المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نحييكم تحيةً طيبةً عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة، في هذه الحلقة المباشرة والمتجددة لبرنامج "الدين والحياة"، والتي نستمر معكم فيها حتى الثالثة بمشيئة الله تعالى.
في بداية هذه الحلقة تقبلوا تحياتي محدثكم/ وائل الصبحي، ومن الإخراج الزميل/ ياسر زيدان.
ضيف حلقات برنامج "الدين والحياة" هو فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح؛ أستاذ الفقه بجامعة القصيم، وعضو لجنة الإفتاء بمنطقة القصيم.
فضيلة الشيخ؛ خالد السلام عليكم، وأهلًا وسهلًا بك معنا في بداية هذه الحلقة من برنامج "الدين والحياة".
الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم، حيَّاكم الله، وأسأل الله أن يجعله لقاءً نافعًا مباركًا.
المقدم: اللهم آمين، مستمعينا الكرام أنتم أيضًا بإمكانكم أن تشاركونا في هذه الحلقة من برنامج "الدين والحياة" عبر هاتفي البرنامج على الرقمين: 0126477117، أو عن طريق الهاتف الآخر على الرقم 0126493028
فضيلة الشيخ - بمشيئة الله تعالى - سيكون حديثنا في هذه الحلقة حول موضوع "طيب النفس" من الموضوعات التي تهم المسلم في أمور دينه ودنياه أن يكون طيبَ النفس، سنتحدث حول مجموعة من النقاط المعينة بهذا الموضوع: معنى "طيب النفس"، وكيف يكون المسلم طيبًا في نفسه؟ أيضًا نريد أن نتحدث عن الأحاديث والآثار والسياقات التي ورد فيها ذكر "طيب النفس"، أيضًا الأسباب التي تجعل المسلم طيبًا في نفسه، وأخيرًا سنتحدث حول أثر طيب النفس على الإنسان وعلى من حوله.
ابتداءً فضيلة الشيخ نريد أن نتحدث حول معنى "طيب النفس"؛ ما هو المعنى الذي نقصده بأن يكون المسلم طيبًا في نفسه؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلِّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع سنته إلى يوم الدين. أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحيةً طيبةً لك أخي وائل وللإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، في هذه الحلقة من برنامج "الدين والحياة"، نتحدث عن "طيب النفس":
الله تعالى خلق الإنسان وركَّبه مِن بدنٍ وروحٍ، وهو -جل في علاه- قد أخبر بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم كما قال تعالى: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾التين: 1- 4 وهذا القسَم الذي ذكره الله تعالى في كتابه بهذه البقاع المباركة التي هي مواقع نزول الوحي، جواب القسم فيها خبره بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، يعني في أحسن هيئة، وفي أحسن حال، وفي أحسن بناء لبدنه وروحه؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾الانفطار: 6- 8، وهذا خلق البدن وتصويره، والله يصور الإنسان كيف يشاء - سبحانه وبحمده -.
وثمة تسوية أخرى تتعلق بالروح ذكرها الله تعالى في محكم كتابه في قوله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾الشمس: 7- 10 هذه الآيات المباركات التي عُنيت ببيان خلق الإنسان في صورته ومظهره، وفي نفسه وجوهره؛ شملت الخبر عن عناية الله - عز وجل - بهذا الإنسان، وأنه قد كرَّمه - جل في علاه -، ومكَّنه بما يتحقق به له سعادة الدنيا والآخرة إنْ شَكَرَ هذه النِّعم وقام بحق مسديها، وما يكون له من الهلاك والبوار فيما إذا عطَّل هذه النِّعم ودساها.
في خلق البدن الله - عز وجل - ذكر تعديل الإنسان وتقويمه، وحسن خلقه؛ فقد وهب الله الإنسان من السمع والبصر والقوة ما يتمكن به من تحقيق سعادة الدنيا وفوز الآخرة في خلق النفس، ذكر الله تعالى خلق النفس وأنها قابلة للإصلاح والاعتناء والتزكية، كما أنها قابلة للتدسية والإهمال والإضاعة، فإذا زكاها فقد أفلح، وإذا دسَّاها وأهملها ولم يعتنِ بإصلاحها فقد خاب وخسر.
إذًا النفس ليست كالبدن من حيث إنه صالح في الأصل، وممكَّن لما يريده من المصالح، إنما النفس تحتمل هذا وتحتمل هذا، تحتمل التزكية بجهد من الإنسان، وتحتمل التدسية بإهمال وغفلة من الإنسان.
إذًا؛ حديثنا عن النفس هو حديث عن أحوالها، وطيبها هو أكمل أحوالها وأطيب ما يكون من شأنها؛ ولهذا ذَكَرَ الله تعالى النفس في كتابه في مواضع عديدة، فذكر النفس اللوَّامة، وذكر النفس المطمئنة، وبشَّر النفس المطمئنة بالخير، وبيَّن كيف تطمئن، وبيَّن خطورة إهمال النفس، وذكر النفس اللوامة؛ فاعتناء الشريعة واعتناء الوحي بالنفس وأحوالها ظاهرٌ بيِّن في كتاب الله - عز وجل -، وكذلك في سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ولهذا مِن الجدير بالعناية والاهتمام أن يعتني الإنسان بنفسه، يعتني بروحه، يعتني بجوهره؛ فإن ذلك من أسباب سعادته وفلاحه ونجاحه، وبقدر ما يُولي الإنسان نفسه من العناية والتزكية والإصلاح بقدر ما يدرك من الصلاح والفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة؛ ولهذا من المهم أن يولي الإنسان نفسه العناية الفائقة لتكميلها وتطييبها حتى ينال بذلك الفوز والسعادة؛ فإن طيب النفس ثمرة لأعمال وجهود يقوم بها الإنسان؛ متى ما كمل ذلك كان ذلك من موجبات إدراكه للنعيم العاجل في الدنيا قبل ما يكون من النعيم الآجل الذي يدركه في الآخرة.
ولهذا ينبغي لكل عاقل راشد أن يعي ضرورة العناية بنفسه؛ فإن العناية بنفسه مما يحصل له بها نعيم الدنيا ويحصل له بها الفوز والسبق في الدنيا وفي الآخرة.
النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أخبر بأن طيب النفس من النعيم؛ فعن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كنا في مجلس فطلع علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسه أثر ماء، فقلنا: يا رسول الله نراك طيب النفس، أي: أثر طيب نفسه فاض عليه - صلى الله عليه وسلم - حتى أدركه أصحابه، قال: «أجل» قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أجل، إن ما رأيتموه حق إنه طيب النفس» - صلى الله عليه وسلم - قال: ثم خاض القوم في ذكر الغنى، يعني تكلموا عن الغني وما يتعلق بشأنه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا بأس بالغنى لمن اتقى الله -عز وجل-، والصحة لمن اتقى خير من الغنى» مفاضلة بين الغنى وبين الصحة؛ يعني تحدثوا في الغنى، ولعلهم تحدثوا أيهما أفضل؛ أن يكون الإنسان غنيًّا أو يكون صحيحًا؟ فعلَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لا بأس بالغنى لمن اتقى» يعني من أعطاه الله مالًا فسلطه على هلكته، واتقى الله تعالى في ماله؛ فإنه يدرك بذلك خيرًا عظيمًا «لا بأس بالغنى لمن اتقى» ثم قال: «والصحة لمن اتقى خير من الغنى» لأن من الصحة يدرك من العبادات والطاعات وتحقيق العبودية لله - عز وجل - ما لا يدركه بالمال، بمعنى أن المال يدرك به أنماطًا من العبادات والقربات، لكن بصحة البدن يدرك من العبادات والطاعات ما لا يدركه بماله، وكما أن أثر العبادة البدنية أعظم من أثر العبادة المالية، ولهذا من حج بنفسه كان أثر الحج عليه أعظم ممن حج بنائب ممن يجلب له مالًا ليحج عنه، وفي كلا الأمرين خير، وفي كلٍّ خير، لكن ما يباشر الإنسان بنفسه أعظم أجرًا مما يباشره بماله دون نفسه.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم -، وهنا موضع الشاهد من الحديث، قال: «وطِيب النفسِ من النعيم»[سنن ابن ماجه:ح2141، ومستدرك الحاكم:ح2131، وقال:صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. ووافقه الذهبي]، أي: من النعيم الذي يتنعَّم به الإنسان في دنياه ويتنعم به في آخرته.
طيب النفس معنًى يشمل معانيَ عديدةً، وصفٌ يشمل معانيَ عديدةً، فطيب النفس يتضمن الطمأنينة، فالنفس الطيبة مطمئنة، النفس الطيبة منشرحة الصدر، النفس الطيبة سمحة، النفس الطيبة قد تحلت بسكون، غَشَتْها السكينة، وعَلَتْها الرحمة، ولا يكون منها إلا خير؛ ولذلك كان من نعيم أهل الجنة طيب نفوسهم، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ﴾يس: 55 ما معنى فاكهون؟ قيل: طيبة نفوسهم؛ ففسر جماعة من العلماء قوله تعالى: ﴿فَاكِهُونَ﴾ بأنهم طابت لهم نفوسهم.[تفسير القرطبي:15/44] ولا ريب أن أهل الجنة من أعظم الناس طيبًا لنفوسهم؛ إذ إنه يزول عنهم كل كدر، ويملكون كلَّ برٍّ وسعادة وطمأنينة، ولهذا ينبغي للمؤمن أن يسعى في طيب نفسه لتكون خاتمته كما قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ﴾النحل: 32 أي: طيبة نفوسهم، عبَّر بالطيبين هنا ليشمل: طيب النفس، قبول العمل، انشراح الصدر، الوعد الحسن من رب العالمين - سبحانه وبحمده - فيما يكون من صالح الأعمال.
خلاصة الأمر: أن طيب النفس مُنية، وهي منزلة عظيمة يدرك بها الإنسان سعادة الدنيا وفوز الآخرة، فإن طَيِّبَ النفس مسرور القلب، طَيِّب النفس صاحب صلاح بالخيرات، يدرك من اللذة والبهجة والطمأنينة والانشراح والنور والسعة والعافية ما لا يدركه غيره مهما أدرك من النعيم، فلا نسبة لنعيم الروح وطمأنينتها بطاعة الله تعالى لنعيم البدن الذي قد يدركه بالشهوات المحرمة، ولهذا ينبغي للمؤمن أن يسعى جاهدًا في أن يكون طيب النفس، الله سوَّى النفس وأخبر أنه سوى البدن، وأخبر -جل في علاه- بطيب حال من طابت نفسه وأنه مفلح يدرك كل سعادة، وخيبة من خبُثت نفسه فكانت مهملةً بعيدةً عن التطيُّب والتزكية والإصلاح.
المقدم: مستمعينا الكرام أنتم أيضًا بإمكانكم أن تشاركونا في هذه الحلقة عبر هاتفي البرنامج على الرقمين: 0126477117، أو عن طريق الهاتف الآخر على الرقم 0126493028.
فضيلة الشيخ نعود بالحديث حول موضوعنا في هذه الحلقة حول "طيب النفس"، وذكرنا مجموعةً من الأحاديث والآثار والسياقات التي ورد فيها معنى طيب النفس، لكن نريد أن نتحدث فضيلة الشيخ عن الأسباب التي تعين المسلم على أن يكون طيبًا في نفسه، وفي هذا وردت جملة أيضًا من الآثار والأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
الشيخ: أخي الكريم، طِيب النفس سرور القلب، طِيب النفس طمأنينة الروح، طيب النفس انشراح الصدر وبهجة الفؤاد وسكون الروح، هذه كلها معانٍ متقاربة يفسر بها طيب النفس، هذا الطيب الذي يعمر القلب ينعكس على القول، وينعكس على الفعل، ينعكس على ما يكون من الإنسان، بل ينعكس على صورته، وينعكس عليه في حياته وفي آخرته.
ولهذا ينبغي للمؤمن أن يجدَّ وأن يجتهد في تطييب نفسه. وأسباب تطييب النفس لا حصر لها، فكل ما جاءت به الشريعة من العقائد، كل ما جاءت به الشريعة من العبادات والطاعات والأوامر والنواهي، غايته وغرضه هو طيب نفس الإنسان أن تطيب نفسه؛ ولذلك من اشتغل بالطاعة من الإيمان بالله - عز وجل - والعمل الصالح أدرك من طيب النفس ما يسعد به في دنياه وفي أخراه، يقول الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾النحل: 97 هذه الآية الكريمة التي يُخبر الله تعالى فيها عن عاجل الجزاء والأجر لمن عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وكان عمله ناشئًا عن إيمان، الحامل عليه صدق اليقين والتصديق بما جاء به سيد المرسلين - موعود بالحياة الطيبة لأنه قد طاب والجزاء من جنس العمل.
فكل عمل صالح، كل إيمان صادق هو مما يدرك به الإنسان طيب نفسه، فإذا أدرك طيب نفسه فإنه سينعكس ذلك على جزائه وأجره وثوابه؛ إذ قال الله تعالى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾النحل: 97، وهذا الوعد الإلهي لا يمكن أن يتخلف؛ فإن الله تعالى وعد من عمل صالحًا وكان عمله للصالحات ناشئًا عن إيمان وتصديق أن يبلغه الله تعالى حياةً طيبةً، حياةً ينعم بها.
الحياة الطيبة ليست هي الحياة التي ليس فيها بلاء أو لا يمكن أن يكون فيها عواثر ومضايق ومكروهات، لا أبدًا، يُجري الله تعالى على الإنسان هذا وذاك، يُجري عليه المسرَّات، يجري عليه المساءات، يصيبه بالخير والشر، يسوق إليه الحسنات والسيئات، فيدرك الإنسان هذا وذاك، والمؤمن في كل أحواله يدرك الحياة الطيبة، فالحياة الطيبة لا تعني أن يكون الإنسان في حياته أو في معاشه سالـمًا من المنغصِّات، سالـمًا من المكدِّرات، لا أبدًا، بل قد يكون الإنسان مبتلًى بالمنغصات والمكدرات سواءً في نفسه أو في أهله وولده أو في ماله، ولكن ذلك لا يخرجه عن أنه يحيا حياةً طيبةً؛ فالمؤمنون يدركهم في هذه الدنيا من البلاء والمصائب ما يكون سببًا لعظيم أجرهم وتكفير سيئاتهم وإدراكهم ما يأملون من الخيرات، وما يصيبهم من المكروهات والمصائب ليس بسبب طاعة الله، ولا بسبب طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بل بسبب ما يكون من قصور أو تقصير يمحِّص الله تعالى به عباده ويخلصهم من الذنوب والمعاصي ويرفع درجاتهم، فالمؤمن يُبتلى بالسراء، يبتلى بالضراء، يبتلى بما يحب وبما يكره، وكل ذلك ليُمتَحن وليخلَّص من كل ما يكون من العوالق التي تعيقه عن السوء، ولهذا يُفتن المؤمن، كما يفتن الذهب بالنار ليطيب، ليتميز طيبه من خبثه، والنفوس لا تخلو من شر، فقد جُبلت على الخير والشر، الذي يخلِّص النفوس من شرِّها هو ما يجريه - عز وجل - عليها من الامتحان والاختبار الذي يمحص المؤمن من ذلك الشر وينقيه؛ كما قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾آل عمران: 140 - 141، وقال تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾آل عمران: 154.
وكل هذا يؤكد أن ما يجري على العبد المؤمن من مصائب لا يتنافى مع الحياة الطيبة التي وُعد بها في قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾النحل: 97، فالمصائب تكفر سيئات المؤمن وبالصبر عليها ترتفع درجاته، وما أصابهم مما يكرهون في أنفسهم بما يقضيه الله أو بأيدي أعدائهم يعظم الله تعالى لهم به الأجر؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من غازية يغزون في سبيل الله» وهذه طاعة وعبادة «فيَسْلَمون ويغنمون إلا تعجَّلوا ثُلثَي أجرهم»[صحيح مسلم:ح1906/153] هذا فيما إذا انتصروا وظفروا بعدوهم الذي كادهم وصدَّهم عن طاعة الله وسعى في النيل منهم، وإذا أصيبوا وأخفقوا يعني هزموا كمُل لهم أجرهم؛ فهم لا يخلون من حياة طيبة في ظفرهم ونصرهم وفي هزيمتهم وإخفاقهم.
قال الله -جل في علاه-: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾النحل: 97؛ إذًا كل ما جاءت به الشريعة من الأحكام والشرائع هو مما تطيب به نفس المؤمن وتزكو به، وما يجريه الله تعالى على عبده من الأقضية والأقدار هو مما تطيب به نفسه؛ إذا قابل ذلك بالصبر والاحتساب والطمأنينة والرضا بما قضى الله تعالى وقدر؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له» ثم قال - صلى الله عليه وسلم - في بيان تميز المؤمن بهذه المنحة العظيمة قال: «ولا يكون ذلك إلا للمؤمن».[صحيح مسلم:ح2999/64]
الله تعالى جعل طيب النفس ثمرة كل طاعة، فكل طاعة يتقرب بها العبد إلى الله - عز وجل - يدرك بها منه فضلًا وإحسانًا وإنعامًا؛ ولهذا ينبغي للمؤمن أن يستشعر طيب نفسه في طاعته لربه، وفي قيامه بأمر الله - عز وجل -، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - نماذج لذلك على وجه التمثيل وليس الحصر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأنٍ يجري علينا يوميًّا، ويمكن أن ندرك به طيب النفس غدوةً وعشيةً في كل أوقاتنا فيما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يعقِد الشيطان على قافية رأس أحدهم إذا هو نام ثلاثَ عُقَد» الشيطان يتسلط على الإنسان يقظةً ومنامًا، وما من شأنٍ يدخل فيه الإنسان إلا وللشيطان فيه نصيب؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان يحضر الإنسان في شأنه كله»[صحيح مسلم:ح2033/135]يعني في يقظته وفي منامه، في حزنه وفرحه، في غناه وفقره، وفي صحته ومرضه، وفي شأنه الخاص وشأنه مع غيره، فلا يخلو الإنسان من العدو المتربص الذي يتحين الفرصة ويطلب الثغرة التي من خلالها ينفذ لينال مني ومنك، لينال من الإنسان فيوقعه في حبائله ويستحوذ عليه ويصده عن ذكر الله كما قال تعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾المجادلة: 19 ففي حال المنام يتسلط الشيطان عليه، فينبغي للمؤمن أن يدفع هذا التسلط بطيب الأذكار عند نومه: «باسمك اللهم أموت وأحيا»[صحيح البخاري:ح6312]، «باسمك اللهم أضع جنبي وبك أرفعه»[صحيح البخاري:ح6320]، آية الكرسي عند المنام، التسبيح والتحميد والتكبير وغير ذلك من الأسباب التي يتوقى بها الإنسان كيد الشيطان وشره عند المنام من الأذكار المعروفة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يعقِد الشيطان على قافية رأس أحدهم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليلٌ طويل فارقد»، وهذا لأن الغالب في نوم الناس هو الليل، ولا يصدق على غيره من النوم: «يعقد عليه ثلاث عقد ويضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد» أي: ارقد لتتعقد مصالح دينك ودنياك، «فإن استيقظ فذكر الله» يعني إذا استيقظ الإنسان تنبه وذكر الله عند استيقاظه: «باسمك اللهم أموت وأحيا» أو غير ذلك من الأذكار، «الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني»[مسند أحمد:ح23286، وقال محققو المسند:صحيح] وما أشبه ذلك من الأذكار «إذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة»، لو قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، بأي ذكر، لكن الأذكار النبوية أطيب الذكر، «فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت عقدة»، إذا توضأ وضوءه للصلاة الذي به تتطهر الأعضاء تنحل العقدة الثانية، بقيت عقدة ثالثة: «فإذا صلى انحلت عقدة» إذا صلى نفلًا أو فرضًا انحلت عقدة؛ أي: زالت عنه عقد الشيطان التي حقيقتها إعاقة الإنسان عن طاعته؛ لأن هذه العقد تجذب الإنسان وتقعده عن طاعة الرحمن، تقعده عن خير الدنيا والآخرة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «فإن صلى انحلت عقدة» وما أثر انحلال هذه العقد على الإنسان؟ «فأصبح طيب النفس نشيطًا» فيجمع له الكمال والطيب؛ في البدن بالنشاط والحيوية والقوة، وفي النفس بالروح والطيب والزكاة والانشراح والبهجة، ثم قال: إذا لم يفعل هذا: «وإلا أصبح خبيثَ النفس كسلان»[صحيح البخاري:ح1142]، ، هذا بيان نبوي لأثر من آثار عمل من الأعمال وأثر من آثار الطاعة التي يدرك بها الإنسان طيب النفس؛ وهو سرورها وبهجتها وانشراحها.
الشيطان يسعى بكل ما أوتي من قوة ليصد بيننا وبين الانشراح والبهجة والسرور، يدخل علينا الهموم والأكدار والأحزان، يبذل كل وسعه وطاقته في أن يقعدنا عن الخيرات، هذا ما يتعلق بالسبب الذي يدرك به الإنسان طيب النفس.
طيب النفس ينبغي أن يكون مع الإنسان في كل شئونه، وله أثر بالغ في حصول البركة في كسب الإنسان وفي معاشه وحياته، وهنا ننتقل إلى الجزئية المتعلقة بالآثار، لكن قبل هذا نلخص باختصار: ما الذي تطيب به نفس الإنسان؟ تطيب نفس الإنسان بكل صالحة من العمل في قول أو فعل؛ ما من طاعة من الطاعات إلا ويدرك بها الإنسان سرورًا ونعمةً وخيرًا وبرًّا؛ ولهذا قال الله تعالى فيما قصَّه من شأن الأنبياء فيما قالوه لقومهم: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾هود: 3 قيل في تفسير ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾: يعيِّشكم عيشًا حسنًا[تفسير البغوي:2/438]، وقيل: يعمركم عمرًا حسنًا.
وقيل في معنى العيش الحسن: ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾ هو طيب النفس وسعة الرزق. [تفسير السمعاني:2/412]
فينبغي للمؤمن أن يحرص على هذه الأعمال من الاستغفار والتوبة والأذكار وصالح الأعمال والصلاة والزكاة وسائر العمل الصالح؛ فإنه يثمر بإذن الله طِيبًا في النفس، حتى في الأعمال التي يكلف بها الإنسان على وجهٍ يكون فيها مؤتمنًا من قِبل غيره، على عمل من الأعمال، تطيب نفسه، يكون لطيب نفسه أثر في تحقيق الطيب؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين: «الخازن الأمين الذي يعطي ما أُمر به كاملًا موفورًا طيبةً به نفسه أحد المتصدّقين»[صحيح البخاري:ح1438]، الخازن الأمين يعني الذي وُكِّل بحفظ مال من أموال الصدقة، أو بحفظ مال من أموال التبرعات أو ما أشبه ذلك من الأموال التي لغيره حق فيها، إذا قام بحفظ هذا المال وبَذَلَه كما أُمر كاملًا غير منقوص، طيبةً به نفسه؛ ليس فيها شح ولا فيها حسد ولا فيها مِنَّة - نال أجر المتصدق، فهو أحد المتصدقين، فكل ما يقوم به الإنسان من صالح العمل يعود على نفسه بالزكاة والطيب، وينعكس هذا على روحه وعلى وجهه وعلى عمله؛ ولذلك ينبغي للمؤمن ألا يترك صالح العمل.
ومن أسباب طيب النفس - والله تعالى أعلم - كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ ففي مسند الإمام أحمد من حديث أبي طلحة الأنصاري قال: أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا طيبًا نفع يُرى في وجهه البِشر، وهذا انعكاس لما في النفس، إذا طابت النفس انعكس ذلك على الوجه سرورًا وبشرًا وسماحةً، قالوا: يا رسول الله، أصبحت اليوم طيب النفس يُرى في وجهك البشر قال: «أجل؛ أتاني آتٍ من ربي - عز وجل - فقال: مَن صلى عليك من أمتك صلاةً كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات ورَدَّ عليه مثلها»[مسند أحمد:ح16352، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:ح1661]، فضل الله واسع وعطاؤه كريم جل في علاه.
المقدم: اسمح لي فضيلة الشيخ أن نستقبل مشاركات الإخوة المستمعين الكرام، معنا على الهاتف عبد العزيز الشريف حياك الله يا عبد العزيز أهلًا وسهلًا.
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أهلًا وسهلًا.
المتصل: حياك الله يا سيد وائل وبارك الله فيكم جميعًا على ما تقدمون في هذه الإذاعة المباركة.
المقدم: أهلًا وسهلًا حياك الله.
المتصل: طيب النفس وعلاقته بالزوجة الصالحة؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الزوجة الصالحة: «إذا نظرتَ إليها أسرَّتك»[سنن أبي داود:ح1664، ومستدرك الحاكم:ح1487، وقال:هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ] فما هي العلاقة التي بين الزوج وزوجته الصالحة في أن تكون نفسه طيبة عندما ينظر إليها؟
الأمر الثاني - بارك الله فيك - «إن أطيب ما أكلتم من كَسْبِكم، وإن أولادكم من كسبكم»[سنن الترمذي:ح1358، وحسنه] ما معنى هذا الحديث؟ وهل معناه أن الأولاد الذين في البيت يجلبون طيب النفس لأبيهم وأمهم؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته شكرًا لك الأخ عبد العزيز الشريف، معنا الأخ عبد الكريم الهاشمي حياك الله يا عبد الكريم أهلًا وسهلًا.
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: حياكم الله بالخير، والله يحييكم ويحيي الدكتور خالد ويحفظكم، ويرفعكم، ويرفع مقامكم ودرجتكم، النفس الطيبة؛ الإنسان كلما عمل خيرًا مع أصحابه، مع أهل بيته، مع جيرانه، مع كل الناس من عمل طيب، عمل صالحًا يجد نفسه طيبةً، نفسه ترتاح، ووجهه يرتاح، وتجد وجهه بشوشًا، ووجهه منيرًا؛ أمثال كثير من مشايخنا، يتقبل الإنسان كلامهم، يتقبل كل شيء لطيبة نفوسهم، لأن كلامهم يخرج من قلوبهم، من نفس طيبة وروح طيبة، ولله الحمد، والله يحفظكم ويحفظ أهل البلد، ويحفظ خادم الحرمين الشريفين وولي عهده ويحفظ لنا علماءنا، هؤلاء الذين ما قصروا، والله يطيب أنفسهم ويرفعها ويجعل ذلك في ميزان حسناتكم، وإذاعة هذه القناة، الله ينور قلوبكم.
المقدم: آمين، آمين.
المتصل: وشكرًا، وصلى الله على سيدنا محمد.
المقدم: عليه الصلاة والسلام، شكرًا للأخ عبد الكريم الهاشمي شكرًا جزيلًا.
فضيلة الشيخ نعلق على مداخلة الأخوين الكريمين.
الشيخ: فيما يتعلق بكلام أخينا عبد العزيز فيما يتصل بأثر الزوجة الصالحة على طيب نفس الإنسان، بالتأكيد أن الزوجة الصالحة مما تطيب بها نفس الإنسان، وكذلك الزوج الصالح مما تطيب به نفس المرأة؛ وذلك أن طيب نفس الزوجين من أسباب تحقيق الغاية والهدف من الوجود من العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة؛ قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾الروم: 21 والسكن هو من طيب النفس، هو من ثمار طيب النفس ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ فلا شك أن حسن الصلة بين الزوجين، تقوى الله تعالى بين الزوجين، أن يتقي الرجل الله - عز وجل - في حقوق امرأته، وأن تتقي المرأة الله - عز وجل - في حقوق زوجها، هو من أسباب طيب العيش واستقامة الحال وحسن الصلة بين الرجل والمرأة.
فوصيتي للأزواج أن يحققوا ذلك بامتثال أمر الله - عز وجل -؛ فتطيب نفس الزوج في معاملة زوجته؛ في نفقته عليها، في قيامه بشئونها، في صبره على ما يكون من نقصها، كذلك المرأة تطيب نفسها بزوجها؛ فتحبه وتكرمه وتعرف حقه، وتطيع الله تعالى فيه؛ بحفظ نفسها وصيانة ما ائتُمنت عليه في بيته، «كلُّكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها».[صحيح البخاري:ح893]
أما ما يتعلق بالأولاد فلا شك أن صلاحهم مما تطيب به نفوس آبائهم، ولكن لا علاقة للحديث الذي ذكره الأخ بما نحن فيه؛ فيما يتصل بما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أولادكم من كسبكم»[سبق]، فهو بيان أن الولد من كسب الإنسان من جهة أنه إذا قام عليه بالرعاية والصيانة والتوجيه وحسن التصريف كان هذا مما يؤجر عليه؛ إذ إن كل صالحة تبنيها في ولدك وتدله عليها لك فيها أجر «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه»[صحيح البخاري:ح1358]، «ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من عمل به من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا»[صحيح مسلم:ح2674/16]، فأنت إذا علَّمت ولدك الخير، علمته الصدق، علمته الصلاة، علمته تلاوة القرآن، علَّمته ما فيه خير دينه ودنياه، كان لك من الأجر في ذلك ما تطيب به نفسك.
المقدم: جميل، طيب فضيلة الشيخ نكمل الجزئية الأخيرة المتعلقة بأثر طيب النفس حتى نختم هذا اللقاء بمشيئة الله تعالى.
الشيخ: نعم، طيب النفس أثره يكون في الدنيا ويكون في الآخرة، يكون في الدنيا بالحياة الهنيئة السالمة من العواقب المكروهة،ولهذا دليل في محكم التنزيل؛ قال الله - جل في علاه - في الصلة بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالمهر قال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾النساء: 4 فجعل الله تعالى جواز أكل الرجل من مال امرأته من مهرها منوطًا ومعلقًا بطيب النفس، علق ذلك تعليق الجزاء لشرطه، فدل هذا على أن من أسباب طيب المعاش، من أسباب طيب النفس، من أسباب طمأنينة الفؤاد هو أن يكون الإنسان معاملته صادرةً عن طيب نفس؛ فإن الله تعالى جعل الهنأ وهو طيب العيش، والمرأ وهو ألا يكون له عواقب مذمومة؛ ﴿هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ - منوطًا بأن يكون المال قد دخل عليه بطيب نفسٍ من باذله؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»[مسند أحمد:ح20695، وصححه الألباني في صحيح الجامع:ح7662]، ولذلك احرص في كل المكاسب التي تصل إليك أن تكون قد وصلتك بطيب نفس من صاحبها، برضى من باذلها، وألا تكون أخذت شيئًا بإكراه أو بمراوغة أو بما لا تطيب به نفس الباذل؛ فإن ذلك من أسباب خبث النفس ومن أسباب عدم البركة في المال ولا في الرزق، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المتابعين: «فإن صدقا وبيَّنَا بُورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما مُحَقَت بركةُ بيعِهِما».[صحيح البخاري:ح2079]
طيب النفس يحمل الإنسان على الرضا بما يجريه الله تعالى من أقضية وأقدار؛ فإن العبد إذا طابت نفسه رضي بقضاء الله تعالى وما يحكم به، وهذا الرضا هو ثمرة العلم بالله - عز وجل -، هذا الطيب ثمرة العلم بالله - عز وجل -، فبحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره انشرح صدره وطابت نفسه بما يجريه الله تعالى من الأقضية، وكلما كان العبد بحكمة الله وعدله ورحمته وحسن اختياره أعرف - كان لحكمه أرضى؛ فقضاء الرب سبحانه في عبده يدور بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة؛ ولذلك ينبغي أن يطيب الإنسان نفسًا؛ أي: يرضى ويطمئن وينشرح صدره بكل ما يجريه الله تعالى من الأقضية والأقدار؛ لأن أقضيته وأقداره - سبحانه وبحمده - لا تخرج عن العدل والمصلحة والحكمة والرحمة، كما دل عليه الدعاء المشهور «اللهم إني عبدك، ابن عبدِك، ابنُ أَمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك»[مسند أحمد:3712، وصحيح ابن حبان:ح972]، قوله - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء «ماضٍ فِيَّ حكمُك» أي: لا رادَّ لما قضيت وقدَّرت، «عدلٌ فيَّ قضاؤك» أي: أن كل ما أجرَيته من قضاء فأنت فيه عادل؛ فيتناول كل قضاء يقضيه على عبده من عقوبة أو أَلَمٍ وغير ذلك مما يجري من قضاء الله تعالى وقدره، فهو عدل في هذا القضاء، وهذا القضاء خير للمؤمن لو أدرك، حتى فيما يكره، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن».[مسند أحمد:ح23930، وصححه الألباني في الصحيحة:ح147]
من أسباب البركة في الأموال وفي كل ما يتعلق من شأن الدنيا أن يأخذها الإنسان بطيب نفس، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الدنيا حُلوة خَضِرَة»[صحيح مسلم:ح2742/99]، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصف الدنيا من حيث جذبها للناس وفتنتها لهم أن الدنيا حلوة خضرة، وفي حديث آخر قال: «إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بطيب نفس بُورك له فيه» فطيب النفس يؤثر على المكاسب، ومن أخذه بإشراف نفس ولهث وحرص لا يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع؛ ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «واليد العليا خير من اليد السفلى».[صحيح البخاري:ح1472]
وطيب النفس في أخذ المال وأخذ الدنيا أن يكون سالـمًا من الطمع، أن يكون سالـمًا من أخذ ما لا يحل، أن يكون سالـمًا من السؤال، بل يأخذه بطيب نفسٍ من صاحبه، ورضا من باذله؛ فيكون بذلك مما يحصل له به البركة والخير.
النفس - أيها الإخوة - تخرج من الدنيا على حالين؛ إما نفس طيبة: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾الفجر: 27- 30، وإما أن تخرج على نحو من الخبث والسوء ما يصدق عليه قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في وصف روح من حُجبت عنه الهداية والتوفيق؛ قال - صلى الله عليه وسلم - في وصف روح الكافر والمنافق إذا خرجت: «كأَنتَنِ ريحِ جِيفة وُجدت على وجه الأرض» في حين روح المؤمن؛ قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ﴾النحل: 32، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيان هذا الطيب: «فتأخذها الملائكة من يده، فيوجد لها كأَطْيَب نَفْحَةِ مِسْك وُجِدَت على وجه الأرض»[مسند أحمد:ح18534، وصححه الألباني في الصحيحة:ح1309]، فالطيب للنفس والخبث لها يبدو ويظهر عند أول مفارقة، يعني يظهر في الدنيا بمظاهر عديدة، لكن يتبين بما لا التباس فيه ولا اشتباه عندما تقبض روحه، عندما تقبضها الملائكة؛ فتكون الطيبة كأطيب نفحة مسك، وتكون الخبيثة كأنتن ريح جيفة وُجدت على وجه الأرض.
ولهذا ينبغي للمؤمن أن يطيِّب نفسه؛ فإنَّ طيب نفسه ينعكس على قلبه، وعلى عمله، وعلى معاملته، فكلما طابت نفس الإنسان زكى عمله وطاب، وكلما خبثت نفسه خاب عمله وخسر، وما أصدق قول الحق -جل في علاه-: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾الشمس: 7، أقسم الله بالنفس وتسويتها ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾الشمس: 7- 8 جواب القسم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾الشمس: 9-10 فأقسم الله - عز وجل - بالنفس وتسويتها على أن مَن رعى نفسه وأصلحها بالتزكية فإنه مفلح، وعلى أن من أهمل نفسه ودسَّاها خاب وخسر.
المقدم: شكر الله لك وكتب الله أجرك فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح؛ أستاذ الفقه بجامعة القصيم، وعضو لجنة الإفتاء بمنطقة القصيم، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ.
الشيخ: بارك الله فيكم، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم النفوس الطيبة، ويطيب أعمالنا وأقوالنا؛ فالجنة طيبة لا يدخلها إلا الطيبون، وأسأل الله تعالى لولاة أمرنا وبلادنا التوفيق والسداد والحفظ والنصر والتأييد ولسائر بلاد المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.