يَنْبَغِيِ أَنْ يَتَحَرَّىَ الإِنْسانُ فِيِهِ الصِّدْقَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ في المعامَلاتِ يُوجِبُ البرَكَةَ في المكاسِبِ وَالأَعْمالِ؛ قالَ - صلَّىَ اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البيِّعانِ بِالخِيارش ما لمْ يِتِفِرَّقا، فَإِنْ صَدَقا وَبيَّنا بُورِك لهُما في بَيْعِهِما، وَإِنْ كَذَبا وَكَتما»، أَيْ: أَخْبَرا بِخلافِ الوَاقِعِ أَوْ كَتَما العَيْبَ الَّذِيِ في السِّلْعَةِ أَوْ فيِ المعامَلَةِ «مُحِقَتْ بَركَةُ بَيْعِهِما»البخاري(2079), ومسلم(1532).، وَلَيْتَ الأَمْرَ يَقْتَصِرُ عَلَىَ مَحْقِ البرَكَةِ فَقَطْ، بَلِ الأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، قالَ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ - فيِما رَواهُ مُسلِمٌ مِنْ حَديِثِ أبِي ذَرٍّ: «ثلاثةٌ لا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلا يُزكِّيِهِمْ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ»، وَذَكَرَ مِنْهُمْ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المُنَفِّق سلعته بالحَلِف الكاذب»مسلم(106)، يَعنِيِ الَّذيِ يُرَوِّجُ سِلْعَتَهُ بِالحَلِفِ الكاذِبِ، يَقوُلُ: سِيمَتْ مِنِّي بِكذا وَهُوَ كاذِبٌ، أَوْ اشْتَريْتُها بِكَذا وَهُوَ كاذبٌ، أَوْ أَنَّهُ جاءَنِيِ فيِها كَذا وكِذا وَهُوَ كاذِبٌ، فَإِنَّهُ مُتَوَعَّدٌ مُهدَّدٌ بِهذِهِ العُقوُبَةِ، «ثَلاثةٌ لا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلا يُزكَّيِهِمْ، وَلَهُمْ عَذابٌ أليِمٌ»، مِنْهُمْ مَنْ نَفَّقَ سِلْعَتَهُ وَرَوَّجَها بِاليَميِنِ الكاذِبَةِ.
إِنَّ مِنْ الكذبِ الشَّائِعِ بَيْنَ بَعْضِ النَّاسِ شَهادَةَ الزُّوُر،ِ وكَثَيرٌ مِمَّنْ يَتَوَرَّطُ فيِها يَدْخُلُ فيِها عَلَىَ وَجْهِ الفَزْعَةِ، أَوْ عَلَىَ وَجْهِ النُّصْرَةِ وَالحَمَيَّةِ، فَيَتَوَرَّطُ فِيما هُوَ مِنْ أَكْبَرِ الكبائِرِ، قالَ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبائِرِ»، كَرَّرَها ثلاثًا «أَلَا أُنبَئِّكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبائِرْ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبائِرِ»، قالوُا: بَلَىَ يا رسوُلَ اللهِ، قالَ: «الإشراكُ باللهِ، وَعقوُقُ الوالديْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ»، وكَانَ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّكِئًا بَيْنَ أَصْحابِهِ، فَجَلَسَ، ثُمَّ قالَ: «أَلاَ وَقَولَ الزُّوُرِ، أَلاَ وقَوْلَ الزُّوُر،ِ ألَا وَشَهادَةَ الزُّوُرِ»، فَما زالَ يُكَرِّرُها - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَىَ أَصْحابِهِ حَتَّى قالَ الصَّحابَةُ: «لَيْتَهُ سَكَتَ»البخاري(2653), ومسلم(87)، أَيْ: لَيْتَهُ أَراحَ نَفْسَهُ باِلسُّكوُتِ لِمَا رَأَوْا مِنْ شِدَّةِ الأَمْرِ عَلَيْهِ، وَعظيمِ ما أَصابَهُ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شَأْنِ شَهادةِ الزُّوُرِ.
وَالَّذيِنَ يقِفوُنَ عَلَىَ أَبْوابِ المحاكِمِ، أَوْ يَذْهبوُنَ فيُقابلونَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ في المحكَمَةِ، فَيَقوُلُ: أُريِدُكَ في شَهادةٍ، أَوْ في كِتابَةِ عَدْلٍ، فَيَشْهَدُ بِما لا يَعْلَمُ فَهُوَ شاهِدُ زوُرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَأَنْ يَتْرُكَ شَهادةَ الزُّوُرِ، الَّذِيِ يَذْهَبُ إِلَىَ المُسْتَوْصَفاتِ الطِّبِّيِّةِ وَيَطْلُبُ مِنْها شَهادةً عَنْ مَرَضٍ لَيْسَ بحقيِقِيٍّ هَذِهِ شَهادَةُ زوُرٍ، الَّذيِ يَذْهَبُ إِلَىَ مَنْ لا يَعْرِفُهُ، فَيَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يُزكِّيَهُ هَذِهِ شَهادَةُ زوُرٍ، صُوُرُ شَهادَةِ الزُّوُرِ كَثيرِةٌ وَلَيْسَتْ مَقْصوُرَةً فَقَطْ عَلَىَ أَكْلِ الأَمْوالِ، بِلْ كُلُّ ما يُخْبِر فِيِهِ الإِنْسانُ بِأَنَّهُ شاهِدٌ بِكذا وَهُوَ لمْ يَشْهَدْهُ فَهُوَ شاهدُ زوُرٍ.
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ, وَلا تَأْخُذْكُمْ في اللهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، مَنْ طَلَبَ مِنْكُمْ شَهادَةً بِأَمرٍ لا تَعْلَموُنَهُ اعْتَذِروُا بِأَنَّنا لا نَشْهَدُ إِلَّا بما عَلِمْنا، وَإِلَّا فَإِنَّكَ داخِلٌ فيِما جاءَ فِيِهِ الوَعيِدُ مِنْ شَهادَةِ الزُّوُرِ الَّتِيِ حَذَّرَ مِنْها النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ-.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, إِنَّ مِمَّا شاعَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ صُوُرِ الكَذِبِ أَنْ يَكْذِبِ الِإنْسانُ مازِحًا، وَيَقوُلُ: هَذا كذَبٌ أَبْيَضُ لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَضَرَّة، لا آكُلُ بِهِ مالَ أَحَدٍ بَغِيْرِ حَقٍّ، وَلا أُصِيِبَ بِهِ شرًّا، إِنَّما أُدْخِلَ بِهِ السُّروُرُ عَلَىَ النَّاسِ، وَهؤُلاءِ قالَ فيِهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ - فيِما جاءَ في مُسْنَدِ الِإمامِ أَحْمَدُ مِنْ حَديِثِ مُعاوِيَةَ: «ويلٌ له، ويلٌ له، ويلٌ لهُ، الَّذِيِ يُحدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ النَّاسَ»، كَرَّرَها رَسوُلُ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلاثًا، «ويلٌ لِلَّذِيِ يُحدِّثُ فَيَكْذِبُ ليُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ، وَيْلٌ لَهٌ، وَيْلٌ لَهُ»أخرجه أحمد(20021), وأبو داود(4990)بإسناد حسن، فَاحْذَرْ أَنْ تَكوُنَ فيِ هَذِهِ الدَّائِرَةِ، أَنْ تَكْذِبَ لِتُضْحِكَ النَّاسَ، فَيَنالَكَ الوَيْلُ مِنَ اللهِ - عزَّ وَجَلَّ -، وَقَدْ قالَ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا زعيمٌ.. بِبَيْتٍ في وَسَطِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ، وَإنْ كَانَ مَازِحًا»أخرجه أبو داود ح(4800)بإسناد صحيحالَّلهُمَّ اجْعَلْنا مِنَ الصَّادِقينَ، الَّلهُمَّ اجْعَلْنا مِنَ الصَّادِقينَ، الَّلهُمَّ اجْعَلْنا مِنَ الصَّادِقينَ في الأَقْوالِ وَالأَعْمالِ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ, اغْفِرْ لَنا الخَطَأَ وَالزَّلَلَ في السِّرِّ وَالعَلَنِ، أَسْتَغْفِرُهُ وَأَتوُبُ إِلَيِهِ، فَاسِتَغْفِروُهُ وتوُبوُا إِلَيْهِ؛ إِنَّهُ هُوَ التَّوابُ الرَّحيمُ.
***
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثيرًا طَيِّبًا مُباركًا فِيِهِ، حَمْدًا يُرْضيِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريِكَ لَهُ، وَأَشَهْدُ أَنَّ مُحمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسوُلُهُ، صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ، ومَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، تَحَرَّوْا الصِّدْقَ في أَعْمالِكُمْ وَأَقْوالِكُمْ وَسائِرِ أَحْوالِكُمْ، كوُنوُا قُدْوَةً لأبْنائِكُمْ في الصدق؛ فإنَّ الصدق يُتلقى تربيةً مِنَ الآباءِ مُنْذُ الصِّغَرِ، فاصْدقوُا اللهَ - تَعالَىَ -، رَوَىَ أبوُ داودَ مِنْ حديِثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عامِرٍ أَنَّ أُمَّهُ قالَتْ لَهُ يَوْمًا مِنَ الأَيَّامِ وَهُوَ صَبِيٌّ: تَعالَ أُعْطِكَ، يا عَبْدَ اللهِ تَعالَ أُعطِكَ، وَكانَ رسوُلُ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاهِدًا، فَقالَ لها: «وَما أَرَدْتِ أَنْ تُعْطيِه؟»، أَيُّ شَيْءٍ أَرَدْتِ أَنْ تُعْطيِهِ عَبْدَ اللهِ؟ قالَتْ: أُعْطيِهِ تمرًا، فَقالَ النَّبِيُّ- صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لمْ تُعطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذِبَةً»أخرجه أبوداود(4991)وهو: حسَنٌ لِغَيْرِهِ،فَهَذا تَحْذيرٌ نَبَوِيٌّ مِنَ الكَذِبِ عَلَىَ الأَطْفالِ وَالصِّغارِ؛ لِما في ذَلِكَ مِنْ تَربِيَتِهِمْ عَلَىَ هَذِهِ المسالكِ الرَّديِئَةِ.
وَاعْلموُا أيُّها المؤْمنوُنَ أَنَّ حديِثَ الِإنْسانِ بِكُلِّ ما سَمِعَ لا بُدَّ أَنْ يُوُقِعَهُ فيِ كَذِبٍ؛ وَلهذا قالَ - صلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ ِوَسَلَّمَ - فِيِما رَواهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَديِثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كفى بالمرء كَذِبًا أن يُحدِّث بكل ما سَمِع»أخرجه: مسلم في مقدمة «صحيحه» ح (5)، يَقوُلوُنَ، سَمِعْنا، قالوُا... وَما أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنِ العباراتِ الَّتيِ يُصدِّرُ بِها بَعْضُ النَاسِ حَديِثَهُمْ فِيماَ يَنْقِلوُنَهُ مِنْ الأَقاوِيِلِ، هُوَ مِمَّا يَنْدَرِجُ في قَوْلِهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلِيْه وَسَلَّمَ -: «كفى بالمرء كَذِبًا أن يُحدِّث بكل ما سَمِع»، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «بئس مطيَّة الرجل: زعموا»أخرجه أبوداود ح(4972), وقال الحافظ: فى " الفتح " 10 / 551: رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا.، أَيْ: بِئْسما يَرْكَبُهُ الإِنْسانُ فيِ حَديِثِهِ، وَفيِ نَقْلِهِ أَنْ يِقوُلَ: (زَعَموُا)، أَيْ: قالوُا، وَيَقوُلوُنَ، وَمَنْقوُلٌ.... وَما أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ العباراتِ الَّتِي تُؤَدِّيِ إِلَىَ نَفْسِ المعْنَىَ.
أَيُّها المؤْمْنوُنَ, إِنَّ الكَذِبَ اليَوْمَ خَطيرٌ عَظيمِ؛ٌ وذَلِكَ أَنَّهُ إِذا كَذَبَ الإِنْسانُ كَذِبَةً فَإِنَّهُ قَدْ تَبْلُغُ الآفاقَ، فيُُدْركُهُ ما جاءَ مِنَ الوَعيِدِ في حَديِثِ البُخارِيِّ في قِصَّةِ ما رآهُ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مَنامِهِ، حَيْثُ رَأَىَ رَجُلًا عَلَيْهِ رَجلانَ وَاقِفانِ، مَعَهُما قِطَعٌ مِنْ حَديِدٍ، يَضَعوُنَهُ في شِدْقِ الرَّجُلِ؛ أَيْ: في طَرَفِ فَمِهِ، فَيُشَرْشِروُنَهُ إِلَىَ قَفاهُ، ثُمَّ يَعوُدُ سَليمًا، وَيَعوُدوٌنَ إِلَىَ هذا العَمَلَ، فَرَأَىَ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهٌ عَلَيْهَ وَسَلَّمَ - هَذا الأَمْرَ وَفَزِِعَ مِنْهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقالَ لَهُ الملَكُ: «ذاك كذَّابٌ يكذِب بالكَذِبة تُحمل عنه»، أَيْ: تُنْقَلُ عَنْهُ، وَاتْس آب، تُويتَرْ، فيِسْ بوُكْ، وَغَيْرِ ذِلكَ مِنْ وَسائِلِ النَّقْلِ الَّتيِ تِيَسَّرَ بها أَنْ يَقوُلَ الِإنْسانُ الكَلِمَةَ فَتطيِرُ في الآفاقِ، «ذاك كذَّابٌ يكذِب بالكذبة، تُحمَل عنه»، يعني تُنقل عنه «حتى تبلغ الآفاق,فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»أخرجه البخاري(1386)، هَذا فِيِ عذابِ القَبْرِ، فَيُصْنَعُ بِهِ ذَلِكَ إِلَىَ يَوْمِ القِيامَةِ؛ عُقوُبَةً مُعَجَّلَةً عَلَىَ هذا الكَذِبِ الَّذيِ بَلَغَ الآفاقَ.
وَيَعْظُمُ الكَذِبُ عِنْدما يَكوُنُ عَلَىَ الشَّريِعَةِ، أَوْ عَلَىَ العُلَماءِ، أَوْ عَلَىَ وُلاةِ الأَمْرِ، وَمَنْ بِيَدِهِمْ الحُكْمُ؛ فَإِنَّ الكَذِبَ عَلَيْهِمْ لَيْسَ كالكَذِبِ عَلَىَ سائِرِ النَّاسِ، الكَذِبُ كُلُّهُ قَبيِحٌ، وَيَعْظُمُ بِقَدْرِ ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ المَفْسَدَةِ في ديِنِ النَّاسِ ودُنْياهُمْ.
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَاحْذَروُا الكَذِبَ، «فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار»، كَما قالَ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ -أخرجه البخاري(6094), ومسلم(2607) ، وَاعْلَموُا أَنَّهُ لا يَـحِلُّ مِنَ الكَذِبِ شَيْءٌ إِلاَّ ما كانَتْ مَصْلَحَتُهُ غالِبةً عَلَىَ مَفْسَدَتِهِ، وَما كانَ فِيِهِ دَفْعُ ضَررٍ أَعْظَمَ مِنَ الكَذِبِ، وَلهذا قالَ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحِلُّ الكذب إلا في ثلاث: يُحدِّث الرجل امرأته ليُرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليُصلِح بين الناس»أخرجه الترمذي(1939), وقال:حسن. قال الألباني: صحيح دون قولهُ لِيُرضِيَها.فَهَذِهِ الصُّورُ الثَّلاثُ لَيْسَتْ مما حَرُمَ منَ الكذِبِ؛ وَذَلِكَ لِما فِيها مِنَ المصْلَحَةِ.
لَكِنْ انْتَبْهْ فيما يَتَعَلَّقُ بَكَذِبِ الرَّجُلِ عَلَىَ امْرَأَتِهِ، أَوْ كَذِبُ المرأَةْ عَلَىَ زَوْجِها، أَوْ كذِبُ الإِنْسانِ في الِإصْلاحِ بيْنَ النَّاسِ؛ يَنْبَغِيِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لا خِلافَ بَيْنَ العُلماءِ أَنَّ هذا الكَذِبَ هُوَ ما يَحْصُلُ بهِ الإِصْلاحُ دوُنَ إِسْقاطِ حقوُقٍ، فَإِنْ كان يَكْذِبُ، وَيُسْقِطُ بِكَذِبِهِ حَقًّا، فَإِنَّهُ يَجْمَعُ سَوْءَتَيْنِ؛ أَكْلُ المالِ بِالباطل ِوإِسْقاطُ الحّقِّ والكذب، وكِلاهُما يُوجِب العقوبة عند الله - عز وجل -؛ فإن النبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أَخْبَرُ عَنْ عظيمِ الكَذِبِ المتَعَلِّقِ بِأَكْلِ أَمْوالِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَكْذَبِ الكَذِبِ وَأَعْظَمِهِ خَطرًا؛ اليَميِنُ الغَموُسُ، أَنْ يَحْلِفَ الِإنْسانُ عَلَىَ شَيْءٍ ماضٍ كاذبًا، يَقوُلُ: بِعْتُ، اشْتَرَيْتُ، وَفَّيْتُ، فَعَلْتُ... فيما مَضَىَ وَهُوَ كاذِبٌ، يَعْظُمُ الكَذِبُ في اليَميِنِ الغَموُسِ عَنْدَما يَقْتَطِعُ بَها مالَ امْرِئٍ بَغَيْرِ حَقٍّ،«مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ»البخاري(7445), ومسلم(137)، يَعنِيِ: وَإِنْ كانَ سِواكًا، لَوِ اقْتَطَعَ بِيَمينٍ كَاذِبَةٍ سِواكًا لَقِيَ اللهَ يَوْمَ القِيامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبانُ، فَكيِفَ بمَنْ يَأْكُلُ الأَمْوالَ العَظيِمَةَ باِلأَيْمانِ الكاذِبَةِ، وَيَحْلِفُ أيْمانًا مُغلَّظَةً، وَهُوَ يعَرْفُ أَنْهُ كاذبٌ فيِها، سَيَلْقَىَ اللهَ يَوْمَ القِيامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبانُ، فَلْيَسْتَعِدَّ لِذَلِكَ الموْقفِ الَّذِيِ لا يَنْفَعُ فِيِهِ مالٌ وَلا بَنوُنَ إِلَّا مَنْ أَتَىَ اللهَ بِقَلْبٍ سَليِمٍ.
فَاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَاصْدُقوُا اللهَ، وَما فاتَكُمْ بِالصِّدْقِ تُدْركوُنَهُ بِالأَجْرِ وَالمثوُبَةِ وَعظيِمِ العاقِبَةِ الجَميِلَةِ مِنَ اللهِ، وَما اكْتَسَبْتُموُهُ بِالكَذِبِ فَهُوَ مُحقٌ وَشرٌّ عاجِلًا وَآجِلًا؛ ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ البقرة: 276، «إن صدقا وبيَّنا بُورِك لهما في بيعهما، وإن كَذَبا وكتما مُحِقت بركة بيعهما»البخاري(2079), ومسلم(1532)، َفاتَّقوُا اللهَ وَكوُنوُا مَعَ الصَّادِقينَ، «الصِّدْقُ يَهْدِيِ إِلَىَ البِرِّ»، وَهُوَ كُلَّ خَيْرٍ في القَوْلِ وَالعَمَلِ، «وَالبِرُّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ»، ثُم قالَ -صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «وَلا يَزالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحرَّىَ الصِّدْقَ»، يَعْنيِ يَبْذُلُ جُهْدَهُ في أَنْ يَكوُنَ صادِقًا، «حَتَّىَ يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا»أخرجه البخاري(6094), ومسلم(2607) .
الَّلهُمَّ اجْعَلْنا مَنِ الصَّادِقيِنَ يا ذا الجَلالِ وَالِإكْرامِ، الَّلهُمَّ امْلأْ قُلوُبَنا يَقيِنًا وَصِدْقًا، وَاعْمُرْ أَعْمالَنا صَلاحًا وَبِرًّا، وَسَدِّدْنا في القَوْلِ وَالعَمَلِ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْراِم، رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لمْ تَغْفِرْ لَنا وِتَرْحَمْنا لَنكوُنَنَّ مِنَ الخاسرينَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنا ذُنوُبَنا كُلَّها، دِقَّها وَجِلَّها، صَغيِرَها وَكَبيِرَها، عَلانِيَتَها وَسِرَّها يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ.
رَبَّنا أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَلَيْنا، الَّلهُمَّ أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَلَيْنا، الَّلهُمَّ أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَلَيْنا، وَانْصُرْنا عَلَىَ مَنْ بَغَىَ عَلَيْنا، اهْدِنا وَيَسِّرِ الهُدَىَ لَنا، اجْعَلْنا لَكَ ذاكرينَ، شَاكريِنَ، راغِبينَ، راهِبينَ، أَوَّاهيِنَ، مُنيبيِنَ، الَّلهُمَّ تَقَبَّلْ تَوْبَتَنا، الَّلهُمَّ تَقَبَّلْ تَوْبَتَنا، الَّلهُمَّ تَقَبَّلْ تَوْبَتَنا، وَثَبِّتْ حُجَّتَنا، وَسُلَّ السَّخائِمَ مِنْ قلوُبِنا يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ.
رَبَّنا اغْفِرْ لَنا وَلإِخْوانِنا الَّذينَ سَبقوُنا بِالإِيمانِ، وَلا تَجْعَلْ في قلوُبِنا غِلًّا للَّذين آمنوا رَبَّنا إِنَّكَ رؤوُفٌ رحيمٌٌ.
الَّلهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُموُرِنا، وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فِيمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا رَبَّ العالمينَ، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَليَّ أَمْرِنا المَلِكَ سَلْمانَ وَوَليَّ عَهْدِهِ إِلَىَ مَا تُحبُّ وَتَرْضَىَ، خُذْ بِنواصيِهِمْ إِلَىَ البِرِّ وَالتَّقْوَىَ، سَدِّدْهُمْ في الأَقْوالِ وَالأَعْمالِ، وَاجْعَلْ لهُمْ مِنْ لَدُنْكَ سُلطانًا نَصيِرًا، هيِّئْ لَهُمْ بِطانَةً صَالحةً، وَابْعِدْ عَنْهُمْ كُلَّ سوُءٍ وَشَرٍّ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ.