قوله - رحمه الله -: «ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون صحة الصلاة فرضها ونفلها وراء كل إمام مسلم سواء أكان من أهل الإحسان أم من أهل الإساءة والعصيان، وهذا أصل دلت عليه أحاديث عديدة؛ منها ما جاء في «الصحيح» من حديث عبد الله بن الصامت عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟» قال: قلت: فما تامرني؟ قال: «صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة» ("صحيح مسلم" (648) ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصلاة خلف هؤلاء الولاة، مع كونهم يخرجون الصلاة عن وقتها، وهذا من كبائر الذنوب باتفاق الأئمة، وهو فجور وفسق، فيصير هؤلاء الأئمة فساقا، ومع ذلك أمر - صلى الله عليه وسلم - بفعلها خلفهم نافلة ("مجموع الفتاوى" (22/ 61) . وقد استدل لذلك بأحاديث ضعيفة غير قائمة الإسناد، منها ما رواه البيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعا: «صلوا خلف كل بر وفاجر» ("السنن الكبرى (4/ 19) ح (6623)، وأخرجه الدارقطني (2/ 57) وقال: «مكحول لم يسمع من أبي هريرة ومن دونه ثقات»، وسئل عنه أحمد، فقال: «ما سمعنا بهذا» ينظر: «تنقيح التحقيق» للذهبي (1/ 257) ، وكذلك ما رواه الدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعا: «صلوا خلف من قال لا إله إلا الله» ("سنن الدارقطني" (4/ 481 - 482) من رواية ابن عمر من طرق عنه، وقال: ليس فيها شيء يثبت.)
، وعلى هذا جرى عمل الصحابة - رضي الله عنهم -، فقد روى البخاري أن عبيد الله بن عدي بن خيار دخل على عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وهو محصور، فقال: إنك إمام عامة ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج، فقال: «الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم» ("صحيح البخاري" (695) . وقد صلى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان من أئمة الجور، وجاء مثل ذلك عن أنس بن مالك، وصلى ابن مسعود خلف الوليد بن عقبة، وعلى هذا عمل الأئمة والعلماء بعدهم. والإمام في الصلاة لا يخلو من ثلاث أحوال: الحال الأولى: أن يكون مستقيما في دينه، فالصلاة خلفه صحيحة بالإجماع، وترك الصلاة خلفه من البدع. والحال الثانية: أن يكون مستور الحال، فالصلاة خلفه صحيحة. والحال الثالثة: أن يكون فاسقا، إما بقول أو عمل أو اعتقاد كالمبتدع، فقد اختلفوا في صحة الصلاة خلفه إذا أمكن أن يصلي خلف عدل، والصحيح صحة الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل الإسلام، ممن يرى الجمعة والجماعة، سواء أكان فسقه في الاعتقاد أم العمل، وإن كانوا قد اتفقوا على كراهية الصلاة خلف الفاسق ("مجموع الفتاوى" (23/ 358) . وقد أجمع العلماء على الصلاة خلف كل بر وفاجر فيما إذا لم يكن إمام غيره، كالجمعة التي لا تقام إلا في مكان واحد، وكذلك العيدان، وكالصلاة خلف إمام الموسم في الحج إلا أن يكون ممن لا يرى الجمعة والجماعة كالرافضة ونحوهم ("مجموع الفتاوى" (23/ 355) .
قوله - رحمه الله -: «وعلى من مات منهم» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون مشروعية الصلاة على كل من مات من أهل القبلة، ولو كان فاسقا باعتقاد أو عمل ما دام من أهل الإسلام، لكن لأهل العلم والفضل أن يتركوا الصلاة على أهل الفجور وأهل البدعة ردعا لبدعتهم، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم حيث ترك الصلاة على من قتل نفسه، ففي «صحيح مسلم» من حديث جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه ("صحيح مسلم" (978) ، ومن هذا ما نقل عن الإمام أحمد أنه قال: «لا أشهد جنازة جهمي ولا رافضي، ومن أحب أن يشهدهم فليشهد» (ينظر:: "الكافي في فقه الإمام أحمد" (1/ 362) .
قوله - رحمه الله -: «ولا ننزل أحدا منهم جنة ولا نارا» أي: إن أهل السنة والجماعة لا يحكمون لأحد بعينه من أهل القبلة بأنه في الجنة أو بأنه في النار إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم تفصيله عند قول المؤلف عن أهل القبلة: «ولا نشهد لهم بالجنة» فمن دلت النصوص على أنه من أهل الجنة فهو من أهل الجنة، ونشهد له بذلك، وكذلك من دلت النصوص على أنه من أهل النار فهو من أهل النار، والحكم بالجنة أو النار للأعيان من مسائل الأحكام المتعلقة بالإيمان.
وقوله: «ولا ننزل أحدا منهم جنة ولا نارا» هذا محل اتفاق في المسلمين أهل القبلة، وأما الشهادة لمعين من المشركين والكفار ممن مات على الكفر ففيها قولان لأهل العلم، والأقرب أنه لا يشهد لمعين من أهل القبلة ولا غيرهم بجنة ولا نار، إلا بدليل.
قوله - رحمه الله -: «لا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق ما لم يظهر منهم شيء من ذلك» أي: إن أهل السنة والجماعة لا يثبتون هذه الأسماء لأحد من المسلمين أهل القبلة إلا أن يقوم فيه موجبها، والشهادة بالكفر أو الشرك أو النفاق على معين من أهل القبلة من مسائل الأسماء المتعلقة بالإيمان، وقاعدة أهل السنة والجماعة في ذلك أن من ثبت إسلامه بيقين لم يرفع عنه إلا بيقين بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة» ("مجموع الفتاوى" (12/ 466) . فلا نصف أحدا من أهل القبلة بكفر أو شرك أو نفاق إلا بحجة وبرهان. وقد ذكر المؤلف ثلاثة أوصاف؛ الأول: الكفر وهو ضد الإيمان، سواء أكان بتكذيب أم شك أم كبر أم إعراض وإباء. والثاني: الشرك وهو تسوية غير الله بالله تعالى في ربوبيته أو إلهيته أو أسمائه وصفاته، فإذا ذكر أحدهما منفردا شمل الآخر، أما إذا اجتمعا فيكون الشرك أخص من الكفر، فكل شرك كفر، وليس كل كفر شركا، ومن مواطن اجتماعهما في القرآن، قوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تاتيهم البينة} (سورة البينة: 1.) . والثالث: النفاق وهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر.
وقوله: «ما لم يظهر منهم شيء من ذلك» أي: إن عدم الشهادة على أحد بكفر أو شرك أو نفاق، مستصحب في كل أحد، وفي كل حين، إلا أن يصدر منه ما هو شرك أو كفر أو نفاق في قول أو عمل إذا توافرت الشروط وانتفت الموانع، ومراد المؤلف بالنفاق النفاق العملي، فيما يظهر، فالنفاق له شعب وخصال إذا وجدت دلت عليه كما في «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» ("صحيح البخاري" (34)، ومسلم (58) ، أما النفاق الاعتقادي، وهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، فإن من أظهره يحكم عليه بالكفر لا بالنفاق لإظهاره ما ينافي الإسلام.
وقوله: «ما لم يظهر منهم شيء من ذلك» ظاهره الحكم بالكفر أو الشرك أو النفاق بمجرد ظهور شيء من ذلك منه، وهذا مستقيم لا إشكال فيه فيما إذا كان وصفا للفعل. أما الفاعل فإنه لا يوصف بذلك إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة. ولا يشكل على هذا ما جاء من وصف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لحاطب بن أبي بلتعة بالنفاق في قصة إرساله خطابا إلى قريش يعلمهم فيه بمقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن عمر - رضي الله عنه - "إنما قال ذلك لما كان عنده من القوة في الدين وبغض المنافقين، وظن أن فعله هذا يوجب قتله لكنه لم يجزم بذلك، فلذا استأذن في قتله وأطلق عليه النفاق؛ لكونه أبطن خلاف ما أظهر وعذره النبي - صلى الله عليه وسلم -؛لأنه كان متأولا إذ لا ضرر فيما فعله" ("إرشاد الساري" (5/ 142)) . وقال القرطبي في التعليق على وصف عمر حاطبا بالنفاق:" إنما أطلق عليه اسم النفاق؛ لأن ما صدر منه يشبه فعل المنافقين؛ لأنه والى كفار قريش، وباطنهم، وهم بأن يطلعهم على ما عزم عليه رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم -، من غزوهم، مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان دعا، فقال: «اللهم أخف أخبارنا عن قريش» لكن حاطبا لم ينافق بقلبه، ولا ارتد عن دينه، وإنما تأول فيما فعل من ذلك: أن اطلاع قريش على بعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويخوف قريشا، ويحكى أنه كان في الكتاب تفخيم أمر جيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنهم لا طاقة لهم به، يخوفهم بذلك ليخرجوا عن مكة، ويفروا منها" ("المفهم لما أشكل من صحيح مسلم" (6/ 440). ومثل هذا ما جاء من وصف معاذ بن جبل - رضي الله عنه - للرجل الذي ترك الصلاة خلفه لأجل طول قراءته بالنفاق (أخرج الحديث البخاري (705)، ومسلم (465) . فيقال: إن معاذا - رضي الله عنه - إنما " قال ذلك متأولا ظانا أن التارك للجماعة منافق" (إرشاد الساري" (9/ 66) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، ولهذا يجب التحري والحذر» ("مجموع الفتاوى" (12/ 487) .
قوله - رحمه الله -: «ونذر سرائرهم إلى الله تعالى» أي: نترك ما أخفت قلوب الناس وخبأته أفئدتهم إلى الله تعالى وحده فهو – سبحانه - المطلع على السرائر والضمائر العالم بها، قال تعالى {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} سورة آل عمران:119 ، وقد قال الله تعالى في آيات عديدة: {إن الله عليم بذات الصدور} سورة آل عمران:119 ، فالسرائر والمكنونات لا سبيل إلى معرفتها ولا إدراك ما فيها، بل السرائر خفايا مستورة، لا يعلمها إلا الله - جل وعلا -، كما قال - سبحانه وتعالى -: {يعلم السر وأخفى} سورة طه: 7، وقال: {وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون} سورة النمل:74 ، وقال تعالى: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} سورة النحل:19 . فوجب على أهل الإيمان ترك سرائر الناس وضمائرهم إلى الله، والإعراض عن التنقيب في نياتهم ومقاصدهم، وعلى هذا جرى عمل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد قال: «إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس، ولا أشق بطونهم» رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري ("صحيح البخاري" (4351)، ومسلم (1064) . وفي قصة أسامة حين عاتبه النبي صلى الله عليه وسلم في قتل من قال: لا إله إلا الله، قال صلى الله عليه وسلم : «أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟» قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح، قال: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!» رواه مسلم ("صحيح مسلم" (96)
، وفي «الصحيحين» في قصة توبة كعب بن مالك وصاحبيه أن المخلفين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم : «فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله» ("صحيح البخاري" (4418)، ومسلم (2769) . فالأحكام في الدنيا جارية على الظواهر، وعلى ما صدر عن الإنسان من قول أو عمل، وأما السرائر فإلى الله، لا يبنى عليها شيء من أحكام الدنيا، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن الوحي قد انقطع، وإنما ناخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نامنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة» ("صحيح البخاري" (2641)، ومسلم (58)
، فأحكام الدنيا تجري على الظواهر وما تبين من قول أو عمل، أما السرائر والبواطن فإن علمها عند الله فلا ينبني عليها شيء من أحكام الدنيا، وهذا يفسر ما جاء عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - من وصف أناس بالكفر أو النفاق بناء على ما ظهر من أعمالهم أو أقوالهم التي تقتضي تلك الأحكام كما وصف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - بالنفاق لما كتب لمشركي مكة يعلمهم بمقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن حاطبا فعل ما هو من خصال المنافقين من موالاة أعداء الله ظاهرا؛ لكن لما استبان النبي - صلى الله عليه وسلم - منه اعتذر بما أسقط عنه هذا الوصف، والشاهد أن الأحكام في الدنيا تجري على الظواهر لا على السرائر.
قوله-رحمه الله-: «ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أنه لا يجوز قتال أحد من أهل الإسلام، فالإسلام عصمة لدم أهله، فلا يحل دم مسلم إلا بحق، قال الله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} سورة النساء:93. ، وقال تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق} الآية، سورة الفرقان: 68 ، وقال تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلا تشركوا به شيئا} إلى أن قال: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} سورة الأنعام: 151. وجاء في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» ("صحيح البخاري" (48)، ومسلم (64) . وفيهما من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» ("صحيح البخاري" (67)، ومسلم (1679) . وفي"صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» ("صحيح مسلم" (2564) .
وفي "الصحيحين" من حديث ابن عمر، وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» (أخرجه البخاري (25)، ومسلم (21)، (22) من حديث ابن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهم -.) . فكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فهو معصوم الدم لا يجوز التعرض له بقتل ولا قتال، إلا إذا فعل ما يوجب القتل أو القتال، كقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، فقد أمر تعالى بذلك، فقال: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} سورة الحجرات:9 ، وكذلك قتال من امتنع عن فريضة معلومة من الدين بالضرورة، فقد قاتل الصحابة - رضي الله عنهم - مانعي الزكاة، مع كونهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله».
فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه. فقال عمر بن الخطاب فوالله ما هو إلا أن رأيت الله - عز وجل - قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق (أخرجه البخاري (1399)، ومسلم (20) ،وكذلك قتل من قتل نفسا بغير حق أو زنا وهو محصن أو مرق من الدين وفارق الجماعة، كما جاء في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك الجماعة» (أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676) . ومن ذلك أيضا قتل المرتد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس مرفوعا «من بدل دينه فاقتلوه» ("صحيح البخاري" (3017) ، وقد أجمع على ذلك الصحابة صلى الله عليه وسلم ، قال ابن قدامة -رحمه الله -: "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم، ولم ينكر ذلك فكان إجماعا" (ينظر: "المغني" (9/ 16) .