قوله - رحمه الله-: «وإن محمدا عبده المصطفى» تقرير لركن الشهادة الثاني، وهو الشهادة للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة، فلا يستقيم إيمان ولا يصلح إسلام إلا بالإقرار لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة. ولذلك فإن أهل السنة والجماعة، يعتقدون ويقرون بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، عبد لله تعالى، خاضع له مستسلم لأمره منقاد لحكمه، والعبد في الأصل صفة إلا أنه قد يستعمل استعمال الأسماء ("لسان العرب" (3/ 273) ، وقد ذكر المصنف هذا الوصف في أول ما وصف به النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم - ترقيا في أوصافه، ولأنه الوصف الذي كان يبتدئ به النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذكر أوصافه، ففي كتابه لهرقل، قال - صلى الله عليه وسلم -: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم» (أخرجه البخاري (7) ومسلم (1763) ، وهو الوصف المقدم ذكرا في الشهادة كما في "الصحيحين"، من حديث عبادة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، ... إلخ)) (أخرجه البخاري (3435) ، ومثله ما في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» (أخرجه البخاري (3445) .
وهو الوصف الذي اختاره النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خير كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة، قال: «جلس جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنظر إلى السماء، فإذاملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يامحمد، أرسلني إليك ربك: أفملكا نبيا يجعلك، أو عبدا رسولا؟ فقال جبريل: تواضع لربك يا محمد قل: بل عبدا رسولا» (أخرجه أحمد (2/ 231) . ولقد وصف النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بالعبودية، وهي من أكمل أوصافه وأعظمها، ولهذا ذكره الله تعالى في أشرف مقامات النبي - صلى الله عليه وسلم - (ينظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 152) ؛ فوصفه الله بالعبودية في مقام الإسراء به، فقال: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} سورة الإسراء: 1 ، ووصفه بالعبودية في مقام الدعوة، وهو من أشرف مقامات النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} (سورة الجن: 19.) ، ووصفه بالعبودية في مقام تصديق ما جاء به، وتحدي المكذبين له، فقال: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله} (سورة البقرة: 23.) ، ووصفه بالعبودية في مقام الإيحاء إليه في ليلة المعراج، فقال: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} (سورة النجم: 10.) . فدل ذلك على أن العبودية من أعظم أوصافه - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي استوجب به تلك الفضائل.
أما وصفه - صلى الله عليه وسلم - بالمصطفى فهو بيان لما خص الله - عز وجل - به
عبده ورسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - من الاصطفاء، فهو خيار من خيار - صلى الله عليه وسلم -، والاصطفاء افتعال، وأصله اصتفى، لكن الصاد إذا جاءت بعدها التاء فإنها تقلب إلى طاء، وهذا مطرد، وهو بمعنى التفضيل والاختيار (ذكر في «المعجم الوسيط» (1/ 518): «اصطفاه: فضله واختاره».) . والاختيار حق لله - عز وجل - لا منازع له فيه، قال - سبحانه وتعالى -: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون} سورة القصص: 68 ، فنفى الله تعالى الخيرة عن غيره، فلا منازع له فيها، بل هو المنزه عن أن يشاركه في اختياره أحد، فالله تعالى اصطفى من خلقه ما شاء زمانا ومكانا وأعيانا وأحوالا؛ فمن الزمان الجمعة ورمضان والأشهر الحرم وأشهر الحج، ونحو ذلك. ومن المكان مكة والمساجد وعرفات، ونحو ذلك، ومن الأعيان الأنبياء والرسل والملائكة، كما قال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} سورة الحج: 75 ، وقال: {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى} سورة النمل:59 ، وأعلى المصطفين من الخلق منزلة وشرفا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فله من الاصطفاء ما ليس لغيره من الخلق، فهو صفوتهم بالإجماع، وقد قال عمر بن الخطاب في وصف النبي: «وأنت رسول الله وصفوته» ("صحيح مسلم" (1479) ، وفي الصحيح من حديث واثلة بن الأسقع، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» ("صحيح مسلم" (2276) .
قال الناظم:
فهو ختام الرسل باتفاق *** وأفضل الخلق على الإطلاق (ينظر: "معارج القبول شرح سلم الوصول" (1/ 43)
قوله - رحمه الله -: «ونبيه المجتبى» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون ويقرون بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - نبي الله، والنبي مأخوذ من النبأ، بمعنى الخبر، أو النبوة بمعنى الشيء المرتفع، وكلاهما صادق على النبي؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن الله، وهو رفيع المكانة في الخلق بما خصه الله. وأما دلائل نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فأكثر من أن تحصر، وقد ألف فيها مؤلفات، من أشهرها ما كتبه البيهقي في دلائل النبوة، وقد ذكر النبوة قبل الرسالة؛ لأنها السابقة حصولا، ولأنها الوالية لمنزلة العبودية، فترقى في ذكر مراتبه - صلى الله عليه وسلم -. أما المجتبى فهو المختار المصطفى، مأخوذ من الاجتباء، فالاجتباء والاصطفاء معناهما متقارب (لسان العرب: (14/ 128) ، وهو اختيار يقتضي التفضيل، وقيل: بل الاصطفاء أعلى من الاجتباء، فكل ما ورد في الاصطفاء دال على الاجتباء.
قوله - رحمه الله -: «ورسوله المرتضى» أي: إن أهل السنة والجماعة، يعتقدون أن محمدا رسول أرسله الله بالهدى ودين الحق، فالرسول فعول بمعنى مفعول، أي: مرسول، وهو مأخوذ من أرسل يرسل إرسالا، وهو بعث الشيء. أما في الشرع فهو من أوحى الله إليه بشيء، وأمره بتبليغه، والرسالة أعلى منازله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون المؤلف قد تدرج في ذكر أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم تدرجا رتبيا، فبدأ بالعبودية، ثم انتقل إلى النبوة، ثم انتقل إلى الرسالة. وقد وصفه الله بأنه رسوله، فقال: {محمد رسول الله} (سورة الفتح:29.) ، وأمره بتبليغ ذلك فقال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} (سورة الأعراف:158.) . أما المرتضى فهو الذي كملت أوصافه وخصاله، فكان أهلا للرسالة كما قال تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} (سورة الأنعام: 124.) ، والمرتضى اسم مفعول من ارتضي على وزن مفتعل، والرضا يدل على القبول وعدم السخط، وهذا وصف من أوصاف الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم – ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظمهم نصيبا في ذلك، فإنه صفوة الله من خلقه، فهو مرضي من رب العالمين، قال الله: {إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا} (سورة الجن:27.) . ولذلك خصه - سبحانه وتعالى - بما لم يخص به غيره، وعلى كل حال الارتضاء هنا فيه معنى زائد على الاصطفاء والاجتباء؛ فهو اصطفاء واجتباء وزيادة.
فالاصطفاء والاجتباء والارتضاء متقاربة في المعنى، ولكل منها معنى يخصه ويميزه عند الاجتماع في مثل هذا السياق.
قوله - رحمه الله -: «وإنه خاتم الأنبياء» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن محمدا خاتم الأنبياء وآخرهم. فالخاتم هو الذي لا يأتي بعده شيء، وبلغ آخر الشيء ونهايته (ينظر: و «لسان العرب» (12/ 163)، و «تهذيب اللغة» (7/ 137)، وفيه: «وخاتم كل شيء: آخره».) ، ومنه قوله تعالى: {ختامه مسك} (سورة المطففين: (26) ، أي إن آخر ما يجدونه منه عند شربهم إياه رائحة المسك، فالله - عز وجل - ختم النبوات بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا نبي بعده، كما قال تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} (سورة الأحزاب: (40) . وقد جاء تقرير ختم النبوة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه عديدة: فمنها: إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأنه خاتم النبيين، ووصفه من يدعي النبوة بالكذب والدجل، ففي السنن من حديث ثوبان مرفوعا «إنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي» (أخرجه أبو داود (4252)، وابن ماجه (3952)،والترمذي (2219)، وقال عنه: " حسن صحيح".) ، فاستدل النبي - صلى الله عليه وسلم - على تكذيب هؤلاء في دعوى النبوة بأنه خاتم النبيين، كما صرح بذلك في آخر الحديث إثباتا ونفيا؛ إثباتا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وأنا خاتم النبيين»، ونفيا بقوله: «لا نبي بعدي». وقد ذكر ذلك في جملة خصائصه - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها ضرب الأمثال له كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة! قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» (أخرجه البخاري (3535)، ومسلم (2286) . فكان النبي - صلى الله عليه وسلم -، هو اللبنة التي كملت بها النبوة وختمت. فقد جاء في بعض روايات حديث: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي» (أخرجه البخاري (438)، ومسلم (521) ، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فضلت على الأنبياء بست»، وذكر آخرها: «وختم بي النبيون» (أخرجه مسلم (523) . ومنها: أسماؤه - صلى الله عليه وسلم -، فإن من أسمائه: «العاقب»، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - هاذا الاسم، كما في صحيح مسلم من حديث جبير بن مطعم، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: «والعاقب الذي ليس بعده نبي» (أخرجه مسلم (2354) . هذه بعض الأدلة على ختم النبوة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وغيرها كثير. فإن قيل: ختم النبوة به صلى الله عليه وسلم لا يستلزم ختم الرسالة؟ فالجواب: أنه ما من رسول إلا ولا بد أن يكون نبيا، فالرسالة مرتبة أعلى من النبوة، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، فإذا ختم الله بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم النبوات، كان ذلك دليلا على أنه خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم .
قوله - رحمه الله -: «وإمام الأتقياء» أي: إن أهل السنة والجماعة، يعتقدون أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم مقدم الأتقياء، وقدوتهم، فالإمام هو المقدم في الشيء، والمقتدى به. والأتقياء جمع تقي، وهو من جعل بينه وبين عذاب الله وقاية، وهذا صادق على كل مسلم؛ فإن الإسلام أعظم وقاية يتقي بها الإنسان عذاب الله وسخطه، والتقوى مراتب ودرجات، فلكل مسلم نصيب منها. فالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إمام لأهل الإسلام جميعا، قدوة الأتقياء ومقدمهم، يدل له قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم، عن عمر بن أبي سلمة: « ... والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له» (أخرجه البخاري (5063) . فالنبي صلى الله عليه وسلم أقسم أنه أتقى الأمة، فهو مقدمهم. كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - محل الأسوة للأتقياء، فبه يتأسون ويقتدون، وعن قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله يصدرون قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} (سورة الأحزاب: 21.) ، وقال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (سورة آل عمران: 31.) .
قوله - رحمه الله -: «وسيد المرسلين» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - سيد المرسلين. والسيد هو من جمع كل خصال الخير وحصل أعلى صفاته، فلا يقال في شيء إنه سيد إلا إذا امتاز باجتماع خصال شرف ذلك الشيء وفضله فيه. والمرسلون جمع مرسل، وهو كل من جعله الله واسطة بينه وبين خلقه في تبليغ دينه وشرعه من بني آدم. والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، سيد المرسلين، فقد جمع الله تعالى له خصال الخير وصفات البر، وخصائص الفضل التي تفرقت في غيره. ويدل لذلك ما رواه البخاري، من حديث أبي هريرة: «أنا سيد القوم يوم القيامة» (أخرجه البخاري (3340)، ومسلم (2278) .وقد ورد إثبات السيادة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مطلقا، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع» ("صحيح مسلم" (2278) . وأما تخصيص المؤلف السيادة بالمرسلين، فذلك لأنهم صفوة ولد آدم، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم سيدا للمرسلين، فهو سيد لمن سواهم، من طريق الأولى، على أن الأكمل أن يوصف صلى الله عليه وسلم بما وصف به نفسه؛ لأنه أوسع معنى ومدلولا، فهو سيد ولد آدم؛ المسلم والكافر، البر والفاجر، ووجه تخصيص السيادة بيوم القيامة؛ لأنه اليوم الذي يظهر الله فيه مكانته وفضله؛ حيث يتخلى آدم وأولو العزم من الرسل عن الشفاعة، ولا يجدون من يقوم بها، إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
قوله - رحمه الله -: «وحبيب رب العالمين» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - محبوب رب العالمين، فحبيب: فعيل بمعنى مفعول. والثابت للنبي - صلى الله عليه وسلم - من معاني المحبة أعلاها، فهو خليل رب العالمين. والخلة مرتبة أعلى من المحبة، فهي الغاية والمنتهى في مراتب المحبة، وهي أخص من مطلق المحبة، وتخصيصها من وجهين: الوجه الأول: أن الخلة تكون محبة لذات الشيء، أي: محبة ليست لغرض إلا لكون المحبوب مستحقا للمحبة. الوجه الثاني: أن الخلة تمنع الشركة، فلا شركة في الخلة، بخلاف المحبة فإنها تقبل الشركة. وهاذان الوجهان واضحان من قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا» (أخرجه مسلم (532) ، أي: صيرني خليلا له، فهو خليل الرحمن، لذلك تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من كل خلة؛ لأن الخلة لا تقبل الشركة، ولأن المحبوب - سبحانه وتعالى - محبوب لذاته، هاذا ما اختصت به الخلة. والخلة تكون من العبد لربه، ومن الرب لعبده، فما كان من العبد للرب فهو حب يستلزم كمال العبودية لله (ينظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (10/ 203) . وما كان من الرب للعبد فهو حب يستلزم كمال معاني الربوبية لعبده من الرزق وحسن التدبير والهداية والنصر والتأييد والإعانة والتوفيق والإثابة، وغير ذلك. وقال بعض العلماء: إن المحبة مرتبة أعلى من الخلة. واستدلوا بحديث ضعيف: «إن إبراهيم خليل الله ... وأنا حبيب الله ولا فخر» (أخرجه الترمذي (3616)، وقال: «حديث غريب».)
، ولا يصح في هذا المعنى شيء، بل الخلة أعلى درجة من المحبة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : «فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» (تقدم تخريجه.) .
قوله - رحمه الله-: «وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن كل ادعاء للنبوة بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فهي صادرة إما عن غي، وهو ضد الرشد، وهو جهل عن اعتقاد فاسد (ينظر: «الصحاح» (6/ 2450)، و «لسان العرب» (15/ 140)) . وإما عن هوى: وهو ميل عن الحق وخروج عن الهدي. فالهوى ما تشتهيه النفس وتميل إليه، مأخوذ من هوي يهوى: إذا مال إلى الشيء والتذ به وانجذب إليه وغلب استعماله في الميل المذموم؛ ولذا سمي أهل البدع أهل الأهواء (ينظر: «الصحاح» (6/ 2538)، و «لسان العرب» (15/ 371) ، فادعاء النبوة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقاد فاسد، وميل عن الصراط المستقيم، وانحراف عن الطريق القويم، فقد ختم الله بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - النبوات، كما تقدم تقريره.
وقوله - رحمه الله -: «وهو المبعوث إلى عامة الجن، وكافة الورى» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله أرسل النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم - لجميع الجن والإنس، فرسالته - صلى الله عليه وسلم - عامة لكل أحد من الثقلين، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم ، وأدلة ذلك كثيرة متنوعة، فمن ذلك قول الله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} (سورة الأعراف: 158.) ، وقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} (سورة سبأ: 28.) ، وقوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} (سورة الفرقان: 1.) ،، وقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (سورة الأنبياء: 107.) . وأما السنة فقد جاء في «الصحيحين» من حديث جابر - رضي الله عنه - في ذكر خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ... وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» («صحيح البخاري» (335)، بهذا اللفظ، وعند مسلم (521) بلفظ: «كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود».) .
وهذا يشمل اليهود والنصارى كما دلت على ذلك الأدلة: ومن ذلك: أن الله تعالى أمره بمخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصارى برسالته؛ حيث قال الله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} (سورة آل عمران: 64.) . فكل من لم يستجب لدعوته - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر بالله العظيم، وما يدعيه أهل الكتاب من أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بالعرب أو خاصة بالأميين فهو كذب وضلال، وتكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بعموم رسالته، فمن قال: إنها خاصة بالعرب فقد كذبه فيما أخبر به. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم عموم رسالته ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - حيث قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» («صحيح مسلم» (153) . وهاذا يوجب على كل أحد يبلغه خبر النبي صلى الله عليه وسلم وهديه أن يتبعه، وأن ينقاد له، وأن يشهد له بالرسالة صلى الله عليه وسلم . وأما عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم للجن فقد دل عليها الكتاب والسنة، وأجمع عليها علماء الأمة، فمن أدلة القرآن ما ذكره الله في سورة الجن في مواضع عديدة، منها قوله تعالى: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا (1) يهدي إلى الرشد فآمنا به} (سورة الجن.) ، وكذلك ما ذكره الله - سبحانه وتعالى - في سورة الأحقاف حيث قال - سبحانه وتعالى -: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي}، أي قضي قراءة القرآن وقضي سماعه {ولوا إلى قومهم منذرين} (سورة الأحقاف: 29.) ، أي: منذرين بما سمعوه وما تلقوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم 30 يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به} (سورة الأحقاف: 30 - 31.) . فدل ذلك على وجوب اتباع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ووجوب الانقياد لما سمعوه من القرآن العظيم، وكذلك من أدلة السنة على عموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم للجن ما رواه مسلم من حديث علقمة عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرات عليهم القرآن» («صحيح مسلم» (450) .
قوله - رحمه الله -: «والمبعوث بالحق والهدى، وبالنور والضياء» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم - مرسل بالحق والهدى والنور والضياء، وهذا وصف مطابق لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} (سورة التوبة: 33.) ، فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، فبعث الله - عز وجل - رسوله بالحق في الأقوال والأعمال، والهدى في العلم والاعتقاد، فهو - صلى الله عليه وسلم - الهادي إلى الصراط المستقيم، قال الله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (سورة الشورى: 52.) ، وقال تعالى: {إنك لعلى هدى مستقيم} (سورة الحج: 67.) . وأما كونه نورا فالنور ضد الظلمة، وقد وصف الله تعالى ما جاء به النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه نور في مواضع عديدة؛ منها قوله تعالى: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات} (سورة الأنعام: 122.) ، وقوله تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} (سورة المائدة: 15.) ، وقوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} (سورة النساء: 174.) ، وقوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا} سورة التغابن: 8 ، وغير ذلك من الأدلة.
والنور الذي وصفت به الشريعة والرسالة نور معنوي أنار الله به القلوب فأخرجها به من ظلمات الجهل والشقاء والضلالة إلى نور العلم والسعادة والهداية، هذا في الدنيا. وقد جاء في السنة وصف بعض العبادات بالنور والضياء، كما في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري، قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «الصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء» ("صحيح مسلم" (223) ؛ وأما في الآخرة فلأهل الإيمان أنوار عظيمة بقدر ما يكون معهم من هدي النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادا وعملا، قال تعالى: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم} سورة الحديد:12 . وفي صحيح مسلم من حديث جابر مرفوعا: « ... ويعطى كل إنسان منهم، منافق أو مؤمن، نورا ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تاخذ من شاء الله، ثم يطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون ثم الذين يلونهم كأضوإ نجم فى السماء ثم كذلك ... » («صحيح مسلم» (191) أما الضياء فهو من جنس النور لكنه نور مع حرارة، قال الله: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا} (سورة يونس: 5.) ، فالشمس نور مع حرارة، والقمر نور لا حرارة فيه.
وهكذا ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشرائع؛ فمنه ما هو نور لا حرارة فيه، ومنه ما هو نور فيه حرارة، لكنها حرارة تعقبها سعادة ولذة وطمأنينة، وقيل: الضوء: ما كان نوره ذاتيا، وأما النور: فنوره مستفاد من غيره («معجم الفروق اللغوية» لأبي هلال العسكري: ص(332) .