عُلَمَاء السوء جَلَسُوا على بَاب الْجنَّة يدعونَ إِلَيْهَا النَّاس بأقوالهم ويدعونهم إِلَى النَّار بأفعالهم فَكلما قَالَت أَقْوَالهم للنَّاس هلمّوا قَالَت أفعالهم لَا تسمعوا مِنْهُم فَلَو كَانَ مَا دعوا إِلَيْهِ حَقًا كَانُوا أول المستجيبين لَهُ فهم فِي الصُّورَة أدلاء وَفِي الْحَقِيقَة قطّاع الطّرق.
إِذا كَانَ الله وَحده حظك ومرادك فالفضل كُله تَابع لَك يزدلف إِلَيْك أَي أَنْوَاعه تبدأ بِهِ وَإِذا كَانَ حظك مَا تنَال مِنْهُ فالفضل مَوْقُوف عَنْك لِأَنَّهُ بِيَدِهِ تَابع لَهُ فعل من أَفعاله فَإِذا حصل لَك حصل لَك الْفضل بطرِيق الضمن والتبع وَإِذا كَانَ الْفضل مقصودك لم يحصل الله بطرِيق الضمن والتبع فَإِن كنت قد عَرفته وأنست بِهِ ثمَّ سَقَطت إِلَى طلب الْفضل حَرمك إِيَّاه عُقُوبَة لَك ففاتك الله وفاتك الْفضل .
فصل لما خرج رَسُول الله من حصر الْعَدو دخل فِي حصر النَّصْر فعبثت أَيدي سراياه بالنصر فِي الْأَطْرَاف فطار ذكره فِي الْآفَاق فَصَارَ الْخلق مَعَه ثَلَاثَة أَقسَام مُؤمن بِهِ ومسالم لَهُ وخائف مِنْهُ ألْقى بذر الصَّبْر فِي مزرعة فَاصْبِرْ كَمَا صَبر أولو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فَإِذا أَغْصَان النَّبَات تهتز بخزامى وَالْحُرُمَاتُ قصاص فَدخل مَكَّة دُخُولا مَا دخله أحد قبله وَلَا بعده حوله الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار لَا يبين مِنْهُم إِلَّا الحدق وَالصَّحَابَة على مَرَاتِبهمْ وَالْمَلَائِكَة فَوق رؤوسهم وَجِبْرِيل يتَرَدَّد بَينه وَبَين ربه وَقد أَبَاحَ لَهُ حرمه الَّذِي لم يحله لأحد سواهُ فَلَمَّا قايس بَين هَذَا الْيَوْم وَبَين يَوْم وَإِذْ يمكر الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يخرجوك فأخرجوه ثَانِي اثْنَيْنِ.
دخل وذقنه تمس قربوس سَرْجه خضوعا وذلا لمن ألبسهُ ثوب هَذَا الْعِزّ الَّذِي رفعت إِلَيْهِ فِيهِ الخليقة رؤوسها ومدت إِلَيْهِ الْمُلُوك أعناقها فَدخل مَكَّة مَالِكًا مؤيدا منصورا وَعلا كَعْب بِلَال فَوق الْكَعْبَة بعد أَن كَانَ يجر فِي الرمضاء على جمر الْفِتْنَة فنشر بزا طوى عَن الْقَوْم من يَوْم قَوْله أحد أحد وَرفع صَوته بِالْأَذَانِ فأجابته الْقَبَائِل من كل نَاحيَة فَأَقْبَلُوا يؤمُّونَ الصَّوْت فَدَخَلُوا فِي دين الله أَفْوَاجًا وَكَانُوا قبل ذَلِك يأْتونَ آحادا فَلَمَّا جلس الرَّسُول على مِنْبَر الْعِزّ وَمَا نزل عَنهُ قطّ مدت الْمُلُوك أعناقها بالخضوع إِلَيْهِ فَمنهمْ من سلم إِلَيْهِ مَفَاتِيح الْبِلَاد وَمِنْهُم من سَأَلَهُ الْمُوَادَعَة وَالصُّلْح وَمِنْهُم من أقرّ بالجزية وَالصغَار وَمِنْهُم من أَخذ فِي الْجمع وَالتَّأَهُّب للحرب وَلم يدر أَنه لم يزدْ على جمع الْغَنَائِم وسوق الْأُسَارَى إِلَيْهِ فَلَمَّا تَكَامل نَصره وبلّغ الرسَالَة وَأدّى الْأَمَانَة وجاءه منشور {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تقدم من ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} وَبعده توقيع {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا} جَاءَهُ رَسُول ربه يُخبرهُ بَين الْمقَام فِي الدُّنْيَا وَبَين لِقَائِه فَاخْتَارَ لِقَاء ربه شوقا إِلَيْهِ فتزينت الْجنان ليَوْم قدوم روحه الْكَرِيمَة لَا كزينة الْمَدِينَة يَوْم قدوم الْملك إِذا كَانَ عرش الرَّحْمَن فقد اهتز لمَوْت بغض أَتْبَاعه فَرحا واستبشارا بقدوم روحه فَكيف بِروح سيّد الْخَلَائق فيا منتسبا إِلَى غير هَذَا الجناب وَيَا وَاقِفًا بِغَيْر هَذَا الْبَاب ستعلم يَوْم الْحَشْر أَي سريرة تكون عَلَيْهَا يَوْمَ تبلى السرائر.
فصل يَا مغرورا بالأماني لعن إِبْلِيس وأهبط من منزل الْعِزّ بترك سَجْدَة وَاحِدَة أَمر بهَا وَأخرج آدم من الْجنَّة بلقمة تنَاولهَا وحجب الْقَاتِل عَنْهَا بعد أَن رَآهَا عيَانًا بملء كف من دم وَأمر بقتل الزَّانِي أشنع القتلات بإيلاج قدر الْأُنْمُلَة فِيمَا لَا يحل وَأمر بإيساع الظّهْر سياطا بِكَلِمَة قذف أَو بقطرة سكر وَأَبَان عضوا من أعضائك بِثَلَاثَة دَرَاهِم فَلَا تأمنه أَن يحبسك فِي النَّار بِمَعْصِيَة وَاحِدَة من مَعَاصيه {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} دخلت امْرَأَة النَّار فِي هرة وَإِن الرجل ليَتَكَلَّم بِالْكَلِمَةِ لَا يلقِي لَهَا بَالا يهوي بهَا فِي النَّار أبعد مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب وَإِن الرجل ليعْمَل بِطَاعَة الله سِتِّينَ سنة فَإِذا كَانَ عِنْد الْمَوْت جَار فِي الْوَصِيَّة فيختم لَهُ بِسوء عمله فَيدْخل النَّار الْعُمر بى خره وَالْعَمَل بخاتمته من أحدث قبل السَّلَام بَطل مَا مضى من صلَاته وَمن أفطر قبل غرُوب الشَّمْس ذهب صِيَامه ضائعا وَمن أَسَاءَ فِي آخر عمره لقى ربه فِي ذَلِك الْوَجْه لَو قدمت لقْمَة وَجدتهَا وَلَكِن يُؤْذِيك الشره كم جَاءَ الثَّوَاب يسْعَى إِلَيْك فَوقف بِالْبَابِ فَرده بواب سَوف وَلَعَلَّ وَعَسَى كَيفَ الْفَلاح بَين إِيمَان نَاقص وأمل زَائِد وَمرض لَا طَبِيب لَهُ وَلَا عَائِد وَهوى مستيقظ وعقل رَاقِد سَاهِيا فِي غمرته عَمها فِي سكرته سابحا فِي لجّة جَهله مستوحشا من ربه مستأنسا بخلقه ذكر النَّاس فاكهته وقوته وَذكر الله حَبسه وَمَوته لله مِنْهُ جُزْء يسير من ظَاهره وَقَلبه ويقينه لغيره.
لَا كَانَ من سواك فِيهِ بَقِيَّة ... يجد السَّبِيل بهَا إِلَيْهِ العذل
فصل كَانَ أول الْمَخْلُوقَات الْقَلَم ليكتب الْمَقَادِير قبل كَونهَا وَجعل آدم وَآخر الْمَخْلُوقَات وَفِي ذَلِك حكم أَحدهَا تمهيد الدَّار قبل السَّاكِن الثَّانِيَة أَنه الْغَايَة الَّتِي خلق لأَجلهَا مَا سواهُ من السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَالْبر وَالْبَحْر الثَّالِثَة أَن أحذق الصنّاع يخْتم عمله بأحسنه وغايته كَمَا يبدؤه بأساسه ومبادئه الرَّابِعَة أَن النُّفُوس متطلعة إِلَى النهايات والأواخر دَائِما وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى للسحرة وَلَا {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ ملقون} فَلَمَّا رأى النَّاس فعلهم تطلعوا إِلَى مَا يَأْتِي بعده الْخَامِسَة أَن الله سُبْحَانَهُ أخّر أفضل الْكتب والأنبياء والأمم إِلَى آخر الزَّمَان وَجعل الْآخِرَة خيرا من الأولى والنهايات أكمل من البدايات فكم بَين قَول الْملك للرسول اقْرَأ فَيَقُول مَا أَنا بقارىء وَبَين قَوْله تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينكُمْ} السَّادِسَة ان سُبْحَانَهُ جمع مَا فرقه فِي الْعَالم فِي آدم فَهُوَ الْعَالم الصَّغِير وَفِيه مَا فِي الْعَالم الْكَبِير السَّابِعَة ان خُلَاصَة الْوُجُود وثمرته فَنَاسَبَ أَن يكون خلقه بعد الموجودات الثَّامِنَة أَن من كرامته على خالقه أَنه هيأ لَهُ مَصَالِحه وحوائجه وآلات معيشته وَأَسْبَاب حَيَاته فَمَا رفع رَأسه إِلَّا وَذَلِكَ كُله حَاضر عتيد التَّاسِعَة أَنه سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَن يظْهر شرفه وفضله على سَائِر الْمَخْلُوقَات فَقَدمهَا عَلَيْهِ فِي الْخلق وَلِهَذَا قَالَت الْمَلَائِكَة ليخلق رَبنَا مَا شَاءَ فَلَنْ يخلق خلقا أكْرم عَلَيْهِ منا فَلَمَّا خلق آدم وَأمرهمْ بِالسُّجُود لَهُ ظهر فَضله وشرفه عَلَيْهِم بِالْعلمِ والمعرفة فَلَمَّا وَقع فِي الذَّنب ظنت الْمَلَائِكَة أَن ذَلِك الْفضل قد نسخ وَلم تطلع على عبودية التَّوْبَة الكامنة فَلَمَّا تَابَ إِلَى ربه وأنى بِتِلْكَ الْعُبُودِيَّة علمت الْمَلَائِكَة أَن لله فِي خلقه سرا لَا يُعلمهُ سواهُ الْعَاشِرَة أَنه سُبْحَانَهُ لما افْتتح خلق هَذَا الْعَالم بالقلم من أحسن الْمُنَاسبَة أَن يختمه بِخلق الْإِنْسَان فَإِن الْقَلَم آلَة الْعلم وَالْإِنْسَان هُوَ الْعَالم وَلِهَذَا أظهر سُبْحَانَهُ فضل آدم على الْمَلَائِكَة بِالْعلمِ الَّذِي خُصّ بِهِ دونهم.