×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

قوله - رحمه الله -: «ونؤمن بالكرام الكاتبين» أي: إن أهل السنة والجماعة يقرون بوجود الملائكة الموصوفين بأنهم كرام كاتبون، وهذا من الإيمان بالملائكة، وهو أصل من أصول الإيمان، وهم أصناف كثيرة عظيمة، والكرام الكاتبون صنف من أصناف الملائكة عليهم السلام، ذكرهم الله في قوله: {وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين} +++ سورة الانفطار: 10 - 11 --- ، فالكرام جمع كريم، وهو من شرف مقامه وسمت منزلته، ووصفهم الله بذلك؛ لأن لهم عنده منزلة ومكانة وشرف مقام، ووصفهم بالكاتبين؛ لأنهم يكتبون كل ما يصدر عن بني آدم من قول أو فعل كما قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} +++ سورة ق: 18 --- ، وقال تعالى: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} +++ سورة الجاثية: 29 --- ، وقال تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} +++ سورة الزخرف: 80 --- ، وهذه الكتابة لا تغادر شيئا صغيرا ولا كبيرا، كما قص الله عن المجرمين: {ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} +++ سورة الكهف: 49 --- ، وقال: {وكل شيء فعلوه في الزبر * وكل صغير وكبير مستطر} +++ سورة القمر: 52 - 53 ---. قوله - رحمه الله -: «فإن الله قد جعلهم علينا حافظين» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن مهمة الكرام الكاتبين وعملهم هو حفظ أعمال بني آدم، وتقييد ما يكون منهم من قول أو عمل فإن كل ذلك مرصد مقيد، محفوظ، كما قال - سبحانه وتعالى -: {ويرسل عليكم حفظة} +++ سورة الأنعام: 61 --- ، وكما قال: {إن كل نفس لما عليها حافظ} +++ سورة الطارق: 4 --- ، وهؤلاء الكرام الكاتبون متعددون، كما دل عليه قول الله تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} +++ سورة الرعد:11 --- ، وكذلك جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة، قال النبي  صلى الله عليه وسلم : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر» +++ (أخرجه البخاري (555)، ومسلم (632) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.)--- . قوله - رحمه الله -: «ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين» أي: إن أهل السنة والجماعة يقرون بوجود ملك الموت، وهو الملك الذي أوكل الله إليه قبض أرواح الخلق، وقد عرفه المؤلف ببيان وظيفته، فقال: «الموكل بقبض أرواح العالمين» وهذا صنف من الملائكة الكرام ذكروا بأعمالهم، فنؤمن بأن الله أوكل قبض أرواح العالمين لبعض ملائكته، كما قال تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} +++ سورة السجدة: 11 --- ، وهذا يدل على أن الوفاة يتولاها ملك واحد، وهو ملك الموت، وقد جاء في آيات أخر إضافة التوفي إلى الملائكة لا إلى ملك واحد، كقوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} +++ النحل: 28--- ، وقال - سبحانه وتعالى -: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} +++ سورة الأنعام: 61 --- ، وقال الله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} +++ سورة: الأنفال: 50 --- ،وقال تعالى: {والنازعات غرقا * والناشطات نشطا} +++ سورة النازعات: 1 - 2.--- ، على القول بأن النازعات والناشطات هم الملائكة الذين ينزعون أرواح الخلق وينشطونها، وقد جمع أهل العلم بين هذه الآيات التي ظاهرها التعارض بأن ملك الموت الذي يقبض الأرواح ملك واحد، وله من الملائكة أعوان +++ (ينظر: «النكت والعيون» (2/ 123 - 124) --- ، ويشهد لذلك حديث البراء بن عازب: أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه» «ثم يجيء ملك الموت - عليه السلام -، حتى يجلس عند راسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فياخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى ياخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن» +++ (أخرجه أحمد (4/ 287)، وأخرجه أبو داود (4753)، وقال الهيثمي (3/ 50): «رجاله رجال الصحيح»، وقال ابن منده (2/ 962): «هذا إسناد متصل مشهور رواه جماعة عن البراء وهو ثابت على رسم الجماعة»، وأخرجه الحاكم (1/ 93 98)، وقال: «صحيح على شرط الشيخين»، وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 355)، وقال: «صحيح الإسناد».)--- ، فالحديث يدل على أن الذي يباشر نزع الروح ملك واحد، ثم تأخذها الملائكة النازلون من السماء. ولم يثبت في اسم ملك الموت حديث صحيح، وما جاء من أن اسمه عزرائيل ليس له أصل يستند إليه، لا من القرآن ولا من صحيح السنة، بل ذلك ورد في بعض أخبار بني إسرائيل، قال ابن كثير: «وأما ملك الموت فليس بمصرح باسمه في القرآن، ولا في الأحاديث الصحاح، وقد جاء تسميته في بعض الآثار بعزرائيل» +++ («البداية والنهاية» (1/ 49)--- ، ومعناه عبد الله. وقوله: «الموكل بقبض أرواح العالمين» أي: الذي أسند إليه أخذ أرواح الخلق. والأرواح: جمع روح، وبها تحصل حياة الأبدان، فالإنسان مكون من روح وجسد، وهي أمر خفي لا يعلمه إلا الله، كما قال تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} +++ سورة الإسراء: 85 --- ، وقد جاء الخبر عن الروح بأنها تصعد وتهبط وتقبض وتبسط، وعلى هذا أهل السنة والجماعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر سلف الأمة وأئمة السنة: أن الروح عين قائمة بنفسها تفارق البدن وتنعم وتعذب، ليست هي البدن ولا جزءا من أجزائه» +++ (ينظر: «مجموع الفتاوى» (17/ 341)--- . وقال في موضع آخر: «والصواب أنها ليست مركبة من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة، وليست من جنس الأجسام المتحيزات المشهودة المعهودة، وأما الإشارة إليها فإنه يشار إليها وتصعد وتنزل وتخرج من البدن، وتسل منه، كما جاءت بذلك النصوص، ودلت عليه الشواهد العقلية» +++ (ينظر: «مجموع الفتاوى» (9/ 302)--- . أما كيفية تعلق الروح بالبدن، فإننا لا نعلم ذلك كما لا نعلم حقيقتها، قال الله تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}، أي: إن الروح من مأمور ربي - جل وعلا -، فهي من الأمور التي قدرها الله - جل وعلا -، فلا سبيل إلى معرفتها إلا من قبل خالقها ومقدرها، ومن طلب فيها أكثر مما جاءت به النصوص، فإنه لا يقف على شيء. وقوله: «العالمين» جمع عالم، وهو كل ما سوى الله تعالى من الخلق، والنصوص من الكتاب والسنة إنما ذكرت قبض الملائكة لأرواح بني آدم، أما من عداهم من الخلق، فلا شك أنهم يلحقهم الموت أيضا، قال الله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} +++ سورة القصص:88 --- ، وقال تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} +++ سورة آل عمران:185 --- ، وقال تعالى: {كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} +++ (سورة الرحمن:26.)--- ، لكن ليس هناك دليل يعتمد عليه في بيان من يتولى قبض أرواحهم من القرآن أو السنة، والواجب في مثل هذا الوقوف عند ما جاءت به النصوص، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع. قوله - رحمه الله -: «ونؤمن بعذاب القبر ونعيمه لمن كان له أهلا» أي: إن أهل السنة والجماعة يقرون بأن في القبر عذابا ونعيما، فأهل القبور؛ إما معذبون، وإما منعمون، جاءت بذلك الأدلة من الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة. ومن الأدلة في القرآن قول الله تعالى: {وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} +++ (سورة غافر: 45 - 46.)--- . وقوله تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} +++ (سورة نوح: 25.)--- ، وهذا الإدخال لأرواح الكافرين إلى النار قبل يوم القيامة، هو ما يكون من عذاب القبر لأهل الكفر على أحد الأقوال في تفسير الآية، وكذلك قوله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} سورة الأنفال: 50. قال ابن عباس: «يقولون لهم ذلك بعد الموت» وكذلك قوله تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} +++ سورة السجدة: 21 --- ، وقد فسر العذاب الأدنى بأنه عذاب القبر كما قاله مجاهد وأبو عبيدة +++ (ينظر:: «النكت والعيون» (4/ 365)، و «زاد المسير» (5/ 117)--- . وأما الأدلة من السنة، على عذاب القبر فمستفيضة بلغت حد التواتر، منها ما في «الصحيحين» عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي  صلى الله عليه وسلم  مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله» ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة. فقالوا: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» +++ ("صحيح البخاري" (216)، ومسلم (292)--- . ومنها ما في «صحيح مسلم» عن زيد بن ثابت، قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في حائط لبني النجار، على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: «من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟» فقال رجل: أنا، قال: «فمتى مات هؤلاء؟» قال: ماتوا في الإشراك، فقال: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه» ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: «تعوذوا بالله من عذاب النار» قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال: «تعوذوا بالله من عذاب القبر» قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: «تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن» قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: «تعوذوا بالله من فتنة الدجال» قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال +++ ("صحيح مسلم" (2867)--- . ومنها ما في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليقل: أعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» +++ ("صحيح مسلم" (588)--- . ومنها ما في «صحيح مسلم» عن ابن عباس - رضي الله عنهما-، عن النبي  صلى الله عليه وسلم  أنه كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» +++ ("صحيح مسلم" (590)--- . ومنها ما في «الصحيحين» عن أبي أيوب الأنصاري قال: خرج النبي  صلى الله عليه وسلم  وقد وجبت الشمس، فقال: «يهود تعذب في قبورهم» +++ ("صحيح البخاري" (1375)، ومسلم (2869)--- . ومنها ما في «الصحيحين» عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلت علي عجوزان من عجز يهود المدينة، فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، قالت: فكذبتهما ولم أنعم أن أصدقهما، فخرجتا ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله، إن عجوزين من عجز يهود المدينة دخلتا علي، فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: «صدقتا، إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم» قالت: فما رأيته، بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر +++ ("صحيح البخاري" (6366)، ومسلم (586)--- . ومنها ما رواه أهل «السنن» و «المسانيد» مطولا، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -، قال: خرجنا مع رسول الله  صلى الله عليه وسلم  في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس النبي  صلى الله عليه وسلم ، وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض، فرفع رأسه، فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين، أو ثلاثا». ومما يدل على النعيم في القبر في الجملة ما في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن يك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» +++ ("صحيح البخاري" (1315)، ومسلم (944)--- . وقد جاء تفصيل ما يكون بعد الموت من عذاب ونعيم بعد قبض الروح وفي القبر في حديث البراء بن عازب؛ حيث قال  صلى الله عليه وسلم  في المؤمن بعد سؤال الملكين: «فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، فافرشوا له في الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة» قال: «فيأتيه من روحها، وطيبها» قال: «ويفسح له مد بصره». وقال في الكافر بعد سؤال الملكين: «فينادي مناد من السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار» قال: «ويأتيه من حرها، وسمومها» قال: «ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه» قال: «ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابا» قال: «فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير ترابا، ثم تعاد فيه الروح» +++ (أخرجه أحمد (4/ 287)، وأبو داود (4753)، واللفظ له.)--- . وقوله: «بعذاب القبر ونعيمه» هذا من باب إضافة الشيء إلى مكانه، أي: العذاب الذي محله القبر في الغالب، وإلا فإن ما جاء من حال أهل البرزخ، جار على كل ميت دفن أو لم يدفن، فالمقصود بعذاب القبر ونعيمه: ما يكون بعد الموت وقبل البعث من نعيم وعذاب، والقبر مدفن الأموات. وعذاب القبر ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: عذاب دائم لا انقطاع له، وهاذا عذاب أهل الكفر والشرك، كما قص الله تعالى عن آل فرعون، حيث قال - جل وعلا -: {وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة} +++ سورة غافر: 45—46 --- ، فهذا العرض على النار غدوا وعشيا، مستمر إلى قيام الساعة، فهذا دأب أهل الكفر، وحالهم في الحياة البرزخية، ثم يردون إلى النار، فيدخلونها يوم القيامة. وقد يستمر العذاب في القبر، لبعض أهل الآثام العظيمة، كما قد يستفاد من ظاهر حديث ابن عباس في الصحيحين في القبرين اللذين مر النبي  صلى الله عليه وسلم  عليهما، ثم قال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» وفي رواية لمسلم: «وكان الآخر لا يستنزه عن البول أو من البول» +++ (أخرجه البخاري (216)، (218)، ومسلم (292)--- ، فإن الظاهر أن أصحاب هذين القبرين مسلمان؛ لأنه إنما ذكر معصيتين، ولو كانا من أهل الشرك أو الكفر لكان ذكره أولى من ذكر ما هو أصغر منه من الذنوب والخطايا، وظاهر الحديث أن العذاب عليهما مستمر، لذلك كانت شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التخفيف. وأما القسم الثاني من العذاب فهو العذاب المنقطع الذي يكون لأهل السيئات والمعاصي، فيعذبون بقدر ما يكون معهم من السيئات، وقد يرتفع عنه أو يخفف بالدعاء والشفاعة، ويدل لذلك ما في «الصحيحين» عن ابن عباس أن النبي  صلى الله عليه وسلم  أخذ جريدة رطبة فوضعها على القبر، ثم لما سئل عن ذلك قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» فدل ذلك على أنه بعد يبسهما عائد إلى ما كان، ثم هاذا التعذيب الذي يكون في القبر يخفف به عن أهل الإيمان والتوحيد، فلا يؤاخذون بسيئاتهم يوم القيامة، ويكون ما نالهم من عذاب القبر مكفرا لسيئاتهم وحاطا لخطاياهم، فإن لم يطهروا به عذبوا بالنار بقدر ذنوبهم حتى يطهروا بها إن لم يدركهم عفو الله ومغفرته. قوله - رحمه الله -: «وبسؤال منكر ونكير للميت» أي: إن أهل السنة والجماعة يقرون بسؤال الملكين للأموات في قبورهم بعد دفنهم عن هذه المسائل: من ربك؟ و ما دينك؟ من نبيك؟ وهذا السؤال هو الفتنة التي تكون لأهل القبور، وهي فتنة عظيمة، ولذلك كان النبي  صلى الله عليه وسلم  يكثر من أن يقول: «وأعوذ بك من فتنة القبر» +++ (أخرجه البخاري (6376)--- . وقد جاء الخبر عن هذه الفتنة في السنة مستفيضا متواترا، كما في حديث البراء بن عازب الطويل، وفيه قول النبي  صلى الله عليه وسلم : «فتعاد روحه - أي الميت- في جسده، ويأتيه ملكان». وفي «الصحيحين» من حديث قتادة عن أنس، قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «العبد إذا وضع في قبره وتولي وذهب أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فأقعداه، يقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد  صلى الله عليه وسلم  ... » +++ ("صحيح البخاري" (1338)، ومسلم (2870)--- . وقوله: «منكر ونكير» اسمان للملكين اللذين يتوليان هذه الفتنة، أو وصفان، وإنما سميا بذلك أو وصفا به؛ لكون الميت لا يعرفهما ويجهلهما، ونظير ذلك وصف إبراهيم الخليل لأضيافه من الملائكة؛ حيث قال لهم لما جاءوه: {قال سلام قوم منكرون} +++ سورة الذاريات: 25 --- ، وكذلك لوط قال لهم لما جاءوه: {إنكم قوم منكرون} +++ سورة الحجر: 62 ---. وقيل: بل سميا بذلك ووصفا؛ لأنهما يأتيان على صورة منكرة فظيعة تدهش العقول، ويمكن أن يقال: إن كلا القولين صادق فيهما، فهما غير معروفين للميت، وصورتهما تدهشه لنكارتها. ومما اختلف فيه أهل العلم: تسمية الملكين بمنكر ونكير. فمن العلماء من قال: إنه لم يثبت حديث يعتمد عليه في تسمية هذين الملكين، فنؤمن بأنهما ملكان تجري على أيديهما الفتنة دون تعيين لاسميهما, ومنهم من قال: بل ثبت ذلك فيما رواه الترمذي وابن حبان بسند لا بأس به: أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «إذا قبر الميت -أو قال أحدكم- أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر، والآخر النكير» +++ (سنن الترمذي (1071)، وقال: حديث حسن غريب، وأورده المنذري في «الترغيب والترهيب» (5221) وقال: حديث حسن، رواته محتج بهم في الصحيح.)--- ، وبهذا قال أحمد بن حنبل وغيره +++ (ينظر:: «الروح» لابن القيم (ص57) «السنة» لابن أبي عاصم (1/ 600) «مجموع الفتاوى» (4/ 258)--- . وقال السيوطي: «ومن ذلك أنه لم يسم فيه الملكان بمنكر ونكير، وهو ثابت في حديث الترمذي، وقد أطبق أهل السنة على اعتباره، ولم يخالف فيه إلا المعتزلة، فقالوا: لا يجوز أن تسمى الملائكة بمنكر ونكير، ولم يلتفت أهل السنة إلى قولهم؛ اعتمادا على ما جاء في بعض طرق الحديث، إلى غير ذلك من الزيادات الواقعة في أحاديث السؤال على كثرتها؛ فإنها أكثر من سبعين حديثا، ما من حديث منها إلا وفيه زيادة ليست في غيره، فمن لم يقف إلا على حديث واحد من سبعين حديثا، حقه أن يسكت مع الساكتين، ولا يقدم على رد الأحاديث وإلغائها» +++ (ينظر:: «الروح» لابن القيم (ص57) «السنة» لابن أبي عاصم (1/ 600) «مجموع الفتاوى» (4/ 258)--- . وقد اختلف العلماء في فتنة القبر هذه، هل هي لكل الأمم؟ أو لهذه الأمة فقط؟ والظاهر أنها لكل الأمم، فكل أمة تسأل عن نبيها. كما اختلفوا أيضا في الأنبياء: هل تنالهم هذه الفتنة أو لا؟ والصحيح أنهم لا يسألون؛ لأنهم هم المسؤول عنهم. وكذلك اختلفوا في الشهداء، والظاهر أنهم لا يمتحنون، لما جاء من أن الشهيد يوقى فتنة القبر، فقد أخرج أحمد من حديث قيس الجذامي، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يعطى الشهيد ست خصال: ... ويؤمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر ...» +++(مسند أحمد (4/ 200)، وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معديكرب (1663) بلفظ «ويجار من عذاب القبر»، فإذا كان الشهيد يوقى فتنة القبر فالأنبياء من باب أولى. "الموطأ" (1/ 228)،ح (536)--- . واختلفوا كذلك فيمن لا عقل له، أو من لم يكلف كالصغار والمجانين: هل يسألون أو لا؟ على قولين لأهل العلم: أحدهما: أنه يمتحن، وهو قول أكثر أهل السنة، واستدلوا بما في الموطأ عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنه صلى على صغير لم يعمل خطيئة قط، فقال: «اللهم أعذه من عذاب القبر» +++ ("الموطأ" (1/ 228)،ح (536)--- ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"وهذا يدل على أنه يفتن" +++ (ينظر: مجموع الفتاوى (4/ 280)--- . الثاني: أنه لا يمتحن في قبره؛ لأن المحنة إنما تكون لمن يكلف في الدنيا. قوله - رحمه الله -: «في قبره» هذا بيان موضع الفتنة وزمانها، فموضعها القبور، وزمانها إذا دفن الميت، كما دلت عليه النصوص، لكن من لم يدفن أو من احترق أو من أكلته السباع أو من غرق في البحار، فإنه يجري له ما ذكر من سؤال منكر ونكير، لأنها ثابتة لكل ميت على كل حال. قوله - رحمه الله: «عن ربه ودينه ونبيه» هذا بيان موضوع الفتنة والسؤال، وأنه دائر على هذه الأمور الثلاثة، فكل ميت يسأل: من ربه؟ وما دينه؟ ومن نبيه؟ كما جاء ذلك في حديث أنس والبراء وغيرهما، أن الملكين يسألان الميت: من ربك؟ فيقول المؤمن: «ربي الله» فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: «ديني الإسلام» فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: «هو رسول الله  صلى الله عليه وسلم » الحديث، وقد تقدم. قوله - رحمه الله -: «على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم » أي: نقر بذلك كله على النحو الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة عن النبي  صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم ذكر بعضها، فالأحاديث في إثبات عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين جاءت متواترة عن النبي  صلى الله عليه وسلم . قوله - رحمه الله -: «وعن أصحابه رضي الله عنهم أجمعين» أي: نقر بذلك كما أقر به أصحاب النبي  صلى الله عليه وسلم ، فقد أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على إثبات عذاب القبر ونعيمه وفتنته وأقروا بذلك كله، فيكون هذا دليلا ثانيا لإثبات عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين، وهو إجماع الصحابة على ذلك. قوله - رحمه الله -: «والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران» هذا بيان لما ذكر من نعيم القبور وعذابها، وأن الناس في قبورهم، على حالين: إما أن يكونوا في روضة من رياض الجنة، وإما أن يكونوا في حفرة من حفر النار. ويدل لذلك أحاديث عديدة؛ منها ما رواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «إنما القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار» +++ ("سنن الترمذي" (2460) وقد ضعفه، فقال:" حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".)--- ، والروضة في اللغة: اسم لما كثر ماؤه وحسنت خضرته واتسع مكانه +++ (ينظر: «الصحاح» (3/ 1081)، و «لسان العرب» (7/ 162)--- ، والحفرة: اسم للمكان الذي قلع أسفله، وهو من الأرض ما أزيل ترابه. ووجه وصف القبر بأنه روضة أو حفرة؛ لأنه إذا مات الإنسان ودفن، فإن كان مؤمنا فإنه يرى مقعده من الجنة، فيكون قبره روضة لما فيه من السعة والخضرة؛ لأن الله يجري على ساكنه من نعيم الجنة روحها وسعتها وبهجتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم  في المؤمن بعد سؤال الملكين وتوفيقه للإجابة: «فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، فافرشوا له في الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة» قال: «فيأتيه من روحها، وطيبها» قال: «ويفسح له مد بصره» +++ (تقدم تخريجه.)--- . ويحتمل أن هذا الوصف باعتبار ما يجري على أرواح أصحاب تلك القبور؛ حيث إن أرواحهم تدخل الجنة كما جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود في تفسير قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} قال - رضي الله عنه -: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أرواحهم فى جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تاوي إلى تلك القناديل ... » +++ ("صحيح مسلم" (1887)--- ، وهذا في أرواح الشهداء. أما أرواح سائر المؤمنين فقد جاء فيها حديث كعب بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم يبعثه» رواه أحمد والنسائي ومالك +++ (" المسند" (3/ 460)، سنن النسائي (2073)، و"الموطأ" (568)، وابن ماجه (4271)، وأخرجه ابن كثير في التفسير (7/ 550): وقال: «هذا إسناد عظيم، ومتن قويم».)--- . وأما كون القبر حفرة من حفر النار، فذلك لأن الله تعالى يجري على أهل القبور المعذبين فيها من عذاب النار وحرها وسمومها ما يصدق به أنها حفرة من حفر النار، كما قال النبي  صلى الله عليه وسلم  في حديث البراء بن عازب الطويل في الكافر: «فينادي مناد من السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار» قال: «ويأتيه من حرها، وسمومها» قال: «ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه». كما يحتمل أن وصفها بالحفرة باعتبار ما يجري على أرواح الكفار، فإنها في النار، كما دل عليه قوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} +++ (سورة غافر: 46.)--- ، وقوله تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} +++ (سورة نوح: 25.)--- . وعلى هذا الاحتمال يقال: إنه لما كانت الحياة البرزخية جارية أحكامها على الأرواح، وهي إما في جنة، وإما في نار، ومبدأ ذلك القبور، كانت القبور إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، كما أن للأرواح تعلقا بالقبور، فصح وصفها بذلك. وليس معنى وصف القبر بأنه روضة من رياض الجنة، أو أنه حفرة من حفر النار، أن القبر قطعة أو جزء من الجنة أو من النار، فإنه قد جاء في السنة إطلاق روضة من رياض الجنة على ما هو سبب لدخول الجنة، كقوله  صلى الله عليه وسلم  فيما رواه البخاري ومسلم من حديثي عبد الله بن زيد المازني وأبي هريرة - رضي الله عنهما -: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» +++ ("صحيح البخاري" (1195)، (1196)، ومسلم (1390)، (1391)--- . فالأعمال الصالحة التي تحصل في الروضة من صلاة وذكر وقراءة للقرآن وتعلم للعلم وتعليمه وغير ذلك من أسباب دخول الجنة، وهو يكثر في مسجده الذي كانت حدوده زمن النبي  صلى الله عليه وسلم  من بيته شرقا إلى منبره غربا، ونظير ذلك أيضا ما في السنن من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قال: وما رياض الجنة؟ قال: «حلق الذكر» +++ (سنن الترمذي" (3510)، وقال: «حسن غريب».)--- 

المشاهدات:1527
قوله - رحمه الله -: «ونؤمن بالكرام الكاتبين» أي: إن أهل السنة والجماعة يقرون بوجود الملائكة الموصوفين بأنهم كرام كاتبون، وهذا من الإيمان بالملائكة، وهو أصل من أصول الإيمان، وهم أصناف كثيرة عظيمة، والكرام الكاتبون صنف من أصناف الملائكة عليهم السلام، ذكرهم الله في قوله: {وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين} سورة الانفطار: 10 - 11 ، فالكرام جمع كريم، وهو من شرف مقامه وسمت منزلته، ووصفهم الله بذلك؛ لأن لهم عنده منزلة ومكانة وشرف مقام، ووصفهم بالكاتبين؛ لأنهم يكتبون كل ما يصدر عن بني آدم من قول أو فعل كما قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} سورة ق: 18 ، وقال تعالى: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} سورة الجاثية: 29 ، وقال تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} سورة الزخرف: 80 ، وهذه الكتابة لا تغادر شيئا صغيرا ولا كبيرا، كما قص الله عن المجرمين: {ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} سورة الكهف: 49 ، وقال: {وكل شيء فعلوه في الزبر * وكل صغير وكبير مستطر} سورة القمر: 52 - 53 .
قوله - رحمه الله -: «فإن الله قد جعلهم علينا حافظين» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن مهمة الكرام الكاتبين وعملهم هو حفظ أعمال بني آدم، وتقييد ما يكون منهم من قول أو عمل فإن كل ذلك مرصد مقيد، محفوظ، كما قال - سبحانه وتعالى -: {ويرسل عليكم حفظة} سورة الأنعام: 61 ، وكما قال: {إن كل نفس لما عليها حافظ} سورة الطارق: 4 ، وهؤلاء الكرام الكاتبون متعددون، كما دل عليه قول الله تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} سورة الرعد:11 ، وكذلك جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة، قال النبي  صلى الله عليه وسلم : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر» (أخرجه البخاري (555)، ومسلم (632) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.) .
قوله - رحمه الله -: «ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين» أي: إن أهل السنة والجماعة يقرون بوجود ملك الموت، وهو الملك الذي أوكل الله إليه قبض أرواح الخلق، وقد عرفه المؤلف ببيان وظيفته، فقال: «الموكل بقبض أرواح العالمين» وهذا صنف من الملائكة الكرام ذكروا بأعمالهم، فنؤمن بأن الله أوكل قبض أرواح العالمين لبعض ملائكته، كما قال تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} سورة السجدة: 11 ، وهذا يدل على أن الوفاة يتولاها ملك واحد، وهو ملك الموت، وقد جاء في آيات أخر إضافة التوفي إلى الملائكة لا إلى ملك واحد، كقوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} النحل: 28 ، وقال - سبحانه وتعالى -: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} سورة الأنعام: 61 ، وقال الله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} سورة: الأنفال: 50 ،وقال تعالى: {والنازعات غرقا * والناشطات نشطا} سورة النازعات: 1 - 2. ، على القول بأن النازعات والناشطات هم الملائكة الذين ينزعون أرواح الخلق وينشطونها، وقد جمع أهل العلم بين هذه الآيات التي ظاهرها التعارض بأن ملك الموت الذي يقبض الأرواح ملك واحد، وله من الملائكة أعوان (ينظر: «النكت والعيون» (2/ 123 - 124)
، ويشهد لذلك حديث البراء بن عازب: أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه» «ثم يجيء ملك الموت - عليه السلام -، حتى يجلس عند
راسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فياخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى ياخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن» (أخرجه أحمد (4/ 287)، وأخرجه أبو داود (4753)، وقال الهيثمي (3/ 50): «رجاله رجال الصحيح»، وقال ابن منده (2/ 962): «هذا إسناد متصل مشهور رواه جماعة عن البراء وهو ثابت على رسم الجماعة»، وأخرجه الحاكم (1/ 93 98)، وقال: «صحيح على شرط الشيخين»، وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 355)، وقال: «صحيح الإسناد».) ، فالحديث يدل على أن الذي يباشر نزع الروح ملك واحد، ثم تأخذها الملائكة النازلون من السماء. ولم يثبت في اسم ملك الموت حديث صحيح، وما جاء من أن اسمه عزرائيل ليس له أصل يستند إليه، لا من القرآن ولا من صحيح السنة، بل ذلك ورد في بعض أخبار بني إسرائيل، قال ابن كثير: «وأما ملك الموت فليس بمصرح باسمه في القرآن، ولا في الأحاديث الصحاح، وقد جاء تسميته في بعض الآثار بعزرائيل» («البداية والنهاية» (1/ 49) ، ومعناه عبد الله.
وقوله: «الموكل بقبض أرواح العالمين» أي: الذي أسند إليه أخذ أرواح الخلق. والأرواح: جمع روح، وبها تحصل حياة الأبدان، فالإنسان مكون من روح وجسد، وهي أمر خفي لا يعلمه إلا الله، كما قال تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} سورة الإسراء: 85 ، وقد جاء الخبر عن الروح بأنها تصعد وتهبط وتقبض وتبسط، وعلى هذا أهل السنة والجماعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر سلف الأمة وأئمة السنة: أن الروح عين قائمة بنفسها تفارق البدن وتنعم وتعذب، ليست هي البدن ولا جزءا من أجزائه» (ينظر: «مجموع الفتاوى» (17/ 341) . وقال في موضع آخر: «والصواب أنها ليست مركبة من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة، وليست من جنس الأجسام المتحيزات المشهودة المعهودة، وأما الإشارة إليها فإنه يشار إليها وتصعد وتنزل وتخرج من البدن، وتسل منه، كما جاءت بذلك النصوص، ودلت عليه الشواهد العقلية» (ينظر: «مجموع الفتاوى» (9/ 302) . أما كيفية تعلق الروح بالبدن، فإننا لا نعلم ذلك كما لا نعلم حقيقتها، قال الله تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}، أي: إن الروح من مأمور ربي - جل وعلا -، فهي من الأمور التي قدرها الله - جل وعلا -، فلا سبيل إلى معرفتها إلا من قبل خالقها ومقدرها، ومن طلب فيها أكثر مما جاءت به النصوص، فإنه لا يقف على شيء.
وقوله: «العالمين» جمع عالم، وهو كل ما سوى الله تعالى من الخلق، والنصوص من الكتاب والسنة إنما ذكرت قبض الملائكة لأرواح بني آدم، أما من عداهم من الخلق، فلا شك أنهم يلحقهم الموت أيضا، قال الله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} سورة القصص:88 ، وقال تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} سورة آل عمران:185 ، وقال تعالى: {كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} (سورة الرحمن:26.) ، لكن ليس هناك دليل يعتمد عليه في بيان من يتولى قبض أرواحهم من القرآن أو السنة، والواجب في مثل هذا الوقوف عند ما جاءت به النصوص، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع.
قوله - رحمه الله -: «ونؤمن بعذاب القبر ونعيمه لمن كان له أهلا» أي: إن أهل السنة والجماعة يقرون بأن في القبر عذابا ونعيما، فأهل القبور؛ إما معذبون، وإما منعمون، جاءت بذلك الأدلة من الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة. ومن الأدلة في القرآن قول الله تعالى: {وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} (سورة غافر: 45 - 46.) . وقوله تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} (سورة نوح: 25.) ، وهذا الإدخال لأرواح الكافرين إلى النار قبل يوم القيامة، هو ما يكون من عذاب القبر لأهل الكفر على أحد الأقوال في تفسير الآية، وكذلك قوله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} سورة الأنفال: 50. قال ابن عباس: «يقولون لهم ذلك بعد الموت» وكذلك قوله تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} سورة السجدة: 21 ، وقد فسر العذاب الأدنى بأنه عذاب القبر كما قاله مجاهد وأبو عبيدة (ينظر:: «النكت والعيون» (4/ 365)، و «زاد المسير» (5/ 117) .
وأما الأدلة من السنة، على عذاب القبر فمستفيضة بلغت حد التواتر، منها ما في «الصحيحين» عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي  صلى الله عليه وسلم  مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله» ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة. فقالوا: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» ("صحيح البخاري" (216)، ومسلم (292) .
ومنها ما في «صحيح مسلم» عن زيد بن ثابت، قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في حائط لبني النجار، على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: «من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟» فقال رجل: أنا، قال: «فمتى مات هؤلاء؟» قال: ماتوا في الإشراك، فقال: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه» ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: «تعوذوا بالله من عذاب النار» قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال: «تعوذوا بالله من عذاب القبر» قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: «تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن» قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: «تعوذوا بالله من فتنة الدجال» قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال ("صحيح مسلم" (2867) . ومنها ما في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليقل: أعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» ("صحيح مسلم" (588) .
ومنها ما في «صحيح مسلم» عن ابن عباس - رضي الله عنهما-، عن النبي  صلى الله عليه وسلم  أنه كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» ("صحيح مسلم" (590) . ومنها ما في «الصحيحين» عن أبي أيوب الأنصاري قال: خرج النبي  صلى الله عليه وسلم  وقد وجبت الشمس، فقال: «يهود تعذب في قبورهم» ("صحيح البخاري" (1375)، ومسلم (2869) . ومنها ما في «الصحيحين» عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلت علي عجوزان من عجز يهود المدينة، فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، قالت: فكذبتهما ولم أنعم أن أصدقهما، فخرجتا ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله، إن عجوزين من عجز يهود المدينة دخلتا علي، فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: «صدقتا، إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم» قالت: فما رأيته، بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر ("صحيح البخاري" (6366)، ومسلم (586) . ومنها ما رواه أهل «السنن» و «المسانيد» مطولا، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -، قال: خرجنا مع رسول الله  صلى الله عليه وسلم  في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس النبي  صلى الله عليه وسلم ، وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض، فرفع رأسه، فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين، أو ثلاثا».
ومما يدل على النعيم في القبر في الجملة ما في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن يك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» ("صحيح البخاري" (1315)، ومسلم (944) . وقد جاء تفصيل ما يكون بعد الموت من عذاب ونعيم بعد قبض الروح وفي القبر في حديث البراء بن عازب؛ حيث قال  صلى الله عليه وسلم  في المؤمن بعد سؤال الملكين: «فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، فافرشوا له في الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة» قال: «فيأتيه من روحها، وطيبها» قال: «ويفسح له مد بصره». وقال في الكافر بعد سؤال الملكين: «فينادي مناد من السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار» قال: «ويأتيه من حرها، وسمومها» قال: «ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه» قال: «ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابا» قال: «فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير ترابا، ثم تعاد فيه الروح» (أخرجه أحمد (4/ 287)، وأبو داود (4753)، واللفظ له.) .
وقوله: «بعذاب القبر ونعيمه» هذا من باب إضافة الشيء إلى مكانه، أي: العذاب الذي محله القبر في الغالب، وإلا فإن ما جاء من حال أهل البرزخ، جار على كل ميت دفن أو لم يدفن، فالمقصود بعذاب القبر ونعيمه: ما يكون بعد الموت وقبل البعث من نعيم وعذاب، والقبر مدفن الأموات. وعذاب القبر ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: عذاب دائم لا انقطاع له، وهاذا عذاب أهل الكفر والشرك، كما قص الله تعالى عن آل فرعون، حيث قال - جل وعلا -: {وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة} سورة غافر: 45—46 ، فهذا العرض على النار غدوا وعشيا، مستمر إلى قيام الساعة، فهذا دأب أهل الكفر، وحالهم في الحياة البرزخية، ثم يردون إلى النار، فيدخلونها يوم القيامة. وقد يستمر العذاب في القبر، لبعض أهل الآثام العظيمة، كما قد يستفاد من ظاهر حديث ابن عباس في الصحيحين في القبرين اللذين مر النبي  صلى الله عليه وسلم  عليهما، ثم قال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» وفي رواية لمسلم: «وكان الآخر لا يستنزه عن البول أو من البول» (أخرجه البخاري (216)، (218)، ومسلم (292) ، فإن الظاهر أن أصحاب هذين القبرين مسلمان؛ لأنه إنما ذكر معصيتين، ولو كانا من أهل الشرك أو الكفر لكان ذكره أولى من ذكر ما هو أصغر منه من الذنوب والخطايا، وظاهر الحديث أن العذاب عليهما مستمر، لذلك كانت شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التخفيف.
وأما القسم الثاني من العذاب فهو العذاب المنقطع الذي يكون لأهل السيئات والمعاصي، فيعذبون بقدر ما يكون معهم من السيئات، وقد يرتفع عنه أو يخفف بالدعاء والشفاعة، ويدل لذلك ما في «الصحيحين» عن ابن عباس أن النبي  صلى الله عليه وسلم  أخذ جريدة رطبة فوضعها على القبر، ثم لما سئل عن ذلك قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» فدل ذلك على أنه بعد يبسهما عائد إلى ما كان، ثم هاذا التعذيب الذي يكون في القبر يخفف به عن أهل الإيمان والتوحيد، فلا يؤاخذون بسيئاتهم يوم القيامة، ويكون ما نالهم من عذاب القبر مكفرا لسيئاتهم وحاطا لخطاياهم، فإن لم يطهروا به عذبوا بالنار بقدر ذنوبهم حتى يطهروا بها إن لم يدركهم عفو الله ومغفرته.
قوله - رحمه الله -: «وبسؤال منكر ونكير للميت» أي: إن أهل السنة والجماعة يقرون بسؤال الملكين للأموات في قبورهم بعد دفنهم عن هذه المسائل: من ربك؟ و ما دينك؟ من نبيك؟ وهذا السؤال هو الفتنة التي تكون لأهل القبور، وهي فتنة عظيمة، ولذلك كان النبي  صلى الله عليه وسلم  يكثر من أن يقول: «وأعوذ بك من فتنة القبر» (أخرجه البخاري (6376) . وقد جاء الخبر عن هذه الفتنة في السنة مستفيضا متواترا، كما في حديث البراء بن عازب الطويل، وفيه قول النبي  صلى الله عليه وسلم : «فتعاد روحه - أي الميت- في جسده، ويأتيه ملكان». وفي «الصحيحين» من حديث قتادة عن أنس، قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «العبد إذا وضع في قبره وتولي وذهب أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فأقعداه، يقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد  صلى الله عليه وسلم  ... » ("صحيح البخاري" (1338)، ومسلم (2870) .
وقوله: «منكر ونكير» اسمان للملكين اللذين يتوليان هذه الفتنة، أو وصفان، وإنما سميا بذلك أو وصفا به؛ لكون الميت لا يعرفهما ويجهلهما، ونظير ذلك وصف إبراهيم الخليل لأضيافه من الملائكة؛ حيث قال لهم لما جاءوه: {قال سلام قوم منكرون} سورة الذاريات: 25 ، وكذلك لوط قال لهم لما جاءوه: {إنكم قوم منكرون} سورة الحجر: 62 . وقيل: بل سميا بذلك ووصفا؛ لأنهما يأتيان على صورة منكرة فظيعة تدهش العقول، ويمكن أن يقال: إن كلا القولين صادق فيهما، فهما غير معروفين للميت، وصورتهما تدهشه لنكارتها. ومما اختلف فيه أهل العلم: تسمية الملكين بمنكر ونكير. فمن العلماء من قال: إنه لم يثبت حديث يعتمد عليه في تسمية هذين الملكين، فنؤمن بأنهما ملكان تجري على أيديهما الفتنة دون تعيين لاسميهما, ومنهم من قال: بل ثبت ذلك فيما رواه الترمذي وابن حبان بسند لا بأس به: أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «إذا قبر الميت -أو قال أحدكم- أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر، والآخر النكير» (سنن الترمذي (1071)، وقال: حديث حسن غريب، وأورده المنذري في «الترغيب والترهيب» (5221) وقال: حديث حسن، رواته محتج بهم في الصحيح.) ، وبهذا قال أحمد بن حنبل وغيره (ينظر:: «الروح» لابن القيم (ص57) «السنة» لابن أبي عاصم (1/ 600) «مجموع الفتاوى» (4/ 258) .
وقال السيوطي: «ومن ذلك أنه لم يسم فيه الملكان بمنكر ونكير، وهو ثابت في حديث الترمذي، وقد أطبق أهل السنة على اعتباره، ولم يخالف فيه إلا المعتزلة، فقالوا: لا يجوز أن تسمى الملائكة بمنكر ونكير، ولم يلتفت أهل السنة إلى قولهم؛ اعتمادا على ما جاء في بعض طرق الحديث، إلى غير ذلك من الزيادات الواقعة في أحاديث السؤال على كثرتها؛ فإنها أكثر من سبعين حديثا، ما من حديث منها إلا وفيه زيادة ليست في غيره، فمن لم يقف إلا على حديث واحد من سبعين حديثا، حقه أن يسكت مع الساكتين، ولا يقدم على رد الأحاديث وإلغائها» (ينظر:: «الروح» لابن القيم (ص57) «السنة» لابن أبي عاصم (1/ 600) «مجموع الفتاوى» (4/ 258) . وقد اختلف العلماء في فتنة القبر هذه، هل هي لكل الأمم؟ أو لهذه الأمة فقط؟ والظاهر أنها لكل الأمم، فكل أمة تسأل عن نبيها. كما اختلفوا أيضا في الأنبياء: هل تنالهم هذه الفتنة أو لا؟ والصحيح أنهم لا يسألون؛ لأنهم هم المسؤول عنهم. وكذلك اختلفوا في الشهداء، والظاهر أنهم لا يمتحنون، لما جاء من أن الشهيد يوقى فتنة القبر، فقد أخرج أحمد من حديث قيس الجذامي، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يعطى الشهيد ست خصال: ... ويؤمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر ...» (مسند أحمد (4/ 200)، وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معديكرب (1663) بلفظ «ويجار من عذاب القبر»، فإذا كان الشهيد يوقى فتنة القبر فالأنبياء من باب أولى. "الموطأ" (1/ 228)،ح (536) . واختلفوا كذلك فيمن لا عقل له، أو من لم يكلف كالصغار والمجانين: هل يسألون أو لا؟ على قولين لأهل العلم: أحدهما: أنه يمتحن، وهو قول أكثر أهل السنة، واستدلوا بما في الموطأ عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنه صلى على صغير لم يعمل خطيئة قط، فقال: «اللهم أعذه من عذاب القبر» ("الموطأ" (1/ 228)،ح (536) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"وهذا يدل على أنه يفتن" (ينظر: مجموع الفتاوى (4/ 280) . الثاني: أنه لا يمتحن في قبره؛ لأن المحنة إنما تكون لمن يكلف في الدنيا.
قوله - رحمه الله -: «في قبره» هذا بيان موضع الفتنة وزمانها، فموضعها القبور، وزمانها إذا دفن الميت، كما دلت عليه النصوص، لكن من لم يدفن أو من احترق أو من أكلته السباع أو من غرق في البحار، فإنه يجري له ما ذكر من سؤال منكر ونكير، لأنها ثابتة لكل ميت على كل حال.
قوله - رحمه الله: «عن ربه ودينه ونبيه» هذا بيان موضوع الفتنة والسؤال، وأنه دائر على
هذه الأمور الثلاثة، فكل ميت يسأل: من ربه؟ وما دينه؟ ومن نبيه؟ كما جاء ذلك في حديث أنس والبراء وغيرهما، أن الملكين يسألان الميت: من ربك؟ فيقول المؤمن: «ربي الله» فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: «ديني الإسلام» فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: «هو رسول الله  صلى الله عليه وسلم » الحديث، وقد تقدم.
قوله - رحمه الله -: «على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم » أي: نقر بذلك كله على النحو الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة عن النبي  صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم ذكر بعضها، فالأحاديث في إثبات عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين جاءت متواترة عن النبي  صلى الله عليه وسلم .
قوله - رحمه الله -: «وعن أصحابه رضي الله عنهم أجمعين» أي: نقر بذلك كما أقر به أصحاب النبي  صلى الله عليه وسلم ، فقد أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على إثبات عذاب القبر ونعيمه وفتنته وأقروا بذلك كله، فيكون هذا دليلا ثانيا لإثبات عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين، وهو إجماع الصحابة على ذلك.
قوله - رحمه الله -: «والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران» هذا بيان لما ذكر من نعيم القبور وعذابها، وأن الناس في قبورهم، على حالين: إما أن يكونوا في روضة من رياض الجنة، وإما أن يكونوا في حفرة من حفر النار. ويدل لذلك أحاديث عديدة؛ منها ما رواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «إنما القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار» ("سنن الترمذي" (2460) وقد ضعفه، فقال:" حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".) ، والروضة في اللغة: اسم لما كثر ماؤه وحسنت خضرته واتسع مكانه (ينظر: «الصحاح» (3/ 1081)، و «لسان العرب» (7/ 162) ، والحفرة: اسم للمكان الذي قلع أسفله، وهو من الأرض ما أزيل ترابه. ووجه وصف القبر بأنه روضة أو حفرة؛ لأنه إذا مات الإنسان ودفن، فإن كان مؤمنا فإنه يرى مقعده من الجنة، فيكون قبره روضة لما فيه من السعة والخضرة؛ لأن الله يجري على ساكنه من نعيم الجنة روحها وسعتها وبهجتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم  في المؤمن بعد سؤال الملكين وتوفيقه للإجابة: «فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، فافرشوا له في الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة» قال: «فيأتيه من روحها، وطيبها» قال: «ويفسح له مد بصره» (تقدم تخريجه.) .
ويحتمل أن هذا الوصف باعتبار ما يجري على أرواح أصحاب تلك القبور؛ حيث إن أرواحهم تدخل الجنة كما جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود في تفسير قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} قال - رضي الله عنه -: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أرواحهم فى جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تاوي إلى تلك القناديل ... » ("صحيح مسلم" (1887) ، وهذا في أرواح الشهداء. أما أرواح سائر المؤمنين فقد جاء فيها حديث كعب بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم يبعثه» رواه أحمد والنسائي ومالك (" المسند" (3/ 460)، سنن النسائي (2073)، و"الموطأ" (568)، وابن ماجه (4271)، وأخرجه ابن كثير في التفسير (7/ 550): وقال: «هذا إسناد عظيم، ومتن قويم».) . وأما كون القبر حفرة من حفر النار، فذلك لأن الله تعالى يجري على أهل القبور المعذبين فيها من عذاب النار وحرها وسمومها ما يصدق به أنها حفرة من حفر النار، كما قال النبي  صلى الله عليه وسلم  في حديث البراء بن عازب الطويل في الكافر: «فينادي مناد من السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار» قال: «ويأتيه من حرها، وسمومها» قال: «ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه».
كما يحتمل أن وصفها بالحفرة باعتبار ما يجري على أرواح الكفار، فإنها في النار، كما دل عليه قوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} (سورة غافر: 46.) ، وقوله تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} (سورة نوح: 25.) . وعلى هذا الاحتمال يقال: إنه لما كانت الحياة البرزخية جارية أحكامها على الأرواح، وهي إما في جنة، وإما في نار، ومبدأ ذلك القبور، كانت القبور إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، كما أن للأرواح تعلقا بالقبور، فصح وصفها بذلك. وليس معنى وصف القبر بأنه روضة من رياض الجنة، أو أنه حفرة من حفر النار، أن القبر قطعة أو جزء من الجنة أو من النار، فإنه قد جاء في السنة إطلاق روضة من رياض الجنة على ما هو سبب لدخول الجنة، كقوله  صلى الله عليه وسلم  فيما رواه البخاري ومسلم من حديثي عبد الله بن زيد المازني وأبي هريرة - رضي الله عنهما -: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» ("صحيح البخاري" (1195)، (1196)، ومسلم (1390)، (1391) . فالأعمال الصالحة التي تحصل في الروضة من صلاة وذكر وقراءة للقرآن وتعلم للعلم وتعليمه وغير ذلك من أسباب دخول الجنة، وهو يكثر في مسجده الذي كانت حدوده زمن النبي  صلى الله عليه وسلم  من بيته شرقا إلى منبره غربا، ونظير ذلك أيضا ما في السنن من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قال: وما رياض الجنة؟ قال: «حلق الذكر» (سنن الترمذي" (3510)، وقال: «حسن غريب».) 

الاكثر مشاهدة

3. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات91416 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات87217 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف