فَائِدَة قَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} علق سُبْحَانَهُ الْهِدَايَة بِالْجِهَادِ فأكمل النَّاس هِدَايَة أعظمهم جهادا وأفرض الْجِهَاد جِهَاد النَّفس وَجِهَاد الْهوى وَجِهَاد الشَّيْطَان وَجِهَاد الدُّنْيَا فَمن جَاهد هَذِه الْأَرْبَعَة فِي الله هداه الله سبل رِضَاهُ الموصلة إِلَى جنته وَمن ترك الْجِهَاد فَاتَهُ من الْهدى بِحَسب مَا عطل من الْجِهَاد قَالَ الْجُنَيْد {وَالَّذين جاهدوا} أهواءهم {فِينَا} بِالتَّوْبَةِ {لنهدينهم} سبل الْإِخْلَاص وَلَا يتَمَكَّن من جِهَاد عدوه فِي الظَّاهِر إِلَّا من جَاهد هَذِه الْأَعْدَاء بَاطِنا فَمن نصر عَلَيْهَا نصر على عدوه وَمن نصرت عَلَيْهِ نصر عَلَيْهِ عدوه.
فصل ألْقى الله سُبْحَانَهُ الْعَدَاوَة بَين الشَّيْطَان وَبَين الْملك والعداوة بَين الْعقل وَبَين الْهوى والعداوة بَين النَّفس الأمارة وَبَين الْقلب وابتلى العَبْد بذلك وَجمع لَهُ بَين هَؤُلَاءِ وأمد كل حزب بِجُنُود وَأَعْوَان فَلَا تزَال الْحَرْب سجالا ودولا بَين الْفَرِيقَيْنِ إِلَى أَن يستولي أَحدهمَا على الآخر وَيكون الآخر مقهورا مَعَه فَإِذا كَانَت النّوبَة للقلب وَالْعقل وَالْملك فهنالك السرُور وَالنَّعِيم واللذة والبهجة والفرح وقرة الْعين وَطيب الْحَيَاة وانشراح الصَّدْر والفوز بالغنائم وَإِذا كَانَت النّوبَة للنَّفس والهوى والشيطان فهنالك الغموم والهموم وَالْأَحْزَان وأنواع المكاره وضيق الصَّدْر وَحبس الْملك فَمَا ظَنك بِملك استولى عَلَيْهِ عدوه فأنزله عَن سَرِير ملكه وأسره وحبسه وَحَال بَينه وَبَين خزائنه وذخائره وخدمه وصيّرها لَهُ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَتَحَرَّك الْملك لطلب ثَأْره وَلَا يستغيث بِمن يغيثه وَلَا يستنجد بِمن ينجده وَفَوق هَذَا الْملك ملك قاهر لَا يقهر وغالب لَا يغلب وعزيز لَا يذل فَأرْسل إِلَيْهِ إِن استنصرتني نصرتك وَإِن استغثت بِي أغثتك وَإِن التجأت إِلَيّ أخذت بثأرك وَإِن هربت إِلَيّ وأويت إِلَيّ سلطتك على عَدوك وَجَعَلته تَحت أسرك فَإِن قَالَ هَذَا الْملك المأسور قد شدّ عدوي وثاقي وَأحكم رباطي واستوثق مني بالقيود وَمَنَعَنِي من النهوض إِلَيْك والفرار إِلَيْك والمسير إِلَى بابك فَإِن أرْسلت جندا من عنْدك يحل وثاقي ويفك قيودي ويخرجني من حَبسه أمكنني أَن أوافي بابك وَإِلَّا لم يمكنني مُفَارقَة محبسي وَلَا كسر قيودي فَإِن قَالَ ذَلِك احتجاجا على ذَلِك السُّلْطَان ودفعا لرسالته ورضا بِمَا هُوَ فِيهِ عِنْد عدوّه خلاه السُّلْطَان الْأَعْظَم وحاله وولاه مَا تولى وَإِن قَالَ ذَلِك افتقارا إِلَيْهِ وإظهارا لعَجزه وذله وَأَنه أَضْعَف وأعجز أَن يسير إِلَيْهِ بِنَفسِهِ وَيخرج من حبس عدوه ويتخلص مِنْهُ بحوله وقوته وَأَن من تَمام نعْمَته ذَلِك عَلَيْهِ كَمَا أرسل إِلَيْهِ هَذِه الرسَالَة أَن يمده من جنده ومماليكه بِمن يُعينهُ على الْخَلَاص وَيكسر بَاب محبسه ويفك قيوده فَإِن فعل بِهِ ذَلِك فقد أتم إنعامه عَلَيْهِ وان تخلى عَنهُ فَلم يَظْلمه وَلَا مَنعه حَقًا هوله وَأَن حَمده وحكمته اقْتضى مَنعه وتخليته فِي محبسه وَلَا سِيمَا إِذا علم أَن الْحَبْس حَبسه وَأَن هَذَا الْعَدو الَّذِي حَبسه مَمْلُوك من مماليكه وَعبد من عبيده ناصيته بِيَدِهِ لَا يتَصَرَّف إِلَّا بِإِذْنِهِ ومشيئته فَهُوَ غير ملتفت إِلَيْهِ وَلَا خَائِف مِنْهُ وَلَا مُعْتَقد أَن لَهُ شَيْئا من الْأَمر وَلَا بِيَدِهِ نفع وَلَا ضرّ بل هُوَ ناطر إِلَى مَالِكه ومتولي أمره وَمن ناصيته بِيَدِهِ قد أفرده بالخوف والرجاء والتضرّع إِلَيْهِ والالتجاء وَالرَّغْبَة والرهبة فهناك تَأتيه جيوش النَّصْر وَالظفر أَعلَى الهمم فِي طلب علم الْكتاب وَالسّنة والفهم عَن الله وَرَسُوله نفس المُرَاد وَعلم حُدُود الْمنزل وأخّس همم طلاب الْعلم قصر همته على تتبع شواذ الْمسَائِل وَمَا لم ينزل وَلَا هُوَ وَاقع أَو كَانَت همته معرفَة الِاخْتِلَاف وتتبع أَقْوَال النَّاس وَلَيْسَ لَهُ همة إِلَى معرفَة الصَّحِيح من تِلْكَ الْأَقْوَال وقلّ أَن ينْتَفع وَاحِد من هَؤُلَاءِ بِعِلْمِهِ وَأَعْلَى الهمم فِي بَاب الْإِرَادَة أَن تكون الهمة مُتَعَلقَة بمحبة الله وَالْوُقُوف مَعَ مُرَاده الديني الأمري وأسفلها أَن تكون الهمة واقفة مَعَ مُرَاد صَاحبهَا من الله فَهُوَ إِنَّمَا يعبده لمراده مِنْهُ لَا لمراد الله مِنْهُ فَالْأول يُرِيد الله وَيُرِيد مُرَاده وَالثَّانِي يُرِيد من الله وَهُوَ فارغ عَن إِرَادَته.