قوله - رحمه الله -: «والرؤية حق» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن رؤية أهل الجنة لله تعالى حق. فالألف واللام للعهد الذهني، والمقصود رؤية المؤمنين لله تعالى. فأهل السنة والجماعة يعتقدون أن المؤمنين يرون الله تعالى في الجنة بأعينهم حقيقة، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة، قال تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة 22 إلى ربها ناظرة} (سورة القيامة) ، وقال تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} (سورة المطففين: 15.) ، وقال تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما} (سورة الأحزاب:44.) ، قال ثعلب في تفسيرالآية: أجمع أهل اللغة أن اللقاء هاهنا لا يكون إلا معاينة ونظرا بالأبصار (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة (3/ 62) . وقال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (سورة يونس: 26) ، وقد فسرها بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في "صحيح مسلم"، من حديث صهيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل -، ثم تلا هذه الآية: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}» (أخرجه مسلم (181) .
ومما يدل على أن رؤية المؤمنين لله تعالى حق ما جاء في "الصحيحين"، من حديث جرير بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: «أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون -أو لا تضاهون- في رؤيته» (أخرجه البخاري (573) ومسلم (633) ، وكذلك ما أخرجه البخاري ومسلم، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أناس: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: «هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال: «هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال: «فإنكم ترونه يوم القيامة» (أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182) , وأحاديث الرؤية متواترة، رواها أكثر من ثلاثين من الصحابة، قال الذهبي -رحمه الله -:"وأما رؤية الله تعالى في الآخرة فأمر متيقن تواترت به النصوص، جمع أحاديثها الدارقطني والبيهقي وغيرهما" ("سير أعلام النبلاء" (3/ 146) ، قال الناظم (نظم المتناثر: للكتاني – ص18) :
مما تواتر حديث من كذب *** ومن بنى لله بيتا واحتسب
ورؤية شفاعة والحوض *** ومسح خفين وهذي بعض
أما الأقوال الواردة عن السلف، فأكثر من أن تحصى.
قوله - رحمه الله: «لأهل الجنة» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن أهل الجنة يرون ربهم كما دلت على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة وأجمع عليه علماء الأمة، وهي رؤية تنعيم اختص الله بها أهل الجنة، بل هي أعلى نعيمهم، روى مسلم في "صحيحه" من حديث صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل -» («صحيح مسلم» (181) ، ووجه دلالة هذا الحديث أن أهل الجنة لما عددوا ما أنعم الله به عليهم لم يذكروا من بينها رؤية الله التي كانت في أرض المحشر.
فهذه رؤية تنعيم والتي في أرض المحشر رؤية تعريف كما دلت على ذلك الأحاديث ففي "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « ... وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فياتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون هذا مكاننا حتى ياتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فياتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ... » ("صحيح البخاري" (806) . وفي "الصحيحين" من حديث أبي سعيد مرفوعا وفيه: «فياتيهم الجبار فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه فيقولون الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن» ("صحيح البخاري" (4581)، ومسلم (183) .
وقوله:" لأهل الجنة"، يخرج بذلك الكفار، فإنهم لا يرون الله تعالى رؤية إنعام وتكريم، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، فإنهم عن الله محجوبون، قال الله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} (سورة المطففين: 15.) ، وإنما اختلفوا في رؤية الكفار لله تعالى في أرض المحشر على أقوال (في «حادي الأرواح» ص (198) : فمنهم من نفى الرؤية مطلقا، فقال: الكفار لا يرون الله - جل وعلا- بحال.
-ومنهم من قال: إنهم يرونه ثم يحتجب عنهم؛ ليعظم عذابهم ويشتد عقابهم. ومنهم من قال: يراه أهل النفاق دون الكفار فلا يرونه. ومهما يكن من أمر، فإن الرؤية التي تكون لأهل الموقف هي لأهل الإيمان رؤية تعريف، وأما لغيرهم من أهل الكفر أو النفاق فإنها رؤية حسرة وعذاب، لذلك لا ينبغي إطلاق إثبات الرؤية للكفار؛ حيث إن الله تعالى قد نفاها عنهم، كما قال: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} (سورة المطففين: 15.) ، بل لا بد من تقييد ذلك، فإن إطلاق الرؤية لا يكون إلا على وجه التنعيم، وهاذا لا يكون إلا لأهل النعيم، وهم أهل الجنة.
وقوله: «والرؤية حق لأهل الجنة» يفيد أن أهل الإيمان لا يرونه في الدنيا، فإنه لن يرى الله تعالى أحد من الناس حتى يموت، فقد سأل موسى - عليه السلام - رؤيته، فقال: {قال رب أرني أنظر إليك}، قال له تعالى: {لن تراني} (سورة الأعراف: 143.) ، وهذا يفيد امتناع الرؤية في الدنيا. ويشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم : «تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه - عز وجل - حتى يموت» (أخرجه مسلم (169) . أما رؤية الله تعالى بالفؤاد في الدنيا فقد حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقد أخرج مسلم في «صحيحه» من حديث أبي العالية، عن ابن عباس قال: {ما كذب الفؤاد ما رأى} (سورة النجم: 11.) ، {ولقد رأىه نزلة أخرى} (سورة النجم: 13) ، قال: رأىه بفؤاده مرتين ("صحيح مسلم" (176) ، أي: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الله تعالى بقلبه مرتين، وفي رواية أخرى من طريق عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه إنما رآه بقلبه ("صحيح مسلم" (176) .
قال الحافظ ابن حجر: «المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بالله على الدوام» ("فتح الباري" (8/ 608) ، وعلى هذا فهي رؤية حصلت في القلب رأى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه كما ترى العين الشيء، وهذه النقولات عن ابن عباس - رضي الله عنه - تقيد ما نقل عنه من إطلاق إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لله تعالى، ويبين أنها رؤية فؤاد وقلب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وأما " الرؤية " فالذي ثبت في "الصحيح" عن ابن عباس أنه قال:"رأى محمد ربه بفؤاده مرتين"، وعائشة أنكرت الرؤية، فمن الناس من جمع بينهما، فقال: إن عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد، والألفاظ الثابتة عن ابن عباس جاءت على وجهين: مطلقة أو مقيدة بالفؤاد؛ فتارة يقول: رأى محمد ربه بفؤاده، وتارة يقول: رآه محمد؛ ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح بأنه رآه بعينه، وكذلك "الإمام أحمد" تارة يطلق الرؤية؛ وتارة يقول: رآه بفؤاده؛ ولم يقل أحد إنه سمع أحمد يقول رآه بعينه» (ينظر: "مجموع الفتاوى" (6/ 509) .
وقد ذهب بعض السلف إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعينه التي في رأسه، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-:"وقد اختلف السلف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه فذهبت عائشة وابن مسعود إلى إنكارها، واختلف عن أبي ذر، وذهب جماعة إلى إثباتها، وحكى عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن أنه حلف أن محمدا رأى ربه، وأخرج ابن خزيمة عن عروة بن الزبير إثباتها، وكان يشتد عليه إذا ذكر له إنكار عائشة، وبه قال سائر أصحاب ابن عباس، وجزم به كعب الأحبار، والزهري، وصاحبه معمر، وآخرون، وهو قول الأشعري، وغالب أتباعه» («الفتح» (8/ 608) .وأما رؤية الله تعالى في المنام، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه في المنام كما جاء في "المسند" وغيره من حديث معاذ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فإذا أنا بربي تبارك وتعالى فى أحسن صورة» ("مسند أحمد" (5/ 243)، والترمذي (3235)، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: احتبس عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعا فثوب بالصلاة فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجوز في صلاته فلما سلم دعا بصوته قال لنا: «على مصافكم كما أنتم»، ثم انفتل إلينا ثم قال: «أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال يا محمد قلت لبيك رب قال فيم يختصم الملأ الأعلى؟ ... »
الحديث، قال الترمذي:"حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال هذا حديث حسن صحيح، وقال هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر".) .، قال الإمام الذهبي – رحمه الله – " فأما رؤية المنام فجاءت من وجوه متعددة مستفيضة" (ينظر:: السير (3/ 146) . وأما غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حكى عياض أنه لم يختلف العلماء في جواز صحة رؤية الله في المنام" (ينظر: "إكمال المعلم " (7/ 220) ، وفي هذا نظر؛ فإن الخلاف فيها معروف، حيث إن أهل العلم اختلفوا في إمكان رؤية الله في المنام لغير النبي صلى الله عليه وسلم . فمن أهل العلم من قال:" يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحا لم يره إلا في صورة حسنة وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه" ("مجموع الفتاوى" (3/ 390) ، ومنهم من قال: بأنه لا يرى الله مناما، وهذا هو الأقرب؛ لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه - عز وجل - حتى يموت» (أخرجه مسلم (169)، وأحمد (5/ 433) ، والمراد بالموت مفارقة الروح للبدن مفارقة كلية، وحتى على القول بإمكان الرؤية مناما، فإن أحدا لو رآه لم يمكنه الجزم بأن الذي رآه في منامه هو الله. وقد أنكر رؤية الله طوائف من أهل البدعة، وأول من أحدث إنكار الرؤية الجهمية؛ حيث أنكروا أن يرى الرب - سبحانه وتعالى -، فقالوا: لا يرى، وتبعهم على ذلك المعتزلة؛ ووافقهم الخوارج، ومتأخرو الإمامية، أما المتقدمون من الإمامية الرافضة فإنهم يثبتون الرؤية.
وأما الأشاعرة والكلابية والماتريدية، فإنهم أثبتوا الرؤية على غير طريق أهل السنة والجماعة، حيث قالوا: «يرى من غير معاينة ولا في جهة» (في «مجموع الفتاوى» (16/ 84) ، وهاذا قول في غاية السقوط وفساده معلوم بالضرورة والأخبار المتواترة؛ ولأنه لا يمكن أن يرى الشيء إلا في جهة، فحقيقة قولهم أنه: «يرى من غير معاينة ولا في جهة» نفي الرؤية كما قال محققوهم.
قوله - رحمه الله -: «بغير إحاطة» أي: إن الرؤية التي يثبتها أهل السنة والجماعة لأهل الجنة لا تستلزم الإحاطة به سبحانه، فهي رؤية لا يدرك فيها أهل الجنة الله تعالى، كما قال تعالى: {لا تدركه الأبصار} سورة الأنعام: 103 ، قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - مفسرا هذه الآية: لو أن الملائكة والإنس والجن والشياطين، منذ خلق الله الخلق إلى آخر واحد منهم، صفوا صفا واحدا، ونظروا إلى الرب لما أحاطوا به (أخرجه ابن أبي حاتم، وقال عنه الذهبي في «الأحاديث المختارة» (1/ 28): «واه, وكأنه موضوع».) ، فكيف يحيط به نظر واحد من خلقه؟! وقول الله تعالى: {لا تدركه الأبصار}، نفي للإدراك والإحاطة، وليس نفيا للرؤية، فإن الإنسان قد ينظر إلى أشياء لا يدركها، إما لعظم خلقها، وإما لكثرتها واتساع أطرافها، أو غير ذلك. فمن نظر إلى الشمس، فإنه يراها لكنه لا يدركها، فلا يلزم من نفي الإدراك نفي الرؤية، بل يستلزم إثباتها، فإن نفي الأخص وهو الإحاطة، يستلزم إثبات الأعم، إذ لو كان الأعم منتفيا، لكان نفي الأخص قصورا في المعنى، فإن نفي الإدراك نفي للإحاطة فقط. وقد نفى الله تعالى إحاطة الخلق به، حيث قال: {ولا يحيطون به علما} (سورة طه: 110.) . فتقصر علوم العباد وقدراتهم عن أن تحيط بالله تعالى أو بصفاته، فهو الكبير الواسع العظيم المتعالي.
قوله - رحمه الله -: «ولا كيفية» أي: إن أهل السنة والجماعة، يثبتون رؤية الله تعالى من غير تكييف لذاته، كسائر الصفات، وهذا يبطل شبهات المحرفين من أنه يلزم من إثبات الرؤية أن الله تعالى جسم كخلقه، أو أن يكون متحيزا كخلقه، أو أن يكون له مكان يحويه، فكل ذلك باطل، {سبحانه وتعالى عما يصفون} الأنعام: 100.
قوله - رحمه الله -: «كما نطق به كتاب ربنا جل وعلا» أي: إن دليل أهل السنة والجماعة في اثبات الرؤية، ما تكلم به سبحانه في كتابه وبينه في غير ما موضع من أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة، وأصح ذلك قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة 22 إلى ربها ناظرة} (سورة القمر: 49.) ، كما سيأتي. وقد أضاف الله تعالى النطق إلى كتابه كما في قوله تعالى: {ولدينا كتاب ينطق بالحق} المؤمنون: 62 ، ووجهه أن الكتاب يصدر عنه البيان،
فإنه يعرب عما فيه، كما يعرب الناطق المتكلم، وقد يستفاد هذا المعنى أيضا من قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى 3 إن هو إلا وحي يوحى} (أخرجه ابن أبي حاتم، وقال عنه الذهبي في «الأحاديث المختارة» (1/ 28): «واه, وكأنه موضوع».) ، فهذا يشمل ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة.
قوله - رحمه الله -: {وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة}، هذه الآية أقوى ما يستدل به على إثبات رؤية المؤمنين لله تعالى في الجنة، حيث إن الله تعالى أضاف النظر إلى الوجوه، ومعلوم أن النظر يكون بالوجوه، التي هي محل العينين، وهما آلة النظر والرؤية، ولذلك أضاف النظر إلى الوجه، كما أنه عدى النظر بـ {إلى}، ولا يستعمل النظر معدى بـ «إلى» إلا فيما ينظر بالعين. ومما يدل على أن المراد بالنظر، النظر إلى وجه الله تعالى، ما ذكره الله تعالى من نضارة الوجوه الناظرة إلى وجهه الكريم. ومما يستدل به على رؤية المؤمنين لله تعالى، قول الله تعالى في نعيم أهل الجنة: {على الأرائك ينظرون} (سورة المطففين: 23.) ، فإن السلف فسروها بالنظر إلى الرب - سبحانه وتعالى -. ومثله أيضا قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (سورة يونس: 26.) ، فالزيادة فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - برؤية أهل الجنة لله تعالى كما تقدم، وكذلك قول الله تعالى: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} (سورة ق: 35.) ، فقد فسرها علي بن أبي طالب وأنس بن مالك – رضي الله عنهما -:بأنها النظر إلى وجه الله تعالى، حيث جاء عنهما تفسير المزيد: أنه تجلي الله تعالى لعباده المؤمنين، وأما أهل التحريف الذين يحرفون الكلم عن مواضعه فيقولون: إن معنى قوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} أي: منتظرة، تنتظر فضل الله ورحمته (نقل هذا القول شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (20/ 34) ونسبه إلى مجاهد وأبي صالح. ، كما يقول المنافقون لأهل الإيمان: {انظرونا نقتبس من نوركم} (سورة الحديد: 13.) ، فيقال: إن تفسير النظر بالانتظار في هذا السياق لا يستقيم؛ لوجوه:
أولا: أن الله - جل وعلا - ساق هذه الآية بيانا للنعيم الذي أعده لعباده المؤمنين، ومعلوم أن الانتظار إيلام، وليس تنعيما.
ثانيا: أنه لا يمكن أن يكون معنى قوله تعالى: {ناظرة} منتظرة؛ لأنه عداها بـ {إلى} الدالة على أن النظر للعين.
ثالثا: أن النظر أضيف إلى الوجه، حيث قال: {وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة}، ومعلوم أن الانتظار لا يختص بالوجه.
فتبين من ذلك صحة ما قاله سلف الأمة وأئمتها، من أن النظر في قوله تعالى: {إلى ربها ناظرة}، هو النظر إلى الرب - جل وعلا-.
قوله - رحمه الله -: «وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه» أي: إن بيان آية إثبات رؤية المؤمنين لله تعالى ومعناها موافق لما أراده الله تعالى من فهم المعنى فنفهم معنى الرؤية ونجريه وفق ما تقتضيه اللغة ومضى عليه سلف الأمة، فهذا القدر من التفسير لابد منه لفهم كلام الله تعالى وتدبر آياته؛ أما الإحاطة بكيفية ذاته وصفاته فذلك مما لا ندرك حقيقته، وهو مما اختص الله تعالى به، كما قال: {وما يعلم تاويله إلا الله} (سورة آل عمران: 7.) .
قوله - رحمه الله -: «وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال» أي: إن أهل السنة والجماعة يثبتون كل ما صحت به الأحاديث، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مثل ما جاء به الخبر، عمن لا ينطق عن الهوى، قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: "آمنت بالله وما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " («لمعة الاعتقاد» ص (7) .
قوله - رحمه الله -: «ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا» أي: إن تفسير ما جاء من الأحاديث وبيانه هو على ما قصد، ويفهم ذلك كله وفق ما جرى به اللسان العربي المبين، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فلا نخوض في ذلك بتحريف الكلم عن مواضعه، الذي يسميه أصحابه تأويلا لدفع ما توهموه من المعاني الفاسدة" فإن المعاني: تنقسم إلى حق وباطل. فالباطل: لا يجوز أن يفسر به كلام الله، والحق: إن كان هو الذي دل عليه القرآن فسر به"، بل "لا بد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يفهم كلامه؟، فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله بقوله ومراد رسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني؛ فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب؛ فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه ولا يكون الأمر كذلك" ("مجموع الفتاوى" (7/ 116) ، بل هي تخيلات فاسدة، تمليها الأهواء المنحرفة والآراء المضلة، قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (سورة الشورى: 11.) .
قوله - رحمه الله -: «فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله - عز وجل - ولرسوله صلى الله عليه وسلم » أي: إنه لا يصح دين أحد ولا يعافى إلا بالاستسلام لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، والانقياد لله ولرسوله، وذلك يكون بقبول ما جاء عن الله وعن رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} البقرة:208 ، وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الحشر:7.
قوله - رحمه الله-: «ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه» أي: إن مما تحصل به السلامة في الدين، ويتم به التسليم لله ولرسوله: أن يرد المؤمن علم ما أشكل عليه معرفته وما استغلق عليه فهمه من النصوص ولم يدركه عقله إلى العالم به، فالواجب على المؤمن حال الاشتباه والاختلاط ألا يخوض فيما لا علم له به، كما قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (سورة الإسراء: 36.) ، ومثال ذلك ما ذكر ابن القيم - رحمه الله - في تفسير اسم الظاهر والباطن، فإنه أطال في الكلام عن بيان هذه الأسماء، ثم قال:" فإن ضاق عن ذلك فهمك فجاوزه، على حد قول القائل:
إذا لم تستطع شيئا فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيع (ينظر:: «طريق الهجرتين» ص (46)، و «مدارج السالكين» (2/ 200، 433)
فإن قصر فهم الإنسان عن فهم معاني كلام الله - عز وجل -، لا يسوغ له رده ولا تكذيبه ولا تحريفه، بل الواجب التسليم للنصوص، وقول: «الله أعلم بمراده» ولا يجوز ظن أنه «ليس لها معنى» لكونه اشتبه عليه معناها.
قوله - رحمه الله -: «ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام» أي: إنه لا يستقر إسلام أحد ولا يثبت إلا بأمرين:
الأول: التسليم، وهو الرضا بالحكم والقبول به، وعدم الاعتراض عليه والمعارضة له.
والثاني: الاستسلام، وهو الانقياد لله ولرسوله. فإن من دخل فيما أخبر الله به عن نفسه على وجه المنازعة والمعارضة، لم تثبت له قدم على الحق، بل يزيغ عن الصراط المستقيم، ويقع في مهاوي الضلال. ودليل ذلك قول الله - جل وعلا-: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (سورة النساء: 65.) ، وأكد التسليم بالمصدر تحقيقا له، وأنه لا يحصل تمام الإيمان إلا بالتسليم التام لما جاء عن الله وعن رسوله، وكل من عارض كلام الله
وكلام رسوله بالشبه والعقول الفاسدة والآراء الباطلة لم يحصل له الثبات على الإسلام، ولذا قال السلف: "قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم" (شرح السنة ـ للبغوى (1/ 171) ، وقد روى البخاري عن الزهري، أنه قال: "من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم" ("صحيح البخاري" قبل حديث (7530) .
قوله - رحمه الله -: «فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه، عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان» أي إن من طلب معرفة ما منع من الخوض فيه كطلب معرفة كيفية ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، أو قابل ما أخبر الله به عن نفسه بعدم الرضا والتسليم، وعارض ذلك بعقله كما يفعله المتكلمون، كان جزاؤه أن يحرم خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان، فيقع في أنواع من الاشتباه والشرك، فلا يصح إيمانه، ولا تتم معرفته بربه؛ لأن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان، فرع عن كمال الإيمان بالأسماء والصفات التي بها يعرف ما لله من الكمالات والحقوق، وذلك أن التوحيد يرتبط بعضه ببعض، فالخلل في توحيد الأسماء والصفات يفضي إلى نقص في توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات الدالة على كماله وعظيم قدره - جل وعلا- فإنه ينقص قدر توحيده لربه - سبحانه وتعالى -، ولهذا كان الخلل في أي نوع من أنواع التوحيد، يفضي إلى الخلل في بقية أنواعه.
قوله - رحمه الله-: «فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار"، أي: فيتردد ويضطرب من طلب علم ما حظر عنه، ولم يقنع بالتسليم بما جاءت به النصوص، فهو في أمر مريج، كما قال الله - جل وعلا- عن المكذبين: {بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج} (سورة ق: 5.) ؛ أي: مضطرب، وهاذا شأن كل من كذب بالحق قليلا أو كثيرا، فهم في اضطراب عظيم، قال تعالى في وصف المنافقين: {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} سورة النساء: 143.فهم مترددون بين الكفر والإيمان، وبين التصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار كما قال تعالى: (وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) ، ولأجل هذا التذبذب تجدهم تارة يثبتون ما جاءت به النصوص، وتارة ينفونه، وتارة يؤمنون به، وتارة يردونه، ومن تذبذبهم تجد أحدهم يثبت شيئا في موضع، ثم ما يلبث إلا وينفيه في موضع آخر، وتجد الآخر يثبت شيئا مما أثبته الله لنفسه، وينفي نظيره، بل بعضهم يقول: ونفي هاذا كفر، ثم تجده في موضع آخر يقول بنقيض ذلك، فيثبت ما جعل إثباته كفرا، أو ينفي ما جعل نفيه كفرا، وهاذا غاية الاضطراب والتذبذب، نسأل الله السلامة والعافية. وهاذا حال كل من كذب بالحق كما دلت عليه الآية في قوله: {بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج} (سورة ق: 5.) .
قوله - رحمه الله -: «موسوسا تائها، شاكا زائغا، لا مؤمنا مصدقا، ولا جاحدا مكذبا» وهذه ثمرة المذبذب الذي لم يسلم للنصوص، فإنهم لم يحصلوا علما تطمئن به قلوبهم ولم يدركوا معرفة بالرب - سبحانه وتعالى -، بل هم تائهون شاكون، لم يتحقق لهم تمام إيمان ولا تصديق، ولم يسلموا من اعتراضات الجاحدين المكذبين، ويصف هذا كله ما أنشده الرازي (هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (544هـ – 606هـ) ؛ حيث قال:
نهاية إقدام العقول عقال *** وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا *** وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا (نقل هذه الأبيات عن الرازي شيخ الإسلام ابن تيمية، ينظر:: «مجموع الفتاوى» (4/ 73)
ثم قال:"لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرا في الإثبات: {الرحمن على العرش استوى}: {إليه يصعد الكلم الطيب} وأقرا في النفي: {ليس كمثله شيء}: {ولا يحيطون به علما} ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي" (ونقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على المنطقيين" (321)، و"الفتوى الحموية الكبرى" (193)، و"النبوات" (1/ 304) .
ومثله ما قال الشهرستاني:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها*** وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر ***على ذقن أو قارعا سن نادم (ذكر هذين البيتين الشهرستاني في مقدمة كتابه " نهاية الأقدام" ص (3)، وذكر ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" (2/ 161) أنهما ينسبان لابن سينا.)
ولا عجب، فإن القرآن شفاء الصدور في الشكوك، قال الله تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} (سورة يونس: 94.) ، فمن أعرض عنه تورط في الضلال والحيرة والشك، كحال المتفرقين عن الهدى المعرضين عنه، قال الله تعالى: {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب} الشورى:14.
قوله - رحمه الله -: «لا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم، أو تأولها بفهم» أي: إنه لا يتحقق الإيمان الواجب برؤية المؤمنين لله - عز وجل - في الجنة لمن عبر إلى فهمها بالوهم، وهو الظن الكاذب والخيال الفاسد، أو وصل إلى فهمها بتحريفها عن معناها المتبادر، فالتأويل هنا هو التحريف وصرف الألفاظ عن معانيها دون مسوغ ودليل. فهذان الطريقان الاعتبار بالأوهام والتحريف للألفاظ لا يوصلان إلى مطلوب، ولا يهديان سبيلا، منشأ ذلك كله تمثيل الله بخلقه، لذلك فإن من مثل الله بخلقه وقع في الضلال؛ لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} (سورة الشورى: 11.) ، ومن حرف النصوص عن ظاهرها من غير دليل وقع في الضلال؛ لأن التحريف يفضي إلى تعطيل ما أخبر الله به عن نفسه، فلا يصح الإيمان بالرؤية إلا بالتسليم للنصوص، وإثبات الرؤية على ما أثبتها الله لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
قوله - رحمه الله -: «إذ كان تاويل الرؤية وتاويل كل معنى يضاف إلى الربوبية بترك التاويل، ولزم التسليم وعليه دين المرسلين» هذا تعليل للجملة قبله، والمعنى أن تفسير الرؤية، وكل ما أضافه الله إلى نفسه من الأسماء والصفات، إنما يصح ويستقيم ويفهم بأمرين:
الأول: ترك التأويل المذموم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه، فيكون المؤلف - رحمه الله - قد استعمل كلمة التأويل في معنييها؛ إذ التأويل في الأصل بمعنى التفسير، ويطلق أيضا ويراد به التحريف، وهو صرف الكلام عن معناه المتبادر إلى معنى مرجوح يحتمله النص، من غير دليل يوجبه، وهذا هو التأويل المذموم، وهو تحريف للكلم عن مواضعه، وقد ذمه القرآن في مثل قوله تعالى: {يحرفون الكلم عن مواضعه} (سورة النساء:46.) ، فالتأويل الذي ينبغي أن تفسر به النصوص ما جاء عن السلف أو دل عليه الدليل، وأما التأويل الفاسد الذي يسميه أصحابه تأويلا فهو تحريف وضلال وباطل.
الثاني: دوام قبول خبرالله وخبر رسوله دون معارضة أو رد، فإن لزوم التسليم للأخبار يسلم به العبد من الانحراف والضلال، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم للنصوص وانقاد لها.
قوله - رحمه الله -: «وعليه دين المرسلين» أي: إن ترك التأويل المذموم الباطل المنحرف، ولزوم التسليم هو الذي جرى عليه دين المرسلين، كما قال الله تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا} (سورة النساء: 125.) ، وكما قال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} (سورة البقرة: 285.) ، وكما قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} (سورة الشورى: 13.) .
قوله - رحمه الله -: «ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه» ولما ذكر المؤلف البدعتين الرئيستين فيما يتعلق بالأسماء والصفات وهما: بدعة التمثيل، وبدعة التأويل المذموم شرع في بيان خطورة التورط في إحداهما، فقال: إن من لم يجعل وقاية بينه وبين تعطيل الله عما أخبر الله تعالى به عن نفسه وماأضافه إليه من المعاني وبينه وبين تمثيل الله تعالى بخلقه، فإنه يخرج عن الصراط المستقيم ولا يبلغ المراد من تنزيه الله - عز وجل - وتعظيمه، وهاذا طريق المؤولة أهل التحريف والتعطيل، سواء أكان تعطيلا كليا كالجهمية، أم جزئيا كالمعتزلة وبعض مثبتة الصفات. وهي إحدى البدعتين في باب الأسماء والصفات. والبدعة الأخرى التشبيه الذي يفضي إلى التمثيل. فإن تقديس الله تعالى وتنزيهه لايتحقق إلا بالوقوف على كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله - عز وجل - غيب، والغيب لا سبيل إلى إدراكه إلا بالوحي، وفي هذا إبطال لشبهة المحرفين التي تسلطوا بها على النصوص تحريفا وتعطيلا، بدعوى تنزيه رب العالمين. ويقال لهم أيضا: إنكم لن تنفوا شيئا مما جاء في الكتاب والسنة مما أخبر الله به عن نفسه أو أخبر عنه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فرارا من محذور تخيلتموه لازما للنصوص إلا لزمكم نظير ما فررتم منه، أو ما هو أعظم (ينظر: «مجموع الفتاوى» (3/ 24) .
فالذين ينفون الرؤية تنزيها لله عن أن يكون في جهة، أو عن أن يكون جسما كما يزعمون؛ لأن لازم الرؤية عندهم أن يكون جسما، يقال لهم: أنتم فررتم من لوازم افترضتها أذهانكم من كون الرؤية تستلزم أن يكون جسما، وأن يكون في جهة تحويه، ووقعتم فيما هو أعظم من ذلك، وهو تشبيهه بالعدم؛ لأن الذي لا يرى هو العدم، والعدم أقل شأنا من الموجودات، فالموجودات أكمل من العدم، وهكذا فإنهم ما فروا من باطل إلا ووقعوا في باطل أعظم منه.
قوله - رحمه الله -: «فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية» أي إن الله تعالى من صفاته الوحدانية، وهي مأخوذة من اسم الله الواحد، قال تعالى: {إن إلهكم لواحد} (سورة الصافات: 4.) ، وقال: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} (سورة يوسف: 39.) ، وقد وصف نفسه بأنه واحد فقال: {إلهكم إله واحد} (سورة النحل: 22.) ، وقال سبحانه: {إنما الله إله واحد} (سورة النساء: 171.) ، فالله - سبحانه وتعالى - واحد في أسمائه وفي صفاته، وفي أفعاله، وفيما يجب له، فهو واحد - سبحانه وتعالى - لا شريك له، لكماله جل في علاه، فإن الكمال المطلق لا يكون إلا في الوحدانية، فإن الاشتراك نقص.
وبعض أهل العلم يقول: إن الوحدانية مأخوذة من اسم الله - عز وجل - الأحد، وهذا صحيح من حيث المعنى؛ فإن الأحد يدل على الانفراد، وهو من أسماء الوحدانية الجامعة للتنزيه والتحميد، بل هو أبلغ في إثبات الوحدانية من اسم الواحد، لكن من حيث النظر إلى قواعد الاشتقاق، فإن النسبة إلى الأحد هي الأحدية، لا الوحدانية، والأمر في هذا قريب.
قوله - رحمه الله -: «منعوت بنعوت الفردانية» أي إن الله تعالى موصوف بالفردانية، فالنعت هو الوصف في قول أكثر العلماء، وفرق بعضهم بينهما. والفردانية مأخوذة من الفرد، والفرد ليس من أسماء الله - عز وجل -، فإنه وصف لم يرد بهذا الاسم في الكتاب ولا في السنة، لكنهم قالوا: إنه مأخوذ من معنى قوله تعالى: {الله الصمد 2 لم يلد ولم يولد 3 ولم يكن له كفوا أحد} (سورة الإخلاص: 3.) ، وهذا يدل على أنه فرد، فقد تفرد - جل وعلا- عن الأصول فلم يتفرع عن شيء، وتفرد عن الفروع فلم يتفرع عنه شيء، وقيل: بل هذا الوصف مأخوذ من اسمي الواحد الأحد، فالفرد "هو الذي لم يزل وحده، ولم يكن معه آخر، المتفرد في ذاته وصفاته وأفعاله وربوبيته وإلهيته" (زاد ا لمعاد (4/ 181) .
قوله - رحمه الله -: «ليس في معناه أحد من البرية» أي إن الله تعالى لا يماثله أحد من خلقه، في شيء من أسمائه أو صفاته أو أفعاله، وقد كرر المؤلف- رحمه الله - تقرير نفي التمثيل؛ لكون هاذا من أعظم ما يسلم به الإنسان في باب الأسماء والصفات؛ فإن المعطل إنما عطل لما اعتقد أن ما دلت عليه النصوص في باب الأسماء والصفات إنما هو تمثيل لصفات الرب - جل وعلا- بصفات العبد، فعطل ما أخبر الله به عن نفسه فرارا من التمثيل الذي توهمه، وكذلك الممثلة وقعوا في هذه البدعة بعدما توهموا دلالة النصوص على تمثيل الخالق بخلقه، فبدعة التمثيل أصل الضلالات في باب الأسماء والصفات.
قوله - رحمه الله -: «تعالى عن الحدود والغايات» أي إن الله تقدس وعلا عن الحدود والغايات. وقد قال بعض الشراح: إن هذه الجملة ليست من كلام الطحاوي، وذلك أنه - رحمه الله - سائر في باب الأسماء والصفات على عقيدة أهل السنة والجماعة. وما ذكره من نفي الحدود والغايات والأركان والأعضاء عن الله تعالى نفي مفصل، لم يأت بلفظه كتاب ولا سنة، ولم يقل به سلف الأمة، وطريقة السلف في هذه الألفاظ المجملة التي تحمل حقا وباطلا أن يتوقف فيها من حيث اللفظ، فلا يصح إطلاقها نفيا ولا إثباتا؛ أما من جهة المعنى فيستفصل فيثبت ما دلت عليه من معنى صحيح، ويرد ما دلت عليه من معنى فاسد، وهاذا منهج يسلم به الإنسان من أن يتورط في ألفاظ ظاهرها التعظيم للرب - جل وعلا-، وباطنها نفي ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تعقب شيخنا عبد العزيز بن باز- رحمه الله - الطحاوي - رحمه الله - وقال:" إن هاذا الكلام رديء، ولكنه محمول على معنى صالح؛ لأن المؤلف - رحمه الله - من أهل السنة والجماعة، وكلامه يفسر بعضه بعضا، فما أجمله في هاذا المكان يفسره في هذه العقيدة التي بين فيها إثبات ما أثبته الله لنفسه من الصفات" (ينظر: "تعليقات ابن باز على الطحاوية" ص (5)) .
وقوله: «تعالى عن الحدود» أي: تنزه وتقدس عن الحدود، والحدود جمع حد، وهو غاية الشيء ومنتهاه. وقد ورد عن السلف إثبات الحد لله تعالى ونفيه، ولكل من النفي والإثبات معنى صحيح؛ فحيث نفوا فالمراد أن الله تعالى منزه عن أن يدرك العباد حقيقة صفاته، وأن يحيطوا بما أضافه الله تعالى لنفسه من المعاني، فإن الله تعالى أعظم وأجل من ذلك، قال تعالى: {ولا يحيطون به علما} (سورة طه: 110) ، قال الإمام أحمد: "نؤمن أن الله على العرش، بلا كيف ولا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده حاد" ("درء تعارض العقل والنقل" (2/ 30) ، وقال أيضا: "لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية، فنفى أن يدرك له حد أو غاية" ("درء تعارض العقل والنقل" (2/ 33) وينظر: " العرش" للذهبي: ص (257) ، وقال ابن تيمية:"أهل العقول هم أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه" ("مجموع الفتاوى" (3/ 33) ، وعلى هذا المعنى الصحيح يحمل كلام المؤلف - رحمه الله -. وأما ما جاء في كلام السلف من إثبات الحد لله تعالى فمرادهم أن الله تعالى بائن من خلقه غير حال في شيء منهم، ولهذا لما قيل لعبد الله بن المبارك: "بم تعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، قيل: بحد؟ قال: بحد". وقد قال الإمام أحمد لما سئل عن كلام ابن المبارك:"هكذا هو عندنا" (العرش" للذهبي: ص (252) .، وقد نقل مثل ذلك
عن إسحاق بن راهويه؛ حيث قال: هو على العرش. قيل: بحد؟ قال: نعم بحد" (بيان تلبيس الجهمية" (4/ 161) ، فالسلف - رحمهم الله - أثبتوا الحد في صفات الله تعالى، في معناه الصحيح، وهو إثبات الصفات على وجه يتميز به عن غيره ويبين، فهو – سبحانه - بائن من خلقه، غير حال في شيء منهم، وقد استدل لذلك الإمام أحمد، لما سأله رجل فقال: لله تعالى حد؟ فقال: نعم، لا يعلمه إلا هو تبارك وتعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش} الزمر: 75 يقول: محدقين (بيان تلبيس الجهمية" (2/ 464) .
وقوله: «والغايات» أي: إن الله تعالى تنزه عن النهايات، فالغاية لغة نهاية الشيء، وهذا كلام مجمل يحتاج إلى استفصال، فإن كان المراد أن الله تعالى ليس لصفاته نهاية يدركها الخلق ويعلمونها، فهذا صحيح، فالله منزه عن أن يحيط به عباده، بل العباد عاجزون عن أن يحيطوا بشيء من صفاته كما قال تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه} (سورة البقرة:255.) ، فهم أعجز عن أن يحيطوا به من باب أولى، كما قال تعالى: {ولا يحيطون به علما} (سورة طه: 110.) ، وهكذ ا إن كان المراد بهذا النفي تنزيه الله تعالى عن أن تكون لأفعاله وأحكامه علة وحكمة يفتقر إليها فهذا معنى صحيح؛ فإن الله تعالى هو الغني الحميد، كما قال - جل وعلا-: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون 56 ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} (سورة الذاريات: 56 - 57.) ، فنفى الله - سبحانه وتعالى - افتقاره إلى عباده. أما إن كان المراد بنفي الغايات نفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه وتعطيلها عن مقاصدها وحكمها، فهذا معنى باطل غير صحيح، فقد توافرت النصوص دلالة على إثبات حكم ا لله وتعليل أفعاله وأحكامه الكونية والشرعية والجزائية.
قوله - رحمه الله -: «والأركان» أي: إن الله تعالى منزه عن الجوارح والأجزاء التي هي نظير ما للمخلوقين، فالأركان جمع ركن، وهو جانب الشيء الأقوى، ومنه إطلاق الأركان على الجوارح.
قوله - رحمه الله -:"والأعضاء"، أي: إن الله تعالى منزه عن الجوارح والأطراف، كاليد، والقدم، والوجه، ونحو ذلك على وجه يماثل ما للمخلوقين، فالأعضاء جمع عضو وهو جزء الشيء.
قوله-رحمه الله-:"والأدوات"، أي: إن الله منزه عن الحاجة إلى الأدوات والآلات التي تجتلب بها المنافع وتدفع المضار، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فالأدوات جمع أداة، وهي الآلة التي تجلب بها المنافع وتدفع المضار. وكل هذا نفي مفصل لم يرد في الكتاب ولا في السنة، وهو يحتمل حقا وباطلا، فالواجب عدم إطلاق
نفيه وعدم إطلاق إثباته، هذا من حيث اللفظ، أما من حيث المعنى، فالواجب الاستفصال؛ لأن نفاة الصفات يستعملون هذه الألفاظ لنفي ما أثبته الله تعالى لنفسه من صفات الكمال اللائق به، كاليد والوجه ونحو ذلك من الصفات الخبرية الثابتة بالأدلة القطعية فما ذكره المؤلف هنا يجب حمله على ما جرى عليه عقد سلف الأمة وفقهاء الملة الذين ذكر في هذا المتن عقيدتهم، فقد قال الإمام أبو حنيفة النعمان في الفقه الأكبر: "له يد ووجه ونفس كما ذكر تعالى في القرآن" ("الفقه الأكبر" ص (27) ، لكن لا يسمى ما أخبر الله تعالى به عن نفسه من اليد والوجه ونحو ذلك أبعاضا ولا أجزاء ولا أعضاء ولا جوارح ولا غير ذلك من الأسماء التي لم يرد به كتاب ولا سنة وتحتمل معنى باطلا.
قوله - رحمه الله -: «لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات» أي: إن الله تعالى منزه عن أن تحيط به الجهات الست، وهي: فوق، وتحت، وأمام، وخلف، ويمين، ويسار، كما تحيط بالمخلوقات، وهذا نفي مفصل كسابقه، يحتمل معنى صحيحا، وهو أن الله تعالى منزه عن أن يكون في شيء من خلقه، فهو الكبير المتعال المحيط بكل شيء سبحانه، كما قال: {وكان الله بكل شيء محيطا} (سورة النساء: 126) . ويحتمل معنى فاسدا، وهو نفي العلو عن الله. ولهذا ينبغي ترك إطلاق هذه الألفاظ المجملة التي تحتمل حقا وباطلا. فطريق الأئمة فيها الاستفصال، فما صح من المعاني يثبت، وما لم يصح من المعاني يرد.
أما من حيث الألفاظ: فإننا لا نثبت ولا ننفي، بل نتوقف فيها كما سبق.