قوله - رحمه الله -: «والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان» هذا بيان حقيقة الإيمان التي بها يثبت وصفه ويقوم بنيانه، فمسمى الإيمان يتحقق بأمرين: الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، وسيأتي مزيد تفصيل لذلك وبيان. والإيمان هو التصديق عند أكثر أهل اللغة، وقيل: بل هو الإقرار، وهو مأخوذ من الأمانة.
وقوله: «والإيمان: هو الإقرار باللسان» أي: إن حقيقة الإيمان إثبات ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والشهادة بذلك، وهذا يشمل النطق بالشهادتين اللتين هما أول واجب على المكلف، وكذلك الإقرار ببقية أصول الإيمان قولا.
وقوله: «والتصديق بالجنان» أي: إن من حقيقة الإيمان قبول ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإثباته بالقلب، فالجنان مشتق من "جن"، وهي كلمة دائرة على معنى الخفاء والستر (ينظر:: "تهذيب اللغة" (10/ 267)، (10/ 268) ، واقتصر المؤلف في بيان حقيقة الإيمان على هذين الأمرين، ولم يذكر العمل في مسمى الإيمان جريا على ما اشتهر عن أبي حنيفة وأصحابه؛ حيث أخرجوا العمل عن مسماه. ومعلوم أن الإيمان اسم شرعي، والأسماء الشرعية قد جاء الكتاب والسنة ببيانها بيانا واضحا، فلا يتلقى تعريف هذه الأسماء ولا الوقوف على حقيقتها إلا من الكتاب والسنة، وقد دل الكتاب والسنة على أن الإيمان عقد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح، وعلى هذا جرى علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم، فالنقول متواترة عن السلف أن الإيمان قول وعمل، حتى صار هذا القول عند أهل السنة من شعائر السنة، وقد تقدم نقل الإجماع على ذلك. ومن أظهر أدلة ذلك قول الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} سورة البينة: 5. قال الشافعي - رحمه الله -: «ليس عليهم أحج من هذه الآية» (ينظر:: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 48) . فالدين عقد بالإخلاص لله، وقول وعمل بالصلاة والزكاة، وقد استدل الأوزاعي - رحمه الله - على أن الدين إيمان وعمل بقول الله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} سورة التوبة: 11.
قال ابن رجب - رحمه الله -: «والدين هو الإسلام كما صرح به في مواضع أخر، وإذا أطلق الإسلام دخل فيه الإيمان، وبالعكس» ("فتح الباري" (1/ 81) . ومن أظهر الأدلة في السنة على أن الإيمان عقد وقول وعمل ما في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» ("صحيح البخاري" (9)، ومسلم (35) ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شعب الإيمان شاملة لقول القلب، وهو تصديقه وإقراره ومعرفته، ولقول اللسان وهو نطقه وتكلمه، وذلك في أفضل شعب الإيمان، وهو قول: «لا إله إلا الله»، وكذلك جعلها شاملة لعمل الجوارح، وذلك في أدنى شعب الإيمان، وهو إماطة الأذى عن الطريق، وكذلك جعلها شاملة لعمل القلب، وذلك في الحياء، فهو عمل قلبي. ومن طالع نصوص الكتاب والسنة أيقن إيقانا جازما أن العمل من الإيمان، وأنه لا يخرج عن مسمى الإيمان. ويدل لذلك ما في القرآن والسنة من نفي الإيمان عمن لم يأت بالعمل ("مجموع الفتاوى" (7/ 142) ، وذلك في مواضع كثيرة جدا كما سيأتي. وهذا ما أجمع عليه علماء الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، قال ابن عبد البر - رحمه الله -: «أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية ... إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه، فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانا» ـ ("التمهيد" (9/ 238)، (9/ 243)
، وقال الشافعي - رحمه الله -: «وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركنا أن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة عن الآخر» (ينظر:: "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (5/ 887) ، وقال الإمام البخاري - رحمه الله -: «لقيت أكثر من ألف رجل من علماء الأمصار، فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص» ("شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (5/ 886)، ينطر:"الفتح الباري" (1/ 47) ، وقال أبو إسحاق الإسفراييني: «اتفقوا على أن ما يستحق به المكلف اسم الإيمان في الشريعة أوصاف كثيرة وعقائد مختلفة، وإن اختلفوا فيها على تفصيل ذكروه» ("مجموع الفتاوى" (7/ 144) . وإخراج العمل عن مسمى الإيمان هو قول مرجئة الفقهاء، وهم جماعة من فقهاء الكوفة خالفوا الجماعة في حقيقة الإيمان، وكان أول من تكلم في هذا ذر بن عبدالله الهمداني، وكان من العباد، فقد سئل الإمام أحمد عن أول من تكلم في الإيمان؟ فقال: «يقولون أول من تكلم فيه ذر» (ينظر: "مسائل الإمام أحمد" لإسحاق بن إبراهيم (2/ 162)، و"السنة" لعبد الله بن أحمد ص (83) ، وقد مات قبل المئة (وهو تابعي من عباد أهل الكوفة وكان يقص، يروي عن سعيد بن جبير، وروى عنه الأعمش ينظر: «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (3/ 453)، و «الضعفاء» للبخاري ص (46).) . وقيل: إن أول من أحدث هذا حماد بن أبي سليمان (هو حماد بن أبي سليمان، الكوفي الفقيه، من صغار التابعين، مات سنة (120هـ) أو قبلها، روى عن أنس بن مالك، وتفقه بإبراهيم النخعي، قال عنه الذهبي: «ثقة إمام مجتهد»، وقال ابن حجر: «فقيه صدوق له أوهام ورمي بالإرجاء». ينظر: «سير أعلام النبلاء» (5/ 231)، «تقريب التهذيب» ترجمة (1500) شيخ أبي حنيفة، وتبعه عليه أهل الكوفة، وكان من تلاميذ النخعي، وقد أغلظ عليه القول؛ حيث نقل عنه أنه قال: «لا تدعوا هذا الملعون يدخل علي - يعني حماد بن أبي سليمان- حين تكلم في الإرجاء» (ينظر:: "الضعفاء الكبير" للعقيلي ص (303) . والذي يظهر أن حمادا هو الذي أشهر القول وأظهره، ولذلك نسب إليه، وإن كان ذر بن عبد الله الهمداني قد سبقه في التكلم بذلك، وكلاهما من أهل الكوفة، وقد أخذ هذا القول الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - عن شيخه حماد بن أبي سليمان، ولذلك انتشر هذا القول في فقهاء الحنفية. وقد اختلف أهل العلم، في حقيقة خلاف مرجئة الفقهاء لسائر أهل السنة أهو خلاف حقيقي أم إنه خلاف لفظي لا يترتب عليه أثر؟ على قولين: الأول: إنه خلاف لفظي؛ لأن الجميع يتفق على وجوب العمل، وأن مرتكب الكبيرة مذموم، وأنه متوعد بالعقوبة.
والثاني: إنه خلاف حقيقي يترتب عليه آثار، ومن ذلك أن مرجئة الفقهاء لما أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، قالوا: إن الإيمان شيء واحد، لا يزيد ولا ينقص خلافا لقول أهل السنة والجماعة كما سيأتي، ومن ذلك أيضا أن مرجئة الفقهاء لا يرون جواز الاستثناء في الإيمان، خلافا لأهل السنة والجماعة. والصواب ما ذكره شيخ الإسلام في بعض كلامه من أن الخلاف بين مرجئة الفقهاء، وبين أهل السنة والجماعة في حقيقة الإيمان، منه ما هو لفظي، ومنه ما هو حقيقي (ينظر:: «مجموع الفتاوى» (7/ 579)، و (7/ 584)، و (13/ 39) ، وهذا يجمع القولين.
قوله - رحمه الله -: «وأن جميع ما أنزل الله في القرآن، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق» هذا عطف على ما تقدم، من تعريف الإيمان، وهو بيان للإيمان المجمل الواجب على جميع المكلفين. فالإيمان ينقسم إلى قسمين: إيمان مجمل، وإيمان مفصل. أما الإيمان المجمل فهو الإقرار بجميع ما أنزل الله في القرآن، وجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم . وقد جمع ما يجب في الإيمان المجمل حديث جبريل في بيان الإسلام والإيمان والإحسان، فالإيمان الواجب على جميع المكلفين، من الإنس والجن، هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره إيمانا مجملا. وذلك أن الإحاطة بتفاصيل تلك الأصول "غير مقدور للعباد، إذ لا يوجد أحد إلا وقد خفي عليه بعض ما قاله الرسول" ("التسعينية" (1/ 210) ، أو أنه قد خفي عليه معنى ما جاء في القرآن العظيم، أو ما أخبر به النبي الكريم - صلوات الله وسلامه عليه -، فلا يشترط في الإيمان المجمل العلم والإحاطة بكل ما أخبر الله به ورسوله ولا العلم بمعنى ذلك ("مجموع الفتاوى" (16/ 409 - 410) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ألا ترى أنا لا نعرف عدة من الأنبياء وكثيرا من الملائكة، ولا نحيط بصفاتهم، ثم لا يقدح ذلك في إيماننا بهم» ("مجموع الفتاوى" (16/ 410) . أما الإيمان المفصل فهو الإقرار بكل ما جاء تفصيله في القرآن العظيم، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، كالإيمان بأسماء من قص الله ورسوله خبرهم من الرسل والملائكة والكتب ونحو ذلك.
وقوله: «كله حق» أي: إن كل ما جاء في الكتب وصح من السنة ثابت لا مرية
فيه، مطابق للواقع، يجب قبوله واعتقاده، قال الله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} (سورة التوبة:33.) ، وقال تعالى: {لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} (سورة يونس:94.) ، وقال تعالى: {والذي أنزل إليك من ربك الحق} (سورة الرعد:1.) ، وقال: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} (سورة الرعد:19.) ، وغير ذلك كثير، وفي "الصحيحين" من حديث ابن عباس في دعاء الاستفتاح في صلاة الليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حق والساعة حق» ("صحيح البخاري" (1120)، ومسلم (769) .
قوله - رحمه الله -: «والإيمان واحد» أي: إن الإيمان شيء واحد، فهو حقيقة واحدة لا يتفاضل ولا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص، فإذا صدق الإنسان بقلبه وأقر بلسانه ثبت له وصف الإيمان، واعتقاد أن حقيقة الإيمان شيء واحد هو أصل الضلال والانحراف في باب الإيمان. فكل الضلال في هاذا الباب على اختلافه ناشئ من اعتقاد أن الإيمان واحد، فإن الإيمان إذا كان شيئا واحدا؛ فإما أن يثبت جملة؛ وإما أن يزول جملة، وهذا خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» (أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) .
فنفى الإيمان عن الزاني وشارب الخمر والسارق والمنتهب، حال فعلهم لهذه الموبقات. وهذا النفي ليس نفيا للإيمان بالكلية، بل هو نفي للإيمان المطلق الكامل الذي يستلزم فعل الواجبات، وما أمر الله به كله، وترك المحرمات كلها، ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق، على من ارتكب كبيرة، أو ترك فريضة؛ لأن اسم الشيء الكامل يقع على الكامل منه، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه، في مثل هذا الحديث (ينظر:" مجموع الفتاوى" (7/ 360.524) . ومثله الأحاديث الكثيرة التي نفى بها النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان مع عدم كفر صاحبها، كقوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يامن جاره بوائقه» (أخرجه البخاري (6016)، ومسلم (46) ، ونحو ذلك.
قوله - رحمه الله -: «وأهله في أصله سواء» أي: إن أهل الإيمان مستوون في أصل الإيمان، إقرارا باللسان وتصديقا بالجنان، لا تفاوت بينهم في الإقرار والتصديق، وبناء على ذلك فلا فرق بين إيمان النبي وإيمان جبريل، وبين إيمان سائر المؤمنين، وقد نسب إلى أبي حنيفة أنه قال: «إيماني كإيمان جبريل». وأنه قال أيضا في كتاب «العالم والمتعلم»: «إن إيماننا مثل إيمان الملائكة، لأنا آمنا بوحدانية الله تعالى وربوبيته وقدرته وما جاء من عند الله - عز وجل - بمثل ما أقرت به الملائكة وصدقت به الأنبياء والرسل، فمن هاهنا إيماننا مثل إيمانهم» ("البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 310) . وهذا خلاف ما قرره أهل السنة والجماعة، وما كان عليه سلف الأمة الصالحون من الصحابة ومن بعدهم، فليس منهم من يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل. قال ابن أبي مليكة: «أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف
النفاق ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل» (أخرجه البخاري تعليقا، في ترجمة باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله قبل حديث (48)، وقال الحافظ في «الفتح» (1/ 110): «هذا التعليق وصله ابن أبي خيثمة في تاريخه، لكن أبهم العدد، وكذا أخرجه محمد بن نصر المروزي مطولا في كتاب الإيمان له، وعينه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه من وجه آخر مختصرا كما هنا، والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة وأبو هريرة وعقبة بن الحارث والمسور بن مخرمة، فهؤلاء ممن سمع منهم» اهـ.) ، وما احتج به مرجئة الفقهاء من أن الاشتراك في التصديق يستلزم الاستواء في الإيمان فغير صحيح شرعا، ولا مسلم عقلا؛ فإن التصديق درجات، فتصديق من بلغه الخبر من واحد أو اثنين ليس كتصديق من بلغه الخبر متواترا، وتصديق من رأى ليس كتصديق من سمع، ولهذا تناقض المنقول عن أبي حنيفة نفسه، حيث قال: «إيماني كإيمان جبريل، ولا أقول إيماني مثل إيمان جبريل» وقد نقل عنه أنه قال: «أكره أن يقول الرجل: إيماني كإيمان جبريل، ولكن يقول: آمنت بما آمن به جبريل» (حاشية ابن عابدين (3/ 274) ، وهذا هو اللائق بإمامته وعلمه - رحمه الله.
وقوله: «وأهله في أصله سواء» يفهم منه أن الإيمان له أصل وفرع، والاستواء إنما هو في الأصل فقط، وأما الفرع فقد يتفاضل، فالفرع إما أن يكون إيمانا أو لا يكون إيمانا، فإن كان الفرع إيمانا لم يكن الإيمان شيئا واحدا، بل هو أصل وفرع، يختلفان حقيقة وحكما، وهذا يناقض ما ذكره المؤلف من أن الإيمان واحد، وإن لم يكن الفرع إيمانا، فلا حاجة لذكر الأصل في قوله: «وأهله في أصله سواء» ولأغنى عن ذلك أن
يقول: «وهم فيه سواء». ومن لازم ما قرره المؤلف أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، خلافا لما دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة وأجمع عليه علماء الأمة، فإن المأثور عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، تزيده الطاعات وتنقصه المعاصي، وقد نطق القرآن في مواضع عديدة بزيادة الإيمان كما في
قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} سورة الأنفال: 2. وقوله تعالى: {فزادهم إيمانا} سورة آل عمران: 173 ، وقوله تعالى: {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} سورة الفتح: 4 ، وقوله تعالى: {فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} (سورة التوبة: 124.) . وأما دليل النقصان، فكل آيات زيادة الإيمان، تدل بالمفهوم على نقصانه، كما قال سفيان بن عيينة، لما سئل عن الإيمان: يزيد وينقص؟ "قال: أليس تقرأون في القرآن: {فزادهم إيمانا} (سورة آل عمران:173) ، في غير موضع؟ قيل: ينقص؟ قال: ليس شيء يزيد إلا وهو ينقص" (رواه الآجري في "الشريعة" (2/ 605) رقم (240)، وابن بطة في "الإبانة" (2/ 850) رقم (1142) . وأما الأدلة من السنة في إثبات الزيادة والنقصان فكثيرة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» ("صحيح البخاري" (9)، ومسلم (35) . ومنها ما رواه الشيخان أيضا من حديث أنس مرفوعا: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير» ("صحيح البخاري" (44)، ومسلم (193) .
ومن أدلة نقصان الإيمان: حديث أبي سعيد وابن عمر - رضي الله عنهم - وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن نقصان دينها: «وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين» (أخرجه مسلم (79) .
قوله - رحمه الله -: «والتفاضل بينهم بالخشية» أي: إن تفاوت مراتب الفضل بين أهل الإيمان بعد استوائهم في أصله، إنما هو في أربعة أمور: وهي الخشية، والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى. ويفهم من كلام المؤلف: أن هذه الأمور ليست من الإيمان، بل هي شيء غيره؛ لأنه قرر أن أهل الإيمان في أصله سواء، وهذا لا يستقيم مع التفاضل في هذه الأمور الأربعة، التي تقتضي التفاوت بينهم، وأنهم ليسوا فيها سواء. ويحتمل أن المؤلف فرق بين أصل الإيمان الذي هو التصديق بالجنان والقول باللسان، وبين فروعه التي ذكر أن التفاضل بين أهل الإيمان يكون فيها، وهي الأمور الأربعة المذكورة، والذي يظهر أن في هذا نوعا من التناقض، سببه محاولة الجمع بين قول مرجئة الفقهاء، وبين ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وجرى عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين، فإن النصوص دالة على أن الخشية والتقى ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى، من الإيمان، كما سيأتي.
وقوله: «بالخشية» هذا أول ما ذكره المؤلف مما يحصل به التفاوت في الفضل بين أهل الإيمان، وهو الخشية. والخشية خوف مقترن بمعرفة وعلم، ولذلك لا يوصف به إلا أهل العلم، قال الله - جل وعلا -: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} سورة فاطر: 28 ، وهي عمل من أعمال القلوب، وقد فسر أنس بن مالك الإيمان بالخشية في قوله تعالى: {يؤمنون بالغيب} سورة البقرة:2 ، قال الطبري: «وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل» (تفسير الطبري" (3/ 235) ، وقال ابن كثير: «الخشية خلاصة الإيمان والعلم» (" تفسير ابن كثير" (1/ 165) ، وهي قائد العمل، فإن الخشية تستدعي من العبد العمل بما يخشى من تضييعه العقاب، والهرب مما يخشى من ارتكابه العذاب، ودليل التفاضل فيه أن الله تعالى قصرها على العلماء دون غيرهم، وأن العلماء متفاوتون في علومهم، فكلما زاد العلم زادت الخشية.
قوله - رحمه الله -: «والتقى» هذا ثاني ما ذكره المؤلف مما يحصل به التفاضل بين أهل الإيمان، وهو التقى، والتقى اسم مصدر من التقوى. والمراد به تقوى القلوب، وهو ما يقوم بالقلب من محبة الله وتعظيمه، وهذا مما يتفاوت فيه الناس تفاوتا عظيما، ويدل له ماجاء في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له» (أخرجه البخاري (5063) .
قوله - رحمه الله -: «ومخالفة الهوى» هذا ثالث ما ذكره المؤلف مما يحصل به التفاضل بين أهل الإيمان، وهو مخالفة الهوى، أي: مخالفة ما تميل إليه النفوس وتشتهيه من
المحرمات، وسمي هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار (ينظر: «تفسير القرطبي» (16/ 176) وهذه التسمية منسوبة إلى الشعبي.) ، فإن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله، كما قال الله تعالى لنبيه داود: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} سورة ص: 26. ومعلوم أن الناس في الضلال مراتب ودركات، وذلك يتفاوت بقدر ما معهم من اتباع الهوى. ومخالفة الهوى ثمرة كمال الحب لله تعالى ولرسوله، والناس في هذا متفاوتون، فليسوا في حب الله ورسوله على درجة سواء، بل هم متفاضلون، ويدل على ذلك قول الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} سورة آل عمران: 31، ومعلوم أن المؤمنين متفاوتون في الاتباع نتيجة تفاوت حبهم لله تعالى، كما قال تعالى: {والذين آمنوا أشد حبا لله} سورة البقرة:156 .
قوله - رحمه الله -: «وملازمة الأولى» هذا رابع ما ذكره المؤلف مما يحصل به التفاضل بين المؤمنين، وهو ملازمة الأولى. والمراد المداومة على الأفضل والأحب إلى الله تعالى قولا وفعلا ظاهرا وباطنا، وهذا يجمع كل ما تقدم ذكره مما يحصل به التفاضل. وما ذكره المؤلف - رحمه الله - حق لا خلاف فيه، وإنما الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء في إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان، فهذه الأمور الأربعة التي ذكرها المؤلف كلها من الإيمان، كما دلت على ذلك الأدلة، فالخشية عمل من أعمال القلوب، وهي من خصال الإيمان، قال الله تعالى: {فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين} سورة التوبة: 13، فلا يتم إيمان عبد، إلا بأن يخشى الله وحده، لا شريك له، وقد فسر أنس بن مالك قول الله تعالى: {يؤمنون بالغيب} سورة البقرة: 3 ، أي: يخشونه بالغيب، قال الطبري - رحمه الله -: «وقد تدخل الخشية في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل» (تفسير الطبري (1/ 235) ، وكذلك التقوى هي ثمرة الإيمان، كما قال تعالى: {واتقوا الله إن كنتم مؤمنين} سورة المائدة: 57، وكثيرا ما ينادي الله تعالى المؤمنين، ويأمرهم بتقواه، حيث يقول: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} سورة البقرة: 278، وهذا يدل على أن التقوى، من أعظم خصال الإيمان وشعبه وصفات أهله، وكذلك مخالفة الهوى وملازمة الأولى، هما من خصال الإيمان وشعبه، فهما ثمرة الخشية والتقوى.
قوله - رحمه الله -: «والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن» أي: إن أهل الإيمان فائزون بولاية الرحمن، قال الله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون} سورة يونس: 62 - 63
والأولياء جمع ولي، وهو مأخوذ من ولي الشيء إذا قرب منه، والقرب يقتضي المحبة والنصرة، فأولياء الرحمن هم من اصطفاهم فأحبهم وتولاهم بالنصر والتأييد، وسبب هذه الولاية وطريق حصولها هو الإيمان، قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا} سورة البقرة: 257 ، وقد يفهم من كلام المؤلف أن جميع المؤمنين في الولاية مستوون، لا تفاضل بينهم؛ لأنهم عنده مستوون في الإيمان كما تقدم في قوله: «وأهله في أصله سواء» والصواب أن أهل الإيمان متفاوتون في إيمانهم كما تقدم، وكذلك هم في الولاية مراتب ودرجات، متفاوتة بتفاوت ما معهم من الإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى: {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} سورة الأعراف: 196 ، فجعل الله تعالى الصلاح موجبا للولاية، ومعلوم أن الأحكام المعلقة بالأوصاف، تزيد بزيادتها، فكلما ازداد العبد طاعة لله - جل وعلا - ازداد منه قربا، ويدل لذلك حديث الولاية الشهير، الحديث الإلاهي: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» (أخرجه البخاري (6502) .
قوله - رحمه الله -: «وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن» أي: إن أشرف المؤمنين عند الله تعالى منزلة وأعظمهم عنده شأنا، أكثرهم له طاعة بامتثال ما أمر به وترك ما نهى عنه, وأشدهم اقتفاء للقرآن وأخذا به، قبولا لأخباره، وانقيادا لأحكامه، قال الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} سورة الحجرات: 13. وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم : من أكرم الناس؟ قال: «أتقاهم» ("صحيح البخاري" (3353)، ومسلم (2378) ، أي: أشدهم اتقاء لله تعالى بفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر.
قوله - رحمه الله -: «والإيمان: هو الإيمان بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والبعث بعد الموت، والقدر خيره وشره، وحلوه ومره من الله تعالى» هذا تعريف للإيمان، وبه عرف النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان لما سأله جبريل، فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» ("صحيح البخاري" (4777)، ومسلم (9)، واللفظ له.) ، وهذا تعريف للإيمان ببيان أصوله التي يقوم عليها ولا يتم إلا بها، فهذه الأصول الستة هي أصول الإيمان، لا يصلح إيمان أحد ولا يستقيم إلا بتحقيقها، وهذا هو الإيمان المجمل الواجب على جميع المكلفين، من الإنس والجن وقد عرف أهل العلم الإيمان بتعريفات عديدة متنوعة، فقال الطبري في تفسيره: «الإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل» "تفسير الطبري" (1/ 241) ، وعرفه آخرون بأنه عمل في القلب، جماعه الخضوع والانقياد للأمر ("الصارم المسلول" (6/ 8) ، وغالب ما جاء عن الأئمة وعلماء الأمة، في تعريف الإيمان، أنه قول وعمل كما سبق بيانه ونقله، وأجمع التعريفات وأيسرها ما عرفه به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أحسن المؤلف لما ذكره، ولو قدمه في أول مسائل الإيمان، لكان أفضل وأجود.
وقوله: «الإيمان بالله تعالى» هذا هو الأصل الأول من أصول الإيمان، وهو أعظم أصول الإيمان، وعليه تدور رحاها، والإيمان بالله يشمل الإيمان بوجود الله وبربوبيته وبإلهيته وبأسمائه وصفاته، ويمكن أن نقتصر على الثلاثة دون ذكر الإيمان بوجوده؛ لأن
من لازم الإيمان بربوبيته وأسمائه وصفاته وإلهيته الإيمان بوجوده - سبحانه وتعالى -.
وقوله: «وملائكته» هذا هو الأصل الثاني من أصول الإيمان، وهو الإيمان بالملائكة، وقد تقدم بيان ذلك، وسيأتي له مزيد بيان.
وقوله: «وكتبه» هذا هو الأصل الثالث من أصول الإيمان، وهو الإيمان بالكتب، وقد تقدم بيان ذلك.
وقوله: «ورسله» هذا هو الأصل الرابع من أصول الإيمان، وهو الإيمان بالرسل - صلوات الله وسلامه عليهم -، وقد تقدم بيان ذلك.
وقوله: «واليوم الآخر» هذا هو الأصل الخامس من أصول الإيمان، وهو الإيمان بما أخبر الله تعالى به، مما يكون بعد الموت ويوم القيامة، وقد تقدم بيان بعض ما يتصل بهذا الأصل، وسيأتي له مزيد بيان.
وقوله: «والقدر خيره وشره، وحلوه ومره من الله تعالى» هذا هو الأصل السادس من أصول الإيمان، وهو الإيمان بالقدر، وقد تقدم بيان ذلك والتفصيل فيه، وسيأتي له مزيد بيان.
قوله - رحمه الله -: «ونحن مؤمنون بذلك كله» أي: ونحن مقرون بهذه الأصول الستة جميعا، إيمانا مجملا، ومقرون بما بلغنا من تفاصيل تلك الأصول. فالإيمان الواجب على كل أحد هو الإيمان المجمل، لأنا لا نحيط علما بكل شيء من ذلك على جهة التفصيل، وإنما كلفنا الإيمان بذلك في الجملة، «ألا ترى أنا لا نعرف عدة من الأنبياء وكثيرا من الملائكة، ولا نحيط بصفاتهم ثم لا يقدح ذلك في إيماننا بهم؟» ("مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام (16/ 410) .
قوله - رحمه الله -: «لا نفرق بين أحد من رسله» أي: نؤمن بجميع الرسل وما أخبروا به عن الله رب العالمين. ونقر بأن ما جاءوا به من عند الله، دون تفريق بينهم في أصل الإيمان بهم، كمن آمن ببعضهم وكفر ببعض، وكمن آمن ببعض ما جاءوا به، وكفر ببعض، كما فعل بنو إسرائيل في أنبيائهم. وليس من التفريق بين الرسل معرفة مراتبهم في الفضل، فإن الله - جل وعلا - فاضل بينهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} (سورة البقرة: 253.) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» (صحيح مسلم (2278) ، فنؤمن بهم جميعا، ونؤمن بمن فضله الله منهم، وخصه بما خصه من المنازل والفضائل - صلوات الله وسلامه عليهم -، فأفضل الأنبياء والرسل: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم أولو العزم من الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وبعد ذلك هم في الفضل كما علم الله -جل وعلا -.
قوله - رحمه الله -: «ونصدقهم كلهم على ما جاؤوا به» أي: نقر جميع الرسل في كل ما أخبروا به أنه من الله رب العالمين، وهذا بيان وتوضيح للجملة قبله، وأن عدم التفريق هو في الإيمان بهم وتصديقهم فيما جاؤوا به عن الله.