قوله - رحمه الله -: «والعرش والكرسي حق» أي: إن أهل السنة والجماعة
يعتقدون ثبوت العرش وثبوت الكرسي، كما جاء الخبر بذلك في الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة. والعرش والكرسي مخلوقان عظيمان من خلق الله- جل وعلا-. أما العرش فهو سرير الملك في لغة العرب (ينظر: «الصحاح» (1/ 458) ، وهو أعظم ما نعلمه من مخلوقات الله - جل وعلا-، وقد خصه الله دون سائر الخلق باستوائه عليه، وذكر ذلك في مواضع عديدة من كتابه الحكيم ((الأعراف: آية 54، ويونس: آية 3، والرعد: آية 2، وطه: آية 5، والفرقان: آية 59، والسجدة: آية 4، والحديد: آية 4) ، فقال الله - جل وعلا-: {الرحمن على العرش استوى} (سورة طه: 5.) . وقد وصف الله تعالى العرش في كتابه بأوصاف عديدة تبين عظيم مكانته وكبير قدره وبديع صنع الله فيه؛ فوصفه بالعظمة، فقال تعالى: {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} سورة النمل: 26، أي إنه جمع معاني العظمة في الخلق والوصف والقدر والشأن. ووصفه بالكرم، فقال تعالى: {فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} سورة المؤمنون: 116، أي إنه مستوف فضائل حسنه، فهو الموصوف بكل كمال يناسبه. ووصفه بالمجد، فقال تعالى: {ذو العرش المجيد} سورة البروج: 15، على قراءة الجر صفة للعرش، ومعنى ذلك أنه جمع صفات العظمة والقوة والبهاء والجمال في نوعه.
وقد جاء في السنة ما يدل على أن العرش أثقل الأشياء وأعظمها وزنا، ففي "صحيح مسلم" من حديث جويرية بنت الحارث: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى، وهي جالسة، فقال: «ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟» قالت: نعم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته» (صحيح مسلم (2726) ، فدل الحديث على أن العرش أثقل ما يمثل به، كما أن عدد المخلوقات أكثر ما يمثل به (مجموع الفتاوى (6/ 553) . والعرش هو أول المخلوقات المعلومة لنا، كما دل على ذلك عدة أحاديث منها ما في «صحيح مسلم» من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء» (صحيح مسلم (2653) ، وظاهر الحديث أن العرش كائن على الماء حال أمر الله القلم بكتابة مقادير الخلائق، وهاذا ما عليه جمهور أهل العلم، ورجحه ابن القيم - رحمه الله - حيث قال:
والحق أن العرش قبل لأنه *** قبل الكتابة كان ذا أركان ("القصيدة النونية" ص (65))
وقد ذهب بعض أهل السنة والجماعة إلى أن القلم أول الخلق، واستدلوا بما رواه الترمذي وأحمد من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد» "سنن الترمذي" (2115)، و"مسند أحمد" (5/ 317)، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وروي عن عبادة من طرق منها، الوليد بن عبادة، ومحمد بن عبادة، وأبي حفصة. وفي رواية أبي داود: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى
تقوم الساعة» ("سنن أبي داود" (4700)، وتقدم تخريجه والحكم عليه) . وهذا على رواية الرفع, فيكون القلم خبر إن. والجواب أن يقال: إن الأولية المذكورة في الحديث نسبية، وليست مطلقة، فأولية خلق القلم بالنسبة لسائر الخلق ما عدا العرش، وذلك أن الأدلة قد دلت على أسبقية خلق العرش، وأما على رواية نصب القلم ففيها وجهان: الأول كسابقه والجواب عنه ما تقدم في رواية الرفع. والثاني: أن النصب على المفعولية لفعل (خلق) ، فيكون المعنى حينئذ أن الله تعالى أمر القلم بالكتابة بعد خلقه مباشرة بحيث لم يفصل بين خلقه وأمره بفاصل من الزمن.
وقوله: «والكرسي» الكرسي ثابت في كتاب الله تعالى، في قوله: {وسع كرسيه السماوات والأرض} سورة البقرة: 255، وقد اختلف العلماء في حقيقته، فقيل: هو العرش (ينظر: "تفسير الطبري" (5/ 401)، و"مجموع الفتاوى" (6/ 585) ونسب هذا القول إلى الحسن البصري، ولا يثبت عنه؛ لأن في إسناده جويبرا وهو متفق على ضعفه، وقال فيه الحافظ ابن حجر: «ضعيف جدا». وقال ابن كثير: «رواه ابن جرير من طريق جويبر، وهو ضعيف، وهذا لا يصح عن الحسن، بل الصحيح عنه وعن غيره من الصحابة والتابعين أنه غيره» «البداية والنهاية» (1/ 13).) ، ويشكل على هذا ما جاء في الآثار من ذكر العرش والكرسي معا، فدل على أنهما شيئان كما هو قول أكثر أهل العلم من السلف والخلف. وقيل: الكرسي موضع قدمي الرب - جل وعلا-، وقد جاء هاذا عن ابن عباس (أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/ 310) ح (3116) عن ابن عباس قال: «الكرسي موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره». وقال: «صحيح على شرط الشيخين». وينظر: «مختصر العلو» للذهبي ص (102)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (6/ 354):"رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح".) ، ومثل هاذا لا يقال بالراي، ولذا قال جماعة من العلماء: إن له حكم الرفع، ويشكل عليه احتمال أن يكون هذا منقولا من أهل الكتاب، فإن ابن عباس - رضي الله عنهما- له رواية عن أهل الكتاب، وإن كان ينكر الأخذ عنهم، كما في صحيح البخاري أنه قال: «كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم، وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهدا بالله تقرؤونه محضا لم يشب؟» ("صحيح البخاري" (7522)
، فلعل ما أنكره هو الإقبال على ما عندهم، وترك ما جاء بيانه في كتاب الله تعالى، أما ما لم يأت بيانه، فهو مندرج في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، في حديث عبد الله بن عمرو: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» ("صحيح البخاري" (3461) . وقيل: الكرسي خلق عظيم من خلق الله - عز وجل - غير العرش، ويدل لذلك ما رواه ابن حبان في صحيحه، من حديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أبا ذر، ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة» ("صحيح ابن حبان" (361) ، وقد أخرجه سعيد بن منصور في التفسير، من طريق الأعمش عن مجاهد، بإسناد صحيح، كما قال الحافظ ابن حجر ("فتح الباري" (13/ 422) .
قوله - رحمه الله -: «وهو مستغن عن العرش» أي: إن الله - سبحانه وبحمده- لا حاجة به إلى شيء من خلقه، لا إلى العرش الذي هو من أعظم مخلوقاته، ولا ما دونه من الخلق، فهو الغني عن كل أحد، كما قال تعالى: {إن الله لغني عن العالمين} (سورة العنكبوت: 6.) ، وقال أيضا: {فإن الله غني عن العالمين} (سورة آل عمران: 97.) ، فكل شيء مفتقر إليه، لا غنى بالخلق عنه - سبحانه وتعالى -، وهو الغني الحميد - جل وعلا-، ولذلك قال: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} (سورة فاطر: 41.) ، فهو سبحانه القائم بنفسه المقيم لغيره.
وقوله: «وهو مستغن عن العرش وما دونه» يفيد أن استواء الله تعالى على العرش اصطفاء واختيار، كما قال تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار} (سورة القصص: 68.) . والاستواء على العرش ثابت بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية عنه إنه «ثابت في كل كتاب أنزل على كل نبي» («مجموع الفتاوى» (3/ 188) . وقد أخبر الله تعالى باستوائه على العرش في مواضع عديدة من كتابه الحكيم، فمن ذلك قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} (سورة طه: 5.) . فاستواء الله على العرش ثابت لا مرية فيه، على الوجه اللائق به سبحانه. ومعناه علوه عليه، وقد جمع ابن القيم - رحمه الله - في نونيته كلام أهل العلم في تفسير الاستواء، فقال:
ولهم عبارات عليه أربع *** قد حصلت للفارس الطعان
وهي استقر وقد علا وكذلك ار *** تفع الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد صعد الذي هو رابع***وأبو عبيدة صاحب الشيباني (ينظر: «متن القصيدة النونية» ص (87)
فللاستواء أربعة معان ذكرها أهل العلم، وهي: ارتفع وعلا وصعد واستقر، وقد نقل ذلك كله عن السلف، وهو من اختلاف التنوع في بيان معنى الاستواء، فكل هذه المعاني دائرة على إثبات علو الله على عرشه، وهو علو خاص اختص الله به العرش، وذلك غيرعلوه المطلق على خلقه كلهم. وإثبات أهل السنة والجماعة لاستواء الله تعالى على عرشه كسائر صفاته إثبات يليق به تعالى من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. فالاستواء الذي يثبته أهل السنة والجماعة لا يستلزم نقصا ولا عيبا ولا افتقارا؛ لأن كلام الله حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما كان حقا فلا يمكن أن يلزم عليه لازم باطل مهما كان وكيفما كان، وإنما اللوازم الباطلة التي يوردها أهل الباطل على أهل السنة والجماعة إنما جاءت من الأفهام السقيمة والظنون الباطلة والأقوال المنحرفة والآراء الضالة.
قوله - رحمه الله -: «محيط بكل شيء» أي: إن الله تعالى قد أحاط بكل شيء من خلقه علما وقدرا وسلطانا وعزة، وهو محيط بكل شيء لعظمه وسعته وكبره - سبحانه وتعالى -، فهو الكبير المتعال، قال الله تعالى: {ألا إنه بكل شيء محيط} (سورة الطلاق: 12.) ، وقال تعالى: {وكان الله بكل شيء محيطا} (سورة النساء:126.) ، وهذه الإحاطة العامة لا يخرج عنها شيء من خلق الله تعالى، فالمخلوقات كلها تحت قهره، وفي قبضته لا يخفى عليه شيء من شؤونها، وهو المتصرف فيها المدبر لها. وقد جاءت الإحاطة مقيدة ببعض الخلق وأعمالهم، كما في مثل قوله: {والله محيط بالكافرين} (سورة البقرة:19.) ، وقوله: {إن الله بما يعملون محيط} (سورة آل عمران:120.) ، وقوله: {والله من وراءهم محيط} (سورة البروج:20.) . والإحاطة المقيدة تفيد ما أفادته الإحاطة العامة إلا أن تخصيصها بهؤلاء المكذبين وتقييدها بأعمالهم يتضمن التهديد لهم والوعيد، فمهما عظم عنادهم واستكبارهم فهم لا يعجزون الله شيئا بل هم في قبضته وتحت قهره.
قوله - رحمه الله -: «وفوقه» أي: إن الله تعالى مستعل على كل شيء - سبحانه وتعالى -، فله العلو المطلق على كل شيء، وعلو الله تعالى معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة والعقل والفطرة، فهو أظهر ما شهدت به الفطر والعقول والشرائع، فالله تبارك وتعالى العلي الأعلى، قال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} (سورة الأعلى: 1.) ، وقال: {وهو العلي العظيم} (سورة البقرة: 255.) ،وقال: {أأمنتم من في السماء} (سورة الملك: 16.) ، وقال: {بل رفعه الله إليه} (سورة النساء: 158.) ، وقال: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (سورة فاطر: 10.) ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمات. أما الأحاديث فأدلة العلو فيها كثيرة مستفيضة، لا تكاد تحصى إلا بكلفة، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، في خبر المعراج، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثم عرج بنا إلى السماء» ("صحيح البخاري" (349)، ومسلم (162) ، ومنها ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم» ("صحيح البخاري" (4351)، ومسلم (1461) ، ومنها ما فيهما أيضا من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» ("صحيح البخاري" (4351)، ومسلم (1461) ، ومنها ما في صحيح مسلم في قصة الجارية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «أين الله؟» قالت: في السماء.
قال: «من أنا؟» قالت: أنت رسول الله. قال: «أعتقها، فإنها مؤمنة» ("صحيح مسلم" (537) . فعلو الله تعالى من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية، قال ابن تيمية -رحمه الله - في أدلة العلو: "ثم عن السلف في ذلك من الأقوال، ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفا" ("مجموع الفتاوى" (5/ 15) .فالله سبحانه العلي الأعلى الذي له جميع معاني العلو: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات، وقد أجمع أهل القبلة على النوعين الأولين، وأثبت أهل السنة والجماعة علو الذات أيضا، فاطردوا في إثبات جميع معاني العلو لله تعالى، وخالف في ذلك أهل الكلام، فعطلوا النصوص عما دلت عليه وخالفوا العقول والفطر وما أجمع عليه أهل القرون المفضلة، فلم يثبتوا لله علو الذات، وحرفوا الكلم عن مواضعه، فقالوا: كل ما جاء في الكتاب والسنة من إثبات العلو لله - عز وجل -، فهو علو القدر أو علو القهر (ينظر: "مجموع الفتاوى" (16/ 106) .
قوله - رحمه الله -: «وقد أعجز عن الإحاطة خلقه» أي: إن الله تعالى لم يمكن خلقه من الإحاطة به، بل هم عاجزون عن ذلك مهما بلغت قوتهم وقدرتهم، يستوي في ذلك الملائكة وغيرهم، فجميعهم عن الإحاطة به وبذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله عاجزون، كما قال جل وعلا: {ولا يحيطون به علما} (سورة طه:110.) ، فتعالى الله أن يحيط خلقه بشيء من ذلك، فكيف يقدر على الإحاطة به من يعجز عن أن يحيط بشيء من صفة من صفاته؟ قال تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه} (سورة البقرة: 255.) . ومما يبين عجز الخلق عن الإحاطة به أن المؤمنين إذا رأوه يوم القيامة بأبصارهم وعاينوه – سبحانه - يعجزون عن الإحاطة به لعظمته وجلاله وجماله وبهائه ("الصفدية" (1/ 91) ، قال - سبحانه وتعالى -: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} (سورة الأنعام: 103.) .