قوله - رحمه الله -: «ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق» أي إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن الخلافة الراشدة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - صارت في أربعة من أصحابه الكرام؛ أولهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، وهو عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر التيمي القرشي، وهو أول من أسلم من الرجال، وشهد المشاهد كلها، وهو خاصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة وقبلها، وهو خير الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم ، ثبتت له الخلافة بإجماع المسلمين، وقد أجمعت الأمة على فضله وتقدمه، وأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أول الخلفاء الراشدين المهديين، توفي في جمادى الأولى عام ثلاثة عشر ودفن بجوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر، وقد اختلف العلماء في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - أكانت خلافته بالنص الجلي، أم بالنص الخفي، أم بالاختيار؟ وأقرب هذه الأقوال أن خلافة أبي بكر كانت بما يشبه النص، يشهد لذلك ما رواه البخاري من حديث القاسم بن محمد عن عائشة مرفوعا: «لقد هممت، أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يابى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويابى المؤمنون» ("صحيح البخاري" (5666) .
وكذلك ما أخرجه أحمد، والترمذي عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر» ("مسند أحمد" (5/ 382)، و"سنن الترمذي" (3662)، وقال:"حسن") .
قوله - رحمه الله -: «تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة» أي: إن أولية أبي بكر - رضي الله عنه - في الخلافة لأجل ما فضله الله به – تعالى -، وما له من السبق الذي تقدم به، والفضائل التي ميزه الله – تعالى - بها على سائر الأمة، فمن خصائص أبي بكر - رضي الله عنه - التي فضل بها على الصحابة أن صحبته ثبتت بالنص، قال تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} (سورة التوبة: 40.) ، وقد حكي الإجماع على أن المراد بصاحبه أبو بكر - رضي الله عنه -. وقد جاء في «الصحيحين» عن أبي بكر - رضي الله عنه -، قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما» ("صحيح البخاري" (3653)، ومسلم (2381) . ومن خصائصه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد له بأنه أعظم الناس بذلا له في نفسه وماله، ففي "الصحيحين" من حديث أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر» ("صحيح البخاري" (3654)، ومسلم (2382) .
وقد خصه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصحبة، فقال كما في البخاري من حديث أبي الدرداء: «إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟» ("صحيح البخاري" (3661) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل» ("صحيح البخاري" (467)، ومسلم (2383) واللفظ للبخاري.) ، وله فضائل كثيرة عديدة غير هذه - رضي الله عنه وأرضاه-.
قوله - رحمه الله -: «ثم لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -» أي: إن أهل السنة والجماعة يثبتون الخلافة بعد أبي بكر - رضي الله عنه - لعمر بن الخطاب، وهو عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي القرشي، أسلم في السنة السادسة من البعثة، وأعز الله به المسلمين، وشهد المشاهد كلها وكان عظيم المقام عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ثاني الخلفاء الراشدين، وأول من لقب بأمير المؤمنين، وهو مضرب المثل في العدل، وكانت خلافته بعهد من أبي بكر، وقبول من الصحابة أجمعين - رضي الله عنهم -. قتل وهو يصلي الفجر في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام ثلاثة وعشرين من الهجرة، ودفن بجوار رسول الله، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر، وله من الفضائل ما هو معروف مشهور، من ذلك ما في «الصحيحين» من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك» ("صحيح البخاري" (3294)، ومسلم (2396) . ومنها موافقاته للوحي، وقد أخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» وقال ابن عمر: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه، وقال فيه عمر، إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر (سنن الترمذي (4046) وقال: «حسن صحيح غريب») . ومنها ما في «الصحيحين» من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«قد كان يكون في الأمم محدثون، فإن يك في أمتي أحد فعمر بن الخطاب» ("صحيح البخاري" (3469) من حديث أبي هريرة، وأخرجه مسلم (2398)، من حديث عائشة.) . وله من الفضائل والخصائص ما لم يشركه فيه غيره من الصحابة، لكن فضائل أبي بكر أعظم وأجل.
قوله - رحمه الله-: «ثم لعثمان بن عفان - رضي الله عنه -» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن الأحق بالخلافة بعد عمر عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية القرشي من أوائل من أسلم من الصحابة، وشهد المشاهد كلها إلا بدرا؛ لأجل تمريض ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، زوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنتيه رقية وأم كلثوم، ولذلك لقب بذي النورين، وقد صارت إليه الخلافة بالشورى، واجتمع عليه الناس. قتل في بيته سنة خمس وثلاثين للهجرة، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة. ودفن بالبقيع- رضي الله عنه وأرضاه-، وهو ذو المناقب المشهورة والفضائل المأثورة. من ذلك أن عثمان - رضي الله عنه -، حيث حوصر أشرف عليهم، وقال: أنشدكم، ولا أنشد إلا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حفر رومة فله الجنة»؟ فحفرتها ألستم تعلمون أنه قال: «من جهز جيش العسرة فله الجنة»؟ فجهزتهم قال فصدقوه بما قال ("صحيح البخاري" (2778)) . وعند الترمذي عن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة فنثرها فى حجره. قال عبد الرحمن فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقلبها فى حجره ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم».
مرتين ("سنن الترمذي" (4066)، وقال الترمذي:" حسن غريب") ، وفي "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضطجعا فى بيتي كاشفا عن فخذيه أو ساقيه فاستاذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استاذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث ثم استاذن عثمان فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسوى ثيابه، فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال: «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة» (" صحيح مسلم" (2401) . وعثمان بن عفان - رضي الله عنه - في المنزلة والفضل في الأمة بعد عمر - رضي الله عنه -.
قوله - رحمه الله-: «ثم لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن الأحق بالخلافة بعد عثمان هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن عم رسول الله، أول الناس إسلاما من الصغار، ولد بمكة ونشأ في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - زوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته فاطمة، شهد المشاهد كلها وصارت إليه الخلافة بعد عثمان، وقد اختلف عليه - رضي الله عنه -، وقتل بالكوفة ليلة الجمعة سنة أربعين وكانت خلافته خمس سنين، ولا خلاف عند أهل السنة والجماعة في أن عليا رابع الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، ولعلي - رضي الله عنه - فضائل كثيرة ومناقب عديدة، منها ما جاء في "الصحيح" من حديث سهل بن سعد قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يفتح على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» فبات الناس ليلتهم أيهم يعطى فغدوا كلهم يرجوه فقال: «أين علي» فقيل: يشتكي عينيه فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه فقال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» (أخرجه البخاري (3009) ، وفي "الصحيحين" من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» وزاد في بعض ألفاظ الحديث: «إلا أنه ليس نبي بعدي» (أخرجه البخاري (3706)، (4416)، ومسلم (2404) .
وقد استقر قول أهل السنة والجماعة على أن ترتيب هؤلاء في الفضل كترتيبهم في الخلافة. وأجمعوا على تفضيل أبي بكر وعمر وتقديمهما، وأن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر- رضي الله عنهما -، وقد اشتهر بين الصحابة تفضيل عثمان على علي - رضي الله عنهما -، كما جاء عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما - قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان - رضي الله عنهم - (أخرجه البخاري (3655) ، وقد سئل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه - كما في «صحيح البخاري» عن محمد ابن الحنفية، قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: «أبو بكر» قلت: ثم من؟ قال: «ثم عمر» وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟! قال: «ما أنا إلا رجل من المسلمين» (أخرجه البخاري (3671) .، وعلى هذا استقر قول أهل السنة والجماعة في تقديم عثمان على علي - رضي الله عنهما -، وكان قد حصل خلاف بين السلف في تبديع من فضل عليا على عثمان، فمنهم من قال: يبدع، ومنهم من قال: لا يبدع، لكنهم متفقون على تبديع من قال بتقديم علي على عثمان في الخلافة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة «مسألة الخلافة» وذلك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله» («مجموع الفتاوى» (3/ 153) .
قوله - رحمه الله-: «وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - رضي الله عنهم - هم خلفاء رسول الله والأئمة المهديون الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (أخرجه أحمد (4/ 126)،و أبو داود (4607) , والترمذي (2676)، وابن ماجه (42، 43)، وقال الترمذي: «حسن صحيح»،وقال الحافظ في "التلخيص" (4/ 461):" قال البزار: هو أصح سندا من حديث حذيفة، قال ابن عبد البر: هو كما قال".) ، يشهد لهذا ما رواه أحمد بإسناد جيد عن سفينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الخلافة ثلاثون عاما، ثم يكون بعد ذلك الملك» ("مسند أحمد" (5/ 220) ، وإنما خصت هذه المدة باسم الخلافة؛ لأنها سائرة على طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه، يدل لذلك ما في المسند من حديث حذيفة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة» ("مسند أحمد" (4/ 273)، قال الهيثمى (5/ 189): "رجاله ثقات "). فوصفهم بأنهم الراشدون لأنهم سالمون من الغواية؛ فالرشد ضد الغي، قال الله – تعالى-: {قد تبين الرشد من الغي} (سورة البقرة: 256.) ، والرشد ثمرة الأخذ بالعلم النافع الراسخ، فإن الغي تعمد خلاف الحق. وهم أيضا مهديون قد هداهم الله للحق وسلمهم من الضلالة، فجمع لهم بهذين الوصفين سلامة العلم بالرشد واستقامة العمل بالهدى.