(سورة الزلزلة)
قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} هذه الآية الكريمة تقتضي أن كل إنسان كافرا أو مسلما يجازى بالقليل من الخير والشر, وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف هذا العموم، أمّا ما فعله الكافر من الخير فالآيات تصرّح بإحباطه كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}, وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} وكقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} الآية, وقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} الآية, إلى غير ذلك من الآيات، وأمّا ما عمله المسلم من الشر فقد صرّحت الآيات بعدم لزوم مؤاخذته به لاحتمال المغفرة أو لوعد الله بها كقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}, وقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم} إلى غير ذلك من الآيات، والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: أن الآية من العام المخصوص، والمعنى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره إن لم يحبطه الكفر بدليل آيات إحباط الكفر عمل الكفار، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره إن لم يغفره الله له بدليل آيات احتمال الغفران والوعد به.
الثاني: أنّ الآية على عمومها وأنّ الكافر يرى جزاء كل عمله الحسن في الدنيا كما يدل عليه قوله تعالى: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} الآية, وقوله: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} الآية, وقوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}، والمؤمن يرى جزاء كل عمله السيّء في الدنيا بالمصائب والأمراض والآلام، ويدل لهذا ما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب وابن أبي حاتم وجماعة عن أنس قال: "بينا أبو بكر رضي الله عنه يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية فرفع أبو بكر يده وقال: يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من شر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر" الحديث.
الوجه الثالث: أن الآية أيضاً على عمومها وأن معناها أن المؤمن يرى كل ما قدم من خير وشر فيغفر الله له الشر ويثيبه بالخير، والكافر يرى كل ما قدم من خير وشر فيحبط ما قدم من خير ويجازيه بما فعل من الشر.
(سورة العاديات)
قوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} الآية، هذه الآية تدل على أنّ الإنسان شاهد على كنود نفسه أي مبالغته في الكفر، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}, وقوله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}, والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: أنّ شهادة الإنسان بأنه كنود هي شهادة حالة بظهور كنوده، والحال ربما تكفي عن المقال.
الثاني: أن شهادته على نفسه بذلك يوم القيامة كما يدل له قوله: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}, وقوله: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ}, وقوله: {بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
الوجه الثالث: أن الضمير في قوله {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} راجع إلى رب الإنسان المذكور في قوله: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} وعليه فلا إشكال في الآية، ولكن رجوعه إلى الإنسان أظهر بدليل قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} والعلم عند الله تعالى.