قوله - رحمه الله -: «ونتبع السنة والجماعة» أي: إن أهل السنة والجماعة يقتفون السنة ويلزمون الجماعة في الاعتقاد والقول والعمل، وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من الهدى ودين الحق. والسنة هي: الطريقة لغة، والمقصود بها هنا طريق النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، فليس لأهل السنة متبوع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شؤونهم اعتقادا وقولا وعملا، فهم لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم- متبعون، ولها معظمون، وبها مستمسكون، وعنها يصدرون، وإليها يتحاكمون، وبها على الأشياء يحكمون، فهي الحاكم على أقوالهم وأعمالهم وآرائهم وكل شأنهم لا يردونها ولا يعارضونها ولا يتأولونها تأويلات باطلة، بل يقبلون ما صح في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويرجعون إليه، فهم أعظم الناس التزاما بها، ولذلك وصفوا بأهل السنة ولا يوصف به غيرهم.
وقوله: «والجماعة» أي: ونقتفي الجماعة، وهي مأخوذة من الاجتماع، وضدها الفرقة، ثم صارت اسما للمجتمعين الذين لم يفرقوا دينهم، بل اجتمعوا على الحق، وأجمعوا عليه سواء كثر عددهم أم قل، كما قال ابن مسعود لعمرو بن ميمون: «إنما الجماعة ما وافق طاعة الله، وإن كنت وحدك» ("اعتقاد أهل السنة" للالكائي (1/ 109). ، وقال نعيم بن حماد: «إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك فأنت الجماعة حينئذ» (ينظر: "إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن" (1/ 265) ، فليست الكثرة علامة على الحق، قال الله - جل وعلا -: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} سورة الأنعام: 116 ، وقال - جل وعلا -: {إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين} سورة الشعراء: 8، وقال - سبحانه وتعالى -: {وقليل من عبادي الشكور} سورة سبأ: 13 . والجماعة المعتبرة ما كان عليه أهل الصدر الأول والسلف الصالح أهل القرون المفضلة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود.) ، فهؤلاء هم الجماعة، فمن اجتمع إليهم وانحاز لهم فهو على الحق، ولو كان وحده، لا يضره التوحد في متابعة السلف الصالح، هذا هو أحد معاني الجماعة. ومن معاني الجماعة اعتبار الإجماع دليلا، فالإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه أهل السنة والجماعة في العلم والدين.
قوله - رحمه الله -: «ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة» أي: إن أهل السنة والجماعة يتركون الشذوذ والخلاف والفرقة. والشذوذ هو الانفراد والخروج عن الحق وأهله. وأما الخلاف فهو مخالفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الاعتقاد أو القول أو العمل. وأما الفرقة، فهي مفارقة الجماعة والخروج عن سبيلهم. وكل هذه الألفاظ متقاربة المعاني ومتلازمة، وقد جاء النهي عن الاختلاف والتفرق في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} سورة الروم: 31 - 32 . وقوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} سورة الأنعام: 159 . وكل هذا ناشئ عن التفريط في اتباع السنة والجماعة، فكل من فرط في اتباع السنة وفارق الجماعة وشذ عنها، فإنه يقع في إحدى هذه الخلال الثلاث المذمومة، إما شذوذ وإما خلاف وإما فرقة.
قوله- رحمه الله -: «ونحب أهل العدل والأمانة» أي: إن أهل السنة والجماعة، يتقربون إلى الله تعالى بمحبة الموصوفين بالعدل والأمانة، وأهل العدل هم أصحاب القسط، المقسطون في أنفسهم وأهليهم وما ولوا، والمراد بهم أهل الإسلام عموما فهم أعدل الناس، وقيل: بل هم الولاة والأئمة العادلون المقسطون، وعلى هذا فيكون هذا المعنى مندرجا فيما سبق. وقيل: هم من يقابل أهل البغي الممتنعين عن طاعة الأئمة وولاة الأمر، في غير معصية الله بمغالبة ولو تأويلا، وهذا كالذي قبله لا ينافي القول الأول بل يندرج فيه، ولذلك فإن الأقرب أن مراد المؤلف - رحمه الله - بأصحاب العدل والأمانة من اتصف بهذين الوصفين من أمة الإسلام. أما الأمانة فمأخوذة من الأمن ضد الخيانة، أي: الذين لا تخاف منهم خيانة، فتسكن القلوب لهم، وتصدقهم لقيامهم بالحقوق وأدائهم لها، سواء حقوق الله تعالى أو حقوق الخلق.
قوله - رحمه الله -: «ونبغض أهل الجور والخيانة» أي: إن أهل السنة والجماعة يتقربون إلى الله تعالى بكراهية أصحاب الجور، وهو الظلم، وأصحاب الخيانة، وهي التفريط في الأمانة وإضاعتها، من الولاة وغيرهم، ومن هنا يتبين أنه لا تلازم بين وجوب طاعة ولاة الأمر وبين كراهيتهم، فطاعتهم وعدم منازعتهم لا تستلزم محبتهم إن كانوا أهل ظلم وخيانة، فالطاعة لجميع ولاة أمور المسلمين في المعروف، وأما حبهم وبغضهم فهم كغيرهم من أهل الإسلام، فيحبون بقدر ما معهم من العدل والأمانة وسائر خصال الإيمان، ويبغضون بقدر ما معهم من الجور والخيانة. ويشهد لذلك ما في «صحيح مسلم» من حديث عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم». قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة» ("صحيح مسلم " (1855)، وقد تقدم.)
قوله - رحمه الله -: «ونقول: الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه» أي: إن أهل السنة والجماعة لا يتكلمون إلا بعلم، ويردون العلم إلى عالمه، فيما لم يتبين لهم علمه، فيقفون عند ما قد بلغهم، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع، ولا يتكلفون علم ما التبس عليهم علمه، ولا يدخلون في ذلك بآرائهم وتأويلاتهم، كما أمر الله تعالى بذلك في قوله: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} سورة الإسراء: 36. وهذه سنة أعلم الخلق بالله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد رد النبي صلى الله عليه وسلم علم ما لم يتبين له إلى عالمه كما في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يقول: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين، فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» ("صحيح البخاري" (1384)، ومسلم (2658) . وكذلك أصحاب النبي - رضي الله عنهم - كانوا يردون علم ما لم يتبين لهم علمه إلى عالمه، وشواهد ذلك كثيرة، منها ما في «الصحيحين» من حديث زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم ... » ("صحيح البخاري" (846)، ومسلم (71) . هاذا هو سبيلهم، وهذه هي طريقتهم، وهي طريق النجاة والسلامة.
قوله - رحمه الله -: «ونرى المسح على الخفين» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون مشروعية المسح على الخفين في الوضوء، كما جاءت به السنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه المسألة ليست من مسائل الاعتقاد، إنما هي من مسائل العمل، وإنما ذكرها المصنف وغيره ضمن مسائل العقائد؛ لأن إنكار مشروعية المسح على الخفين صار شعارا للرافضة الاثني عشرية، وسمة مذهبهم، معرضين بذلك عن الأدلة المستفيضة المتواترة، وقد جاء بعضها عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
قوله - رحمه الله -: «في السفر والحضر كما جاء في الأثر» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون مشروعية المسح على الخفين حال السفر والحضر؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي "صحيح مسلم" أن شريح بن هانئ سأل عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم ("صحيح مسلم" (276) . وقد جاءت الإشارة إليه في القرآن، في القراءة المتواترة، في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} سورة المائدة: 6، على قراءة الجر في قوله {وأرجلكم}، عطفا على الرأس المأمور بمسحه، وذلك فيما إذا كانت القدم مستورة بالخف ونحوه، كما جاء بيانه في السنة المطهرة.
وقوله: «كما جاء في الأثر» المراد بالأثر هنا معناه العام، فيشمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره، كما جرى عليه اصطلاح أهل الحديث، ومنه تسمية الطحاوي كتابه «مشكل الآثار» (ينظر:: "المنهل الروي" لابن جماعة ص (40) .