قوله - رحمه الله -: «ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أنه لا يجوز الخروج على أحد من ولاة أمور المسلمين وأئمتهم، وهم كل من ولاه الله أمر المسلمين من أهل الإسلام، فولاة الأمر هم الأئمة، فالعطف هنا لأجل التغاير اللفظي فقط؛ فالعطف يكون بين شيئين متغايرين إما معنى، وهو الأصل، وإما لفظا، كما هو الحال هنا.
وقوله: «وإن جاروا» أي: إن أهل السنة والجماعة يرون لزوم الجماعة وعدم الخروج على الأئمة وولاة الأمر، وإن ظلموا وتجاوزوا، وقد دل على ذلك أحاديث كثيرة، منها ما رواه الشيخان من حديث عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية» ("صحيح البخاري" (7054)، ومسلم (1849) . ومنها ما رواه مسلم من حديث عوف بن مالك، قال: قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ -أي: الولاة إذا جاروا- فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدا من طاعة» ("صحيح مسلم" (1855) ، وعلى هذا جرى أهل السنة والجماعة من لزوم الجماعة ونبذ الفرقة، ولهذا سموا أهل السنة بالجماعة، ولا تكاد تخلو كتب عقائد أهل السنة والجماعة من ذكر هاذا الأصل، وذلك أن فتنة الخروج على ولاة الأمر من أول ما حصل من البدع في هذه الأمة، وهي من شر البدع؛ لأنه ترتب عليها فرقة وتنازع وفساد عريض في الدماء والأموال والأعراض.
وقوله: «وإن جاروا» أي: إن أهل السنة والجماعة لا يرون الخروج على الولاة الظلمة، سواء أكان ظلمهم بتأويل أم بغير تأويل؛ بل يرون وجوب الصبر عليهم إلا أن يأتوا كفرا بواحا صريحا غير ملتبس قامت البينات عليه، فإنه يجب الخروج عليهم حينئذ إن أمكن، حسب الطاقة والمصلحة، فقد جاء في «الصحيحين» من حديث عبادة بن الصامت، قال: «بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان» ("صحيح البخاري" (7056)، ومسلم (1709) .
قوله - رحمه الله -: «ولا ندعو عليهم» أي: إن من طريق أهل السنة والجماعة، كف ألسنتهم عن الدعاء على ولاة الأمر علانية وسرا، وذلك أن إظهار الدعاء عليهم يفضي إلى مفاسد كثيرة. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عوف بن مالك: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» (أخرجه مسلم (1855) ، فهذا ليس تشريعا للعن الرعية الولاة، ولا لعن الولاة الرعية، بل هو بيان لعلامة خيار الأئمة وشرارهم، فهو إخبار عن الواقع، ومثل هذا في السنة كثير يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عما سيكون قدرا، وليس في ذلك حجة على صحته شرعا.
قوله - رحمه الله -: «ولا ننزع يدا من طاعتهم» أي: إن أهل السنة والجماعة، لا ينقضون بيعة ولاة الأمور، وما عاهدوهم عليه، بترك طاعتهم، والخروج عن أمرهم؛ بل يرون الطاعة واجبة في غير معصية الله، كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (سورة النساء: 59.) . والأحاديث في الأمر بطاعة ولاة الأمر كثيرة؛ منها ما في «الصحيحين» من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: «بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله» ("صحيح البخاري" (7056)، ومسلم (1709) . وفي «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عليك السمع والطاعة فى عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك» ("صحيح مسلم" (1836) . وفي «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» ("صحيح البخاري" (7144)، ومسلم (1839) .
قوله - رحمه الله -: «ونرى طاعتهم من طاعة الله - عز وجل - فريضة، ما لم يامروا بمعصية» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن طاعة ولاة الأمر من طاعة الله تعالى، وهي الواجبة، فإن الله تعالى أمر بها المؤمنين، وعليها بايع الصحابة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم ، بل قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة: «ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني» ("صحيح البخاري" (2957)، ومسلم (1835) . وهذا متفق عليه فيما إذا أمروا بطاعة الله تعالى، أما إذا أمروا بمعصية فلا سمع ولا طاعة، كما دل عليه حديث ابن عمر في «الصحيحين» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». وفيما رواه الشيخان من حديث علي - رضي الله عنه - مرفوعا: «إنما الطاعة في المعروف» ("صحيح البخاري" (7145)، ومسلم (1840) . ومما تجب الطاعة فيه كل ما أمروا به مما يصلح به معاش الناس ودنياهم كالتنظيمات الإدارية والترتيبات الحياتية، التي لا معصية فيها.
وقوله: «ما لم يامروا بمعصية» أي: إن طاعة ولاة الأمر التي أمر الله بها ورسوله، ثابتة لهم، إلا أن يأمروا بمعصية، فلا تجب لهم في معصية الله طاعة، كأن يأمروا مثلا بالزنا أو شرب الخمر، ونحو ذلك. أما إذا أمر بما في حله خلاف، ويراه البعض معصية كالمسائل الخلافية الاجتهادية، فمن كان يوافقه في الاجتهاد فإنه يلزمه طاعته، وأما من يرى خلاف اجتهاده، فأقل ما يلزمه أن لا يظهر مخالفته، ولا يجب عليه طاعته في خاصته إلا أن يختل بذلك نظام عام أو يفضي إلى فساد، فتجب طاعته حينئذ درءا للمفسدة، ويكون ذلك نظير ما ذكره الفقهاء، في حكم القاضي في مسائل الخلاف، حيث قالوا: حكم الحاكم يرفع الخلاف، بل هو أولى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «ودلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر -إمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب والفيء، وعامل الصدقة- يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية. ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض» ("صحيح مسلم" (55) .
قوله - رحمه الله -: «وندعو لهم بالصلاح والمعافاة» أي: إن أهل السنة والجماعة، يرون الدعاء لولاة الأمر بالصلاح في دينهم ودنياهم والمعافاة من الشر والفساد والظلم والانحراف، وعلى هذا جرى الأئمة، فقد نقل عن الفضيل بن عياض أنه قال: «لو أن لي دعوة مستجابة ما صيرتها إلا للإمام» فقيل له: وكيف ذلك يا أبا علي؟ فقال: «متى صيرتها في نفسي لم تجزني، ومتى صيرتها في الإمام فصلاح الإمام صلاح العباد والبلاد» فقبل ابن المبارك جبهته، وقال: يا معلم الخير، من يحسن هذا غيرك؟! (ص (114) . وقد نقل الخلال في «السنة» عن الإمام أحمد أنه قال: «وإني لأدعو له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار والتأييد، وأرى له ذلك واجبا علي». ونقل المروذي عن الإمام أحمد أنه لما ذكر عنده المتوكل قال: إني لأدعو له بالصلاح والعافية، وقال: لئن حدث به حدث لتنظرن ما يحل بالإسلام. وقد نص الأئمة على أن منهج أهل السنة والجماعة الدعاء لولاة الأمر والأئمة، حكى ذلك أبو عثمان الصابوني في "عقيدة السلف أصحاب الحديث" (ص (92، 93) ، والبربهاري في «شرح السنة» ("حلية الأولياء" (8/ 91) وغيرهما. والدعاء للأئمة وولاة الأمر، من النصيحة لهم التي جعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - من الدين، كما في حديث تميم الداري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدين النصيحة» قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» ("جامع المسائل لابن تيمية" تحقيق: عزير شمس (5/ 274) .