قوله - رحمه الله -: «ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا» أي: نعتقد وندين بأن الله اصطفى إبراهيم - عليه السلام - بغاية الحب ومنتهاها فصير إبراهيم خليلا، كما قال تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} (سورة النساء: 125.) ، وقد جاء في حديث الشفاعة العظمى في "الصحيحين" أن نوحا - عليه السلام - يقول للناس إذا طلبوا منه الشفاعة: «ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا» وفي رواية مسلم من طريق حذيفة - رضي الله عنه - مرفوعا أن نوحا قال: «اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله» ("صحيح البخاري" (6565)، ومسلم (195) ، وجاء أيضا عند مسلم من حديث جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» (" صحيح مسلم" (532) ، والخليل فعيل بمعنى مفعول، أي: محبوب لله تعالى، وقيل: بمعنى فاعل، أي: محب الله تعالى، وهو مأخوذ من الخلة، وهي أعلى مراتب المحبة، فهي كمال المحبة ونهايتها، وتقتضي عدم المزاحمة بمحبوب آخر، وقد سميت هذه المرتبة بالخلة، ومن بلغها خليلا؛ لأن المحبة قد تخللت روح المحب وقلبه، حتى لم يبق في القلب موضع لغير المحبوب كما قيل:
قد تخللت مسلك الروح مني *** ولذا سمي الخليل الخليلا
وفي هاذا إثبات صفة المحبة لله - سبحانه وتعالى -، وهي ثابتة لله تعالى بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ومن أدلة ذلك في الكتاب قوله - سبحانه وتعالى -: {يحبهم ويحبونه} (سورة المائدة: 54.) ، وقوله - عز وجل -: {إن الله يحب المتقين} (سورة التوبة: 4، 7.) ، وقوله تعالى: {إن الله يحب المحسنين} (سورة البقرة: 195، المائدة: 13.) ، وقوله تعالى: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} (سورة البقرة: 222.) ، و قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (سورة آل عمران: 31.) ، والآيات في ذلك كثيرة. ومن الأدلة في السنة ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة في قصة الذي قال في سورة الإخلاص: إنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أخبروه أن الله يحبه). ومثله ما جاء فيهما من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض). فالواجب إثبات ما أثبته الله لنفسه في هذه الصفة وغيرها من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وقد أنكرت الجهمية أن يحب الله - عز وجل - عباده أو أن يحبوه (ينظر:: درء تعارض العقل (3/ 132)، منهاج السنة (5/ 229)، مدارج السالكين (3/ 18) ؛ لأن المحبة تستلزم المناسبة بين المحب والمحبوب، ولا مناسبة بين الخالق
والمخلوق (ينظر:: مجموع الفتاوى (10/ 71)، الصواعق المرسلة (4/ 1490) . فيقال لهؤلاء: أي مناسبة أعظم من مناسبة الخلق والرزق والملك والتدبير والإحسان؛ فإن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان أن خلقه وأوجده من العدم، ورزقه وأمده بالخيرات، وعافاه وأصلح شأنه وتولى أمره، وتدرج به في مدارج الفضل والإحسان إلى أن بلغه درجة الكمال في الخلق، ودرجة الكمال في الاهتداء، حيث دله وهداه الصراط المستقيم، كما قال - سبحانه وتعالى -: {وهديناه النجدين} (سورة البلد: 10.) ، وهكذا يقال في سائر معاني الربوبية، وقد جاء عند الترمذي - وإن كان فيه شيء من الضعف -: «أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه» (سنن الترمذي (4158)، من حديث ابن عباس، وقال الترمذي:"حسن غريب"، وضعفه الذهبي في "السير" (18/ 118)، وقال:"حديث غريب، فرد، ما رواه عن ابن عباس إلا ولده علي، ولا عن علي إلا ابنه محمد أبو الخلفاء، تفرد به عنه: قاضي صنعاء عبد الله بن سليمان، ولم يروه عنه إلا هشام".) . وهؤلاء لما اعتقدوا ذلك وصرفوا ما ورد في الكتاب والسنة، مما فيه إثبات محبة الله لبعض عباده أو لبعض أعمالهم وأحوالهم بإرادة الثواب، ضلوا ضلالا مبينا؛ حيث أنكروا ما أثبته الله في كتابه من محبته تعالى لمن اصطفاهم من عباده، ومحبة عباده له كما قال: {يحبهم ويحبونه}.
قوله - رحمه الله -: «وكلم الله موسى تكليما» هذا نص آية في كتاب الله تعالى ساقها المؤلف - رحمه الله - لإثبات صفة الكلام لله - عز وجل -، وهو من بديع التصنيف واختصاره حيث يذكر المسألة ودليلها، فإن من أصرح الأدلة وأقواها في إثبات هذه الصفة لله تعالى قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما}، حيث أكد الله تعالى تكليمه لموسى - عليه السلام - بالمصدر الذي يدفع إرادة المجاز، ويفيد تحقيق النسبة، وقد دل على إثبات صفة الكلام لله تعالى الكتاب والسنة والإجماع والعقل. والإيمان بأن الله يتكلم داخل في الإيمان بالرسل، ولهذا كان من يكفر بالرسل ينكر أن لله تعالى كلاما أنزله على البشر، كما قال تعالى: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم} (سورة يونس: 2.) ، وكما قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ... } (سورة الأنعام: 91.) . ومع وضوح الأدلة على ثبوت صفة الكلام لله الواحد القهار، إلا أن الناس قد تنازعوا في إثبات صفة الكلام لله تعالى، وجرى في ذلك اضطراب كبير، وتفرق كثير، وأبرز ما اشتهر عن أهل البدعة في ذلك قولان:
الأول: إثبات أن الله متكلم حقيقة لكن كلامه مخلوق، خلقه الله تعالى في غيره، وهذا قول الجهمية والمعتزلة، وقد جرى بسببهم على أهل السنة بلاء كبير وفتنة عظيمة زمن الإمام أحمد - رحمه الله -، فكان أول من عرف عنه القول بخلق القرآن الجعد بن درهم، ثم أظهر ذلك جهم بن صفوان، واشتهرت مقالته في خلافة المأمون حتى جرت الفتنة وردها الله بالإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -.
الثاني: إثبات أن الله تعالى يتكلم من غير مشيئة، وأن كلامه قائم بذاته أزلا وأبدا، وأول من اشتهر عنه هذا القول عبد الله بن سعيد بن كلاب، وقد انقسم القائلون بهذا إلى فريقين، فمنهم من قال: إن الكلام القديم القائم بذاته أزلا وأبدا معنى واحد. ومنهم من قال: بل هو خمسة معان، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة (ينظر:"مجموع الفتاوى" (6/ 522)، (12/ 49)، "التبصير في الدين" للإسفراييني ص (167) .
وقوله - رحمه الله -: {وكلم الله موسى تكليما}، فيه بيان خصوصية موسى - عليه السلام - في صفة الكلام وذلك من وجهين:
الأول: أن الله ابتدأ الوحي إليه بالتكليم مباشرة، كما قال - سبحانه وتعالى -: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا} (سورة مريم: 52.) ، والمناداة وإن جرت لغيره كما قال تعالى: {وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة} (سورة الأعراف: 22.) ، لكن الذي اختص به موسى أن الله ابتدأ الوحي إليه بالمناداة والتكليم بخلاف غيره من الأنبياء والمرسلين، فإن ابتداء الرسالة إليهم كان بالواسطة وهو الرسول الملكي جبريل - عليه السلام -.
الثاني: أن الله فضله على غيره، بأن خصه بالمناداة على وجه التشريف، والمناجاة على وجه التقريب، قال تعالى: {وإذ نادى ربك موسى} (سورة الشعراء: 10.) ، وقال تعالى: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا} (سورة مريم: 52.) ، والنداء والنجاء أخص من التكليم؛ لأنه تكليم خاص، فالنداء تكليم من بعد، يسمعه المنادى، والنجاء تكليم من قرب، فما خص الله به موسى من التكليم في صفة الكلام أمر لم يدركه أحد من النبيين، كما قال الله - جل وعلا-: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما} سورة النساء: 163 - 164.
فبعد أن ذكر الله - جل وعلا - الإيحاء الذي اشترك فيه النبيون والمرسلون، ذكر ما اختص به موسى - عليه السلام -، فقال بعد ذكر الإيحاء العام: {وكلم الله موسى تكليما}. فعلم من هاذا أن ما خص الله به موسى مختلف عما اشترك فيه النبيون، وهذا ما دل عليه قول الله تعالى: {يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} (سورة الأعراف: 144.) .
قوله - رحمه الله -: «ونؤمن بالملائكة والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين» أي: نقر بالملائكة - عليهم السلام -، وبالأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -، وبما أنزل الله من الكتب على الرسل. والإيمان بهذه الأمور الثلاثة من أصول الإيمان ودعائمه التي لا يصح إلا بها. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، فمن أدلة الكتاب قول الله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في الباساء والضراء وحين الباس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} (سورة البقرة: 177.) ، وقوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (سورة البقرة: 285.) . ومن أبرز أدلة ذلك في السنة حديث عمر في سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان حيث قال صلى الله عليه وسلم : «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه،
ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» الحديث (أخرجه مسلم (8)، من حديث عبد الله بن عمر عن أبيه.) . والإيمان بالملائكة، يتضمن أن نؤمن بأن الملائكة خلق من خلق الله، أحياء ناطقون، خلقهم الله من نور، وأنه لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، وأنهم عباد مربوبون لله تعالى، خلقهم لطاعته، فلا يشتغلون بغيرها، كما قال تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} سورة التحريم: 6، وكما في حديث المعراج الذي رواه الشيخان من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ... فرفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم ... » (صحيح البخاري (3207)، ومسلم (164) . وفي «السنن» من حديث أبي ذر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله» ("سنن الترمذي" (2482)، وقال: «حسن غريب»، وابن ماجه (4190)، و أحمد (5/ 173)، والحاكم (2/ 554) ح (3883)، وقال: «صحيح الإسناد».) . ومن الإيمان بالملائكة: الإيمان بأن الله - سبحانه وتعالى - اصطفاهم فأسكنهم السماوات فهم أهلها، كما قال جل وعلا: { صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم } (سورة النجم: 26.) . وأن الله - جل وعلا - اصطفى منهم رسلا، فجعلهم واسطة بينه وبين الخلق من بني آدم، كما قال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا} (سورة الحج:75.) .
ومن الإيمان بالملائكة الإيمان بما ذكره الله من أعمالهم، كما في قوله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (سورة ق: 18.) . وقوله - سبحانه وتعالى -: {كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون} سورة الانفطار: 11 - 12. وقوله: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} سورة الرعد: 11. وقوله - عز وجل -: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} سورة الأعراف: 206. وقوله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} سورة الأنفال: 50. وغير ذلك كثير من كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: «والنبيين» أي: إن أهل السنة والجماعة يقرون بالنبيين، وذلك يتضمن الإيمان بكل نبي أوحى الله إليه واصطفاه، سواء أكان ممن قص الله تعالى خبره في كتابه، أم من لم يقص خبره منهم، كما قال تعالى: {ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك} (سورة النساء: 164.) . فنؤمن بجميعهم لا نفرق بين أحد منهم كما قال تعالى: (لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) سورة البقرة (136) .
وقوله - رحمه الله -: «والكتب المنزلة على المرسلين»، أي: إن أهل السنة والجماعة يقرون بالكتب التي أنزلها الله على رسله، كما قال تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون سورة البقرة. وهذا الأيمان يقتضي الإقرار بأن الله لم يرسل رسولا إلا وأنزل إليه كتابا، كما قال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب} (سورة الحديد: 25.) ، ونؤمن أن الكتب المنزلة على رسله وأنبيائه كلامه جل وعلا، فكل كتاب أنزله الله على رسول فقد تكلم به.
قوله - رحمه الله -: «ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون بقلوبهم، ويظهرون ذلك بألسنتهم أن جميع رسل الله تعالى الأولين والآخرين، من قصهم علينا ومن لم يقصصهم علينا، كلهم على الحق الواضح البين الظاهر الذي يطابق الواقع على أكمل وجه، لا لبس فيه ولا خفاء، وقد جاءوا من الله بالهدى ودين الحق كما قال تعالى بعد أن قص خبر المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (سورة الأنعام: 90.) ، وكما قال الله عن خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم : {فتوكل على الله إنك على الحق المبين} (سورة النمل: 79.) ، فهكذا جميع رسل الله تعالى فهم على الحق الظاهر البين،، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد» ("صحيح البخاري" (3443)، ومسلم (2365) .
قوله - رحمه الله -: «ونسمي أهل قبلتنا»، أي: إن أهل السنة والجماعة يسمون كل من استقبل الكعبة في الصلوات مسلمين مؤمنين؛ وذلك أن أعمال أهل الإسلام الصلاة، التي هي ثاني الأركان بعد التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولم يختلف في وجوبها أحد من أهل الإسلام؛ لذلك يسمى المسلمون (أهل الصلاة)، ويعبر عنهم بها فيقال: «اختلف أهل الصلاة»، أي: أهل الإسلام، وقد ألف أبو الحسن الأشعري كتابا سماه «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين». ولما كان استقبال القبلة ركنا في الصلوات المكتوبات، وصف المسلمون بأنهم أهل القبلة، أي: أصحابها الذين يستقبلونها في صلواتهم، وهذا المعنى مستفاد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، في حديث أنس بن مالك: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم ... » (أخرجه البخاري (391) ، فأثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن قام بهذه الخصال وصف الإسلام، وهو مستفاد أيضا من حديث عائشة مرفوعا، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ من أهل القبلة إلا بإحدى ثلاث»، رواه الحاكم في «مستدركه» ("المستدرك" (4/ 393)، وقال: «صحيح على شرط الشيخين".) . وقد أخرج أبو يعلى من طريق الأعمش عن أبي سفيان، قال: أتينا جابرا، وهو مجاور بمكة، وكان نازلا في بني فهر، فسأله رجل: هل كنتم تدعون أحدا من أهل القبلة مشركا؟ قال: «معاذ الله!» ففزع لذلك، قال: هل كنتم تدعون أحدا منكم كافرا؟ قال: «لا» (مسند أبي يعلى الموصلي (4/ 207)، ح (2317)، قال الحافظ في "المطالب العالية" (12/ 548): "صحيح موقوف".) .
وإنما خصت القبلة بإضافة أهل الإسلام إليها؛ لأنهم يجتمعون عليها، ويتوجهون في صلاتهم إلى القبلة حيثما كانوا، فهي عنوان اجتماعهم.
وقوله: «ونسمي أهل قبلتنا مسلمين» أفاد أن الإسلام يثبت بفعل كل ما هو من خصائص أهل الإسلام، ولا يلزم أن ينطق بالشهادتين، لكنه يطالب بها، فمن استقبل القبلة وصلى صلاة المسلمين حكم له بأنه مسلم، وجرى عليه حكم الإسلام، إلا أن يأتي بما ينقضه، وبهذا قال بعض أهل العلم ("المغني" (10/ 93) ، قال ابن قدامة:"واذا صلى الكافر حكم بإسلامه سواء كان في دار الحرب أو دار الإسلام أو صلى جماعة أو فرادى"اهـ. وقال آخرون: بل لابد من الشهادتين ليحكم بإسلامه.
قوله - رحمه الله -: «مؤمنين» هاذا بدل أو عطف بيان من قوله: «مسلمين»، وهذا يفيد أن أهل القبلة يوصفون بالإيمان، أي مطلق الإيمان الذي يثبت لكل مسلم، فكل مسلم معه شيء من الإيمان، وكذلك أهل القبلة، وهم المصلون، فإنهم لا بد أن يكون معهم إيمان، ولذلك سمي أهل القبلة مؤمنين، وقد يفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - التسوية بين وصف الإسلام والإيمان مع اجتماعهما وأن كل مسلم مؤمن، وكل مؤمن مسلم، فيكون الإسلام والإيمان شيئا واحدا، عند اجتماعهما، والذي دلت عليه الأدلة: أن الإسلام والإيمان وصفان، إذا اجتمعا في الذكر افترقا في المعنى، وإذا افترقا اجتمعا، قال - سبحانه وتعالى -: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}) سورة الحجرات: 14، فأثبت الله لهم الإسلام الذي هو الانقياد والاستسلام، ونفى عنهم الإيمان المطلق الكامل؛
لأنهم لم يستكملوه، وهذا نظير ما جاء في «الصحيحين» من طريق الزهري، قال: أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن سعد - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى رهطا، وسعد جالس، فترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا هو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمنا؟ فقال: «أو مسلما؟ ... » الحديث (صحيح البخاري (27)، ومسلم (150) ، ففرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المؤمن والمسلم.
قوله - رحمه الله -: «ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين» أي: إن وصف أهل القبلة بمسلمين ومؤمنين ثابت ودائم مدة إقرارهم بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومدة تصديقهم بكل ما قاله -صلى الله عليه وسلم -، أو أخبر به، فلا ينتفي عنهم وصف الإسلام والإيمان، ما لازموا ذلك وأقاموا عليه.