إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعيِنُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنعوُذُ بِاللهِ مِنْ شروُرِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَليًّا مُرْشِدًا.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيِكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرسوُلُهُ؛ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ، وَعلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقوُا اللهَ تَعالَىَ حَقَّ التَقْوَىَ؛ فَتَقْواهُ - جَلَّ في عُلاهُ – تُخْرجُ الإِنْسانَ مِنْ كُلِّ ضَائِقَةٍ، وَتُبَلِّغُهُ كُلَّ رَغْبَةٍ وَنائِلَةٍ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾الطلاق: 2- 3، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾الطلاق: 4.
الَّلهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ المتَّقيِنَ وَحِزْبِكَ المفْلِحينَ وَأَوْلِيائِكض الصَّالحينَ، يَا رَبَّ العالمينَ.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, خَلَقَ اللهُ الخلْقَ فَأَبْدَعَ في خَلْقِهِ - جَلَّ في عُلاهُ -، بَديِعُ السِّمواتِ وَالأَرْضِ، خَلَقَ الإِنْسانَ في أَحْسَنِ صوُرَةٍ وَفي أَقْوَمِ تَقْويِمٍ، كَما أَقْسَمَ عَلَىَ ذَلِكَ في كِتابِهِ الحكيمِ؛ قالَ تَعالَىَ: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾التين: 1- 4 فيِ أَحْسَنِ صوُرَةٍ وأَجْمَلِ شَكْلٍ وَأَقْوَمِ اعْتِدالٍ، مُسْتَوِي الخِلْقَةِ، كامِلَ الصُّوُرَةِ، خَلَقَهُ اللهُ تَعالَىَ وَأَحْسَنَ صوُرَتَهُ كَما قالَ تَعالَىَ: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾غافر: 64.
وكَما أَنَّ اللهَ سَوَّىَ الصُّوُرَةَ الخارِجَةَ وَالمظْهَرَ وَالشَّكْلَ، فَقَدْ زيَّنَ - جَلَّ في عُلاهُ - الباطِنَ وَالجوْهَرَ، فَأَلْهَمَ النَّفْسَ فُجوٌرَها وَتَقْواها؛ قالَ جَلَّ في عُلاهُ: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾الشمس: 7 فَأَقْسَمَ سُبْحانَهُ بِالنَّفْسِ وَتَسْوِيَتِها، وَالنَّفْسُ هِيَ الرُّوُحُ الَّتِيِ بِها يَحْيا الإِنْسانُ: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾الشمس: 8 أَيْ: مَكَّنَها مِنْ سُلوُكِ طريِقِ الصَّلاحِ وَالهُدَىَ، وَمَكَّنَها مِنْ التَّوَرُّطِ في أَسْبابِ الشَّقاءِ وَالرَّدَىَ، قالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾الشمس: 9- 10 هَذِهِ الآياتُ الكريماتُ شَمَلَتْ الخَبَرَ عَنْ عِنايَةِ اللهِ تَعالَىَ بِالإِنْسانِ صوُرَةً وَمَعْنًى، بَدَنًا وَروُحًا، فَقَدْ كَمَّلَهُ اللهُ تَعالَىَ في صوُرِتِهِ وفي مَظْهَرِهِ كَما كَمَّلَهُ في جَوْهَرِهِ وَباطِنِهِ، فَنَدَبَ العَبْدَ إِلَىَ كُلِّ فَضيِلَةٍ وَمَكَّنَهُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ وَمَكْرُمَةٍ؛ فَمَنِ اهْتَدَىَ فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ تَزكَّىَ فَإِنَّما يَتَزكَّىَ لِنَفْسِهِ.
فَاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَطَيِّبِوُا نُفوُسَكُمْ؛ فَطِيِبُ النَّفْسِ سَعادَةُ الدُّنْيا وَبَهْجَةُ المعاشِ، وَبِهِ يُدْرِكُ الِإنْسانَ انْشراحَ الصَّدْرِ وَطيِبَ القَلْبِ وَصَلاحَهُ، فَطَيِبُ النَّفْسِ هُوَ مَنْ زكَّاها بما أَمَرَهُ اللهُ تَعالَىَ وَقامَ بما شَرَعَ مِنَ الفرائِضِ والواجِباتِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَطيبُ بِهِ النَّفْسُ.
وَطِيبُ النَّفْسِ مِنْ أَعْظَمِ ما يُدْرِكُ الإنْسانُ مِنَ النَّعيمِ في الدُّنْيا، وَبِهِ يَنْعَمُ في الآخِرَةِ؛ خَرَجَ رَسوُلَ اللهِ -صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَىَ أَصْحابِهِ ذاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ أَصْحابُهُ الغِنَىَ، فَقالَ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا بَأْسَ بِالغِنَى لمَنِ اتَّقَىَ» ذَكَروُا الغِنَىَ وَهُوَ كَثْرَةُ العَرَضِ؛ فَقالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا بَأْسَ بِالغِنَىَ لمَنِ اتَّقَىَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -»، ثُمَّ قالَ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالصَّحَّة لمنِ اتَّقَىَ خَيْرٌ مِنَ الغِنَى» موُازَنَةٌ بَيْنَ كَثْرَةِ المالِ وَعافِيَةِ البَدَنِ، قالَ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالصِّحَّةُ لمَنِ اتَّقَىَ» أَيْ: اسْتَعْمَلَ صِحَّتَهُ في طاعَةِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الغِنَىَ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَمَرَةَ طَاعَةِ اللهِ وَتَقْواهُ في المالِ وَالبَدَنِ فَقالَ: «وطِيبُ النَّفْس من النعيم»أخرجه ابن ماجة بإسناد حسن ح(2141), وَلَهُ شَواهِدُطِيبُ النَّفْسِ لا يَكوُنُ إِلَّا بِاسْتِعْمالِ التَّقْوَىَ في المالِ وفي البَدَنِ وفي الصِّحَّةِ وَفي كُلِّ نِعْمَةٍ؛ يِنْتُجُ عَنْ ذَلِكَ طيِبُ النَّفْسِ، وَبِهِ يُدْرِكُ الإِنْسانُ الحياةَ الطَّيِّبَةَ.
وَإِنَّ اللهَ تَعالَىَ قَدْ جَعَلَ مِنْ نَعيمِ أَهْلِ الجَنَّةِ طِيبَ نُفوسِهِمْ؛ قالَ تَعالَىَ: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ﴾يس: 55 وَمَعْنَىَ قَوْلِهِ: ﴿فَاكِهُونَ﴾ أَيْ: طِيِبةٌ نُفوُسِهِمْ؛ فَقَدْ فَسَّرَ جَماعَةٌ مِنْ أَهْلِ العَلْمِ قَوْلَهُ تَعالَىَ: ﴿فَاكِهُونَ﴾ بِأَنَّهُمْ طابَتْ نُفوُسُهُمْ، وَلا رَيْبَ أَنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ قَدْ بَلَغوُا الغايَة فِي الطَّيِّبِ صُوُرةً وَمَعْنًى ظاهِرًا وَباطِنًا، فَالجَنَّةُ طَيِّبَةٌ لا يَدْخُلُها إِلَّا الطَّيِّبوُنَ، الَّلهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ أَهْلِها يا رَبَّ العالميِنَ.
طَيِّبُ الَّنفْسِ - أَيُّها المؤْمِنوُنَ - مَسْروُرُ القَلْبِ، طَيِّبُ النَّفْسِ مُطْمَئِنُّ الفُؤادِ، طَيِّبُ النَّفْسِ مُنْشرِحُ الصَّدْرِ، طَيِّبُ النّفْسِ مُقْبِلٌ عَلَىَ كُلِّ فضيلة، طَيِّبُ النَّفْسِ كافٌّ عَنْ كُلِّ رَذيِلَةٍ، كُلُّ هَذِهِ المعاني يُدْركُها مَنْ طابتْ نَفْسهُ، وَلا سَبيلَ إلىَ طِيبِ النفسِ إِلا بَعملِ العبْدِ بما خُلِقَ مِنْ أجلهِ، وقدْ خُلقَ العبدُ لعبادةِ اللهِ والقيامِ بحقهِ؛ قالَ اللهُ تعالىَ: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾النحل: 97 فجمعَ اللهُ تعالىَ لهمْ فضيلتيْنِ؛ فضيلةً عاجلةً وفضيلةً مؤجلةً؛ العاجلةُ في الدنْيا بالحياةِ الطيبةِ، والمؤجلةُ في الآخرةِ بمضاعفةِ الأجوُرِ التيِ تطيبُ بها النفوسُ وترضَىَ.
أيُّها المؤمنونَ عبادَ اللهِ, إِنَّ المؤمنَ يعيشُ في الدنيا حياةً طيِّبةً، وَلا يعنيِ ذلكَ ألَّا يصيبهُ ما يَكرهُ؛ فإِنَّ الدُّنيا مَجبولةٌ علىَ كدرٍ وقدرُ؛ قالَ اللهُ تعالىَ: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾البلد: 4 أَيْ: في معاناةٍ ومشقَّةٍ في قوْلٍ مِنْ أقوالِ أهلِ التفسيرِتفسيرُ الطبريِّ(24/433)، وهذا الكَبَدُ لا يخْلوُ منهُ غنيٌّ ولا فقيرٌ، ولا شريفٌ ولا وٌضيعٌ؛ فكلُّ ابْنِ آدمَ فيهِ منَ البلاءِ والمشقَّةِ والعُسرِ ما يناسبُ حالَهُ، ليْتَ شِعريِ هذهِ الدُّنْيا لمنْ؟ قالَها شاعرٌ:
كلُّ مَن لاقيتُ يشكو دهرَه *** ليت شعري هذه الدنيا لمَنْذَكرهُ ابنُ الخطيبِ في روْض ِالأخيارِ ص(141)ونُسب للمعرِّيِ.
فلا تصفوُ لأحدٍ، ولوْ صفتْ لصفتْ لساداتِ الدُّنيا وأوْلياءِ اللهِ منَ النَّبييِنَ والصديقينَ والشُّهداءِ والصَّالحينَ، لكنَّ اللهَ يَبتليِ في هذهِ الدُّنْيا بِأنواعٍ منَ البلاءِ، والمؤمنُ في كُلِّ ما يجريهِ اللهُ عليهِ منْ قضاءٍ بيْنَ رِضا يبلغُ بهِ فوزَ الدنْيا وَسبْقَ الآخرةِ في صبرٍ وشكرٍ؛ «عَجَبًا لأمْرِ المُؤمنِ إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خيرٌ، ولَيسَ ذلِكَ لأَحَدٍ إلاَّ للمُؤْمِن: إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيرًا لَهُ، وإنْ أصَابَتْهُ ضرَاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا لَهُ+++أخرجه مسلم ح(2999)، وبهذا يُدركُ الحياةَ الطيبةَ، يدركُ طيبَ القلبِ وسرورَ الفؤادِ؛ بالرضا بما قَضاهُ اللهُ وَقدَّرهُ، يؤْمنُ أنهُ لا إِلهَ غَيره،ُ جلَّ في علاهُ، وأنَّ قضاءهُ نافذٌ فيهِ، وأنَّ ما أجراهُ مِنْ قضاءٍ عدلٌ لا ظُلمَ فيهِ ولا حيْفَ؛ ولذلكَ كانَ مِنْ دعائهِ: «اللهُمَّ إني عبدكَ، ابنُ عبدكَ، ابنُ أمِتكَ، ناصيتِي بيدكَ، ماضٍ فيَّ حُكمكَ»مسند أحمد(3712), وانظر الصحيحة للألباني ح(199)، نافذٌ ما قضاهُ اللهُ، لابدُّ أنْ يكونَ ماضيًا فيَّ حكمكَ، وأحكامُ اللهِ منها ما يحبُّ الإنسانُ فيشكرُ، ومنها ما يكرهُ فيشقُّ عليهِ، لكنْ يجبُ أنْ يعتقدَ عدلَهُ في قضائِهِ، فما قضاهُ اللهُ لكَ مما تكرهُ هوَ منْ عدلِهِ، فأنتَ في الدُّنْيا والآخرةِ وكلُّ الخلقِ في قضاءِ اللهِ بينَ أمرينِ: بينَ عدلِهِ، وفضلهِ، فلا يظلِمُ اللهُ تعالىَ أحَدًا: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾فصلت: 46.
فانْعَمْ قلبًا وانشرحْ صدرًا بكلِّ ما يجريهِ اللهُ تعالىَ عليكَ، واعلمْ أنَّ الرضا يوجبُ الرِّضا؛ فمنْ رضِي بالله ربًّا وبالإسلامِ دينًا وبمحمدٍ - صلىَّ اللهُ عليهِ وَسلمَ - نبيًّا رضِي اللهُ عنهُ، وأدركَ لذَّة الإيمانِ وبهجَتَهُ وسرورهُ، وانشرحَ فؤادُهُ، وكانَ بذلكَ منَ السَّابقينَ.
طِيبُ النَّفْسِ يُدركها الإنسانُ بأسبابٍ؛ أعظمُها تقواهُ - جلَّ في علاهُ - والقيامُ بحقِّهِ: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهوَ مؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾النحل: 97 كُلُّ مؤمنٍ لهُ منْ طِيبِ النفسِ بقدرِ ما مَعهُ منَ الإيمانِ والعملِ الصالحِ.
ثمَةَ أعمالٌ جاءَ النَّصُّ علىَ أثرُها في طِيبِ النَّفْسِ؛ فمِنْ ذلكَ ذِكْرهُ - جلَّ في علاهُ -؛ فذِكْرُه سبحانهُ تطمئنُّ بهِ القلوبُ وتطيبُ جاء في الصَّحيحينِ منْ حديثِ أبي هُريرةَ رضيَ اللهُ تعالىَ عنهُ قالَ رسول اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ -: «يعقدُ الشيطانُ علىَ قافيةِ رأسِ أحدكمْ إذا هوَ نامَ ثلاثَ عُقدٍ» فالشيطانُ يتسلطُ علَىَ الإنسانِ يَقَظةً وَمَنامًا، هوَ عدوٌّ لا يَتركُ شأنًا مِنْ شؤوُنكَ إلاَّ ويحضرهُ، فلا يدعُكَ في سروُرِ وَلا في حُزْنٍ، ولا في ضيقِ ولا في سَعَةٍ، ولا في غِنىَ ولا في فَقْرٍ، ولا في صِحةٍ ولا في مرضٍ، إلا وَهوَ حاضرٌ يستدرجُكَ، ويريدُ أَنْ ينالَ منكَ، وأَنْ يُصيبكَ؛ فَكُنْ عَلىَ حذرٍ منْ أَنْ ينالَكَ الشيطانُ بما تَكرهُ منْ استزلالِكَ وإخراجِكَ عنْ طاعةِ اللهِ - عزَّ وجلَّ - والرَّضا بما قَضىَ وقدَّرَ والعمَلِ بطاعتهِ فيما مكَّنكَ وأَعطاكَ.
"يعقدُ الشيطانُ علىَ قافيةِ رأسِ أحدِكمْ إذا هوَ نامَ ثلاثَ عقدٍ، يضربُ علىَ كلِّ عقدةٍ عليكَ ليلٌ طويلٌ فارقدْ"، قالَ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ -: «فإذا استيقظَ الإنسانُ فذكرَ اللهَ انحلَّتْ عقْدَةً، وإذا تَوضَّأَ انحْلتْ عقدةَ، وإذا صَلىَ انحلتْ الثالثةَ» قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أثر انحلال هذه العقد عن الشيطان «فيصبح نشيطًا طَيِّبَ النفس»أخرجه البخاري ح(1142), ومسلم ح(776)نشيطًا في بدنه طَيِّبَ النفس في روحه، مستبشرًا، مقبلًا على مصالح معاشه ومعاده، بخلاف أولئك الذين لا يذكرون الله إلا قليلًا، فيقوم وقد عمرت نفسه الظلم؛ فلا يجد انشراحًا ولا بهجةً ولا طِيبًا.
﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾النساء: 103، واعلموا أن الله تعالى يعطيكم من الأجر شيئًا عظيمًا؛ فإنَّهُ مَنْ ذكرَ اللهَ أصبحَ طَيِّبَ النَّفْسِ نَشيِطًا، وَإلاَّ أَصْبحَ خبيثَ النَّفْسِ كَسلانَ، فإذا فَتَحْتَ عَيْنيكَ اذكرْ ربَّكَ - جَلَّ في علاهُ -، ثُمَّ بادرْ إلىَ الوُضوءَ الذيِ بهِ تنحلُّ عقدةٌ، ثم أَقْبِلْ علىَ ربكَ بأَداءِ الفرضِ والصَّلاةِ لهُ - جلَّ في علاهُ -؛ عندَ ذلكَ ستصبحُ طَيِّبَ النفسِ، نشيِطًا في بدنكَ، طَيِّبًا في روُحكَ، تُدركُ الخَيرَ وتنجوُ منْ خبثِ النَّفسِ وكسل البدَنِ.
الاسْتغفارُ مما تطيِبُ بهِ النفوسُ؛ قالَ اللهُ تعالَىَ: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾هود: 3؛ قال المفسرون: "المتاع الحسن: طِيبُ النفس وسعة الرزق" تفسير الماوردي(2/456)فينبغيِ للمؤمنِ أنْ يحرِصَ علىَ ذكرِ اللهِ - عز وجلَّ - وسائرِ الأعمالِ الصالحةِ التي بها تطيِبُ نَفسَهُ وتنشرحُ سرائرُهُ ويدركُ خيرَ الدُّنيْا والآخرةِ.
اللهمَّ طَيِّبْ نفوسَنا بعبادتِكَ وذِكركَ، واعمرْها بما تُحبُّ وتَرضىَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ.
أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكمْ؛ فاستغفروهُ؛ إنهُ هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا، طيبًا مباركًا فيهِ، حمَدًا يرضيهِ. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ، صلَّىَ اللهُ عليهِ وعلَىَ آلهِ وصَحبهِ، ومنِ اتَّبعَ سنتهُ واقتفىَ أثرهُ بإحسانٍ إلىَ يومِ الدينِ.
أما بعدُ:
فاتقوُا اللهَ عبادَ اللهِ، اتقوُا اللهَ تعالىَ وطَيِّبُوا أنفسُكمْ بذِكرِ اللهِ - عزَّ وجلَّ -، والأخذِ بأَسبابِ الخيرِ والبرِّ والطاعةِ والإِحسانِ؛ فإنَّ اللهَ تعالىَ يحبُّ الطيبينَ، اللهَ طيِّبٌ يحبُّ الطيبينَ، وطِيبِ النَّفْسِ مِنْ أوليِ ما يَنْبغيِ أنْ يَشتغلِ الإنْسانِ بِتَحصيلهِ؛ فبذلكَ يُدركُ سعادةَ الدُّنيا وَفوزَ الآخرةِ، طِيبُ النفسِ يُحدثُ اللهُ تعالَى به برَكةُ المالِ، ويُجريِ بِهِ الإنسانُ علىَ رزقهِ وَعلىَ آخرَتِهِ منَ الأجْرِ ما لْيسَ في مقدورهِ في عملِهِ الدنيوِيِّ؛ قالَ - صلَّىَ اللهُ عليهِ وسَلَّمَ -: «الخازن الأمين» يعني من يحفظ مال غيره بأمانة «الخازن الأمين الذي يعطي ما أُمر به كاملًا موفورًا» أي: يعطي أصحاب الحقوق حقوقهم كاملةً موفورةً «طَيِّبًا بِهِ نَفْسُهُ، فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ المُتَصَدِّقَيْنِ»أخرجه البخاري ح(2319), ومسلم(1023) هذا بماذا قامَ؟ ما هوُ العمَلُ الَّذيِ أدركَ بِهِ أنْ كانَ أَجرهُ أجرَ صاحبِ المالِ المتَصدِّقِ؟ يَعْنِي إذا وكَّلَكَ شَخصٌ في إيصالِ صَدقَةٍ، وكَّلكَ شَخصٌ في أداءِ أمانةٍ، وكَّلكَ شَخصٌ في أداءِ مُهمَّةٍ؛ فحفظْتَ هذا المالَ وأدَّيتَهُ إلىَ جهتهِ الَّتيِ أُمرْتَ بأدائهِ إليْها، بالأَمانَةِ، فلمْ تَنْقُصْ منْهُ شَيئًا، ورافِقْ ذلِكَ طِيبَ نَفسِكَ؛ فليسَ ثَمَّةَ شُحٌّ ولا حَسدٌ ولا كراهيةٌ لهذا البذْلِ؛ كنتَ بذلكَ مأجورًا علىَ هذا العَمَلِ أجرَ الباذلِ سواءٌ كانَ في أداءِ حَقٍّ واجبٍ أوْ كانَ في صدقةٍ وإحسانٍ، فتنالُ الأجرَ بطيبِ النفسِ وبذلِ العملِ كما أُمرتَ، فتكونُ بذلكَ أحدَ المتصدِّقينَ.
أيها المؤمنونَ عبادَ اللهِ, إنَّ طِيبَ النفسَ سعادةٌ في الدُّنيا كَما أنهُ فوزٌ في الآخرةِ؛ فإنَّ اللهَ تعالَىَ يُعْطيِ الطَّيْبينَ في الآخرةِمن الأَجْرِ والجزاءِ ما لا يُعطيهِ غَيرهَمْ؛ قالَ اللهُ تعالىَ في بدايات حالِ الإنسانِ: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ﴾النحل: 32 فالملائكَةُ تتوفَّىَ الطيبينَ مبشِّرينَ لهمْ بالسلامِ ومُعطينَ إيَّاهُمْ ما يُؤمِّلونَ من كلِّ خيرٍ؛ ولذلكَ إذا ماتَ العبدُ المؤْمنُ جاءتْهُ الملائكةُ فقبضتْ روحَهُ فخرجتْ «كأطيبِ نفحةِ مسكٍ وُجِدَتْ عَلَىَ وَجْهِ الأَرْضِ» ومقابِلُهُ المنافقُ والكافرُ تخرجُ نفسهُ «كأخبثِ وأنتنِ جِيفةٍ وُجدتْ علىَ ظهرِ الأرضِ».أخرجه أحمد ح(18534)بإسناد صحيحفالنَّفسُ بالطاعةِ والإحسانِ تدركُ الطِّيبَ، وبالإعراضِ والفسوقِ والعصيانِ تدركُ الخبثَ في النفسِ؛ قالَ اللهُ تعالَىَ: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾الشمس: 7- 8؛ مكَّنها منَ الطاعةِ والإحسانِ كما أقدرها علىَ الكفر والعصيانِ.
اللَّهمَّ استعملنا في طاعتكَ واصرفْ عنا معصيَتكَ واجعلْنا منْ حِزبِكَ وأوليائِكَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، ربَّنا ظلمنا أنفُسَنا وإنْ لمْ تغفرْ لَنا وتَرْحمْنا لنكوُنَنَّ منَ الخاسرينَ، الَّلهمَّ آمِنَّا في أوطاننا وَأَصْلحْ أئِمَّتنا وولاةَ أمورِنا، واجعلْ ولايتَنا فيمنْ خافكَ واتقاكَ واتَّبعَ رضاكَ يا ربَّ العالمينَ.
اللهم وفِّق وليَّ أمرِنا الملكَ سلمانَ ووليَّ عهدِهِ إلىَ ما تُحبُّ وترضىَ، خُذْ بنواصيهمْ إلىَ البرِّ والتقْوىَ، واصرِفْ عنهمُ الشرَّ والسوُءَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللَّهمَّ وفِّقهمْ لما فِيِهِ خيرُ العبادِ والبلادِ واكتبْ مثلَ ذلكَ لسائرِ ولاةِ المسلمينَ يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ اجمعْ كلمتَنا عَلىَ الحقِّ والهدىَ واصرفْ عنَّا كُلِّ سوءٍ وشرٍّ وردَىَ، واجْمعْ كلمةَ أهْلِ الإسلامِ عَلَىَ الكتابِ والسنَّةِ يا ربَّ العالمينَ. مَنْ أرادَ بنا فتنةً فرُدَّ كيدَهُ في نحَرهِ،ِ واكْفِ المسلمينَ شَرَّهُ يا ذا الجلال والإكرامِ.
ربَّنا اغفرْ لنا ولإخوانِنا الذينَ سبقونا بالإيمانِ، ولا تجعلْ في قلوبِنا غِلًّا للذينَ آمنوا، ربنَّا إنكَ رءوفٌ رحيمٌ.
الَّلهمَّ إنا نَسألُكَ مِنْ واسعِ فضلكَ أنْ تجُيبُ دُعاءَنا وأَنْ تغفِرَ خطأَنا، وأَنْ تستعْمِلنا فيما تُحبُّ وترضىَ، وأَنْ تيسرَنا لِليسرَىَ، وأَنْ تَصْرِفَ عَنَّا الردىَ والسوُّءَ يا ذا الجلال والإكرامِ.
ربَّنا ظلمْنا أَنفُسنا وإنْ لمْ تغفِرْ لنَا وترحمْنا لَنكونَنَّ منَ الخاسرينَ، أَكثروُا مِنَ الصلاة والسلامِ علىَ سيِّدِ الورىَ وإمامِ الهُدَىَ نبِّينا مُحمدٍ - صلَّىَ اللهُ عليهِ وسلَّمَ -، اللهمَّ صلِّ علَى محمدٍ وعلىَ آلِ محمدٍ كما صليَّتَ علىَ إبراهيمَ وعلىَ آلِ إبراهيمَ؛ إنكَ حميدٌ مجيدٌ.