×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / برامج المصلح / الدين والحياة / الحلقة(145) وصايا لقمان

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:4215

المقدم: أهلا وسهلًا بكم مستمعينا الكرام في هذه الحلقة المباشرة من برنامج "الدين والحياة" عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة، في هذه الحلقة وفي حلقات "الدين والحياة"، وضيفنا الكريم هو فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح، أستاذ الفقه بجامعة القصيم وعضو لجنة الإفتاء بمنطقة القصيم.

فضيلة الشيخ خالد السلام عليكم، وأهلًا وسهلًا بك معنا في بداية هذه الحلقة.

الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بك أخي وائل، حيا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.

المقدم: حياك الله فضيلة الشيخ، مستمعينا الكرام لمن أراد المشاركة معنا يمكنكم أن تشاركونا عبر هواتف البرنامج على الرقمين: 0126477117، أو عن طريق الهاتف الآخر على الرقم 0126493028 

فضيلة الشيخ -بمشيئة الله تعالى-سيكون حديثنا في هذه الحلقة عن وصايا لقمان الحكيم؛ هذه الوصايا التي وردت في كتاب الله الكريم في سورة لقمان، حول النهي عن الشرك والكبر، والحث على التواضع أيضًا واستشعار قدرة الله - تبارك وتعالى -.سنقف وقفات مع هذه الوصايا التي وردت في كتاب الله تعالى الكريم، لكن فضيلة الشيخ قبل أن نتحدث عن هذه الوصايا نريد أن نتعرف ابتداءً من هو لقمان الحكيم؟

الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المقدم: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

الشيخ: مرحبًا بك أخي وائل، ومرحبًا بالمستمعين والمستمعات في هذه الحلقة التي نتناول فيها شيئًا من وصايا القرآن الكريم التي ذكرها - جل في علاه - ليعتبر بها المؤمنون، ويعتبر بها السامعون لهذا الكتاب الحكيم.

 لقمان -عليه السلام- هو رجلٌ من خيار وصالحي الأمم السابقة، وقد ذكره الله تعالى ولم يزد في ذكره عن ذكره فيما تفضَّل عليه؛ فذكر اسمه وذكر ما مَنَّ به عليه من فضل وإحسان، فلقمان -عليه السلام- جاء ذكره في القرآن في موضع واحد، وسميت السورة باسمه؛ لأنها تضمنت ذكر ما كان من وصاياه لابنه في سياق التوجيه القرآني للفضائل، وبيان ما تصلح به أحوال الناس:

قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌلقمان: 12؛ الله تعالى أخبر في هذه الآية أنه آتى لقمان الحكمة، فلقمان لم ينسب في هذه الآيات الكريمات إلى أبٍ؛ أي لم يُذكَر أبوه، ولم تذكر قبيلته، ولم يذكر أي عصر عاش فيه، ولا في أي بلد كان ولا من أي أمة من الأمم السابقة كان، كل هذا يبين أن الفضل لا يُكتسب بشيء من هذه الأشياء، فالفضل لا يُكسِبه نسب ولا يُكسبه مكان ولا يُكسبه زمان في الأصل، إنما الذي يُكسبه صالح العمل، وما ميَّز الله تعالى به الشخص من صفات الفضل؛ فضل الله تعالى.

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَلقمان: 12 فلم يذكر إلا اسمه وما امتاز به من هذه الصفة، وهي صفة الحكمة التي ذكرها الله - عز وجل -، والتي تفضل بها عليه - سبحانه وبحمده-.

لقمان اسم أعجمي لا عربي، وهو مما اختلف العلماء في شأنه من جهة أهو نبي أم أنه رجل صالح ميَّزه الله تعالى بما ميزه من الحكمة؟ والأقرب والذي عليه الأكثرون من أهل العلم أن لقمان ليس بنبي، وإنما هو رجل صالح حباه الله تعالى حكمةً وأعطاه ميزةً في حسن النظر وجميل الفعل، فسُمِّي بالحكيم، فلقمان الحكيم هو الذي ذكره الله تعالى في هذه الآيات ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَلقمان: 12.

وهنا وقفة: بعد أن عرفنا أن لقمان لم يذكر في القرآن إلا باسمه ووصفه، وأنه ليس بنبي إنما هو رجل صالح ميَّزه الله تعالى بما أفاض عليه من الحكمة، وذكر الله تعالى جملةً من وصاياه الناتجة عن فضل الله تعالى الذي تفضل به عليه من الحكمة، حيث قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَلقمان: 12 ثم بعد أن ذكر ذلك ذكر جملةً من وصاياه لابنه في هذه الآيات الكريمات.

لقمان -عليه السلام- من خيار عباد الله وآتاه الله الحكمة، والحكمة هي العلم المقرون بالفهم المتبَع بالعمل، فهي خصال جمعها في هذه الآية للقمان: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَلقمان: 12 فالحكمة تطلق على العلم، وتطلق على معرفة أسرار العلم وحِكَمه وغاياته ومقاصده، فقد يكون الإنسان عالـمًا بالشيء، لكن لا يعرف أسراره وحِكَمه وغاياته فلا يكون حكيمًا، إلا باكتمال هذين الأمرين، ثم يندرج تحت الحكمة الموصوف بها في هذه الآيات ما تكمل به بأن ينتج عن هذا العلم والإدراك للأسرار والغايات والحِكَم الثمرة - العمل، فالحكمة فسَّرها جماعة من أهل العلم بأنها العلم النافع مع العمل الصالح؛ العلم النافع وهو إدراك ما فيه صلاح المعاش والمعاد، ويكمل ذلك بمعرفة أسرار ذلك العلم وحكمه وغاياته ثم يتبع ذلك العمل بالعلم، فالعمل بالعلم هو الحكمة، ولذلك من كان عالـمًا غير عامل لا يوصف بأنه حكيم، بل هذا تزوَّدَ من حجج الله عليه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والقرآن حُجَّة لك أو عليك» وإنما يوصف الإنسان بالحكيم عندما يعرف الشيء، يعرف المصلحة، يعرف النافع ويأخذ به، أما إذا عرف النافع والمصلحة والخير ثم أعرض عنه فإنه لا يكون حكيمًا بل هو سفيه، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُالبقرة: 130 والسفاهة ضد الحكمة وضد الرشد، فعرفنا من هذا الوصف ما امتاز به لقمان عليه السلام، وغفر الله له ورحمه.

عرفنا أنه جمع الله له علمًا وإدراكًا لأسرار وغايات ذلك العلم، أضف إلى ذلك العمل بما عليه، وقوله -جل وعلا - في صدر هذه الآيات الكريمات التي ذكر فيها ما خص به لقمان -عليه السلام-: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِلقمان: 12 وهذا بيان أنَّ شكر الله - عز وجل - هو من دلائل الحكمة وعلاماتها، فمَن وُفِّق إلى أن يشكر الله تعالى ويقوم بحقه - سبحانه وبحمده - فإنه مما يفيض به فضل الإنسان وتنمو به حكمته، والشكر هنا المقصود به العبادة، وليس فقط شكرًا لصورة محدودة، بل ما أمر الله تعالى به داود في قوله: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُسبأ: 13؛ فإن الله تعالى بعد أن ذكر ما امتنَّ به على لقمان من الحكمة، أمره بالشكر لهذه النعمة العظيمة التي خصه بها، فكان من الشاكرين وبيَّن أن هذا الشكر يعود نفعه على فاعله، وإلا فالله - جل وعلا - غني حميد؛ ولذلك قال: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَلقمان: 12 يعني ترك الشكر؛ شُكْرَ نِعَم الله تعالى والقيام بحق الله فيها، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌلقمان: 12.

ثم بعد ذلك شَرَعَتِ الآيات في ذكر وصايا لقمان عليه السلام، وما أوصي به ابنه.

المقدم: فضيلة الشيخ، أيضًا -بمشيئة الله تعالى- سنعرض هذه الوصايا التي ذكرها الله - تبارك وتعالى - في سورة لقمان وتحدث فيها لقمان.

بدأ الله - تبارك وتعالى - هذه الآيات بقوله: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُلقمان: 13 فهذه الوصايا كلها تدور حول الموعظة من لقمان الحكيم لابنه وتحدث فيها عن النهي عن الشرك، والنهي أيضًا عن الكِبر والحث على التواضع والأمر بالمعروف وغيرها من هذه الوصايا التي سنتحدث فيها بمشيئة الله تعالى.

ونبدأ فضيلة الشيخ بأول وصية من هذه الوصايا التي ذكرها الله - تبارك وتعالى - في كتابه الكريم على لسان لقمان الحكيم في قوله - تبارك وتعالى -: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌلقمان: 13.

نتحدث عن النهي عن الشرك بالله - تبارك وتعالى -، وأن الله - تبارك وتعالى - ما أنزل الكتب ولا أرسل الرسل إلا لدعوة الناس لعبادته وحده لا شريك له.

الشيخ: الله - جل وعلا - في هذه الآيات الكريمات التي ذكر فيها وصايا لقمان لابنه، ذكر ابتداءً ما يتعلق بصفات الموصي وهو لقمان -عليه السلام- في صدر هذه الوصايا، والسبب في هذا أن معرفة وصف الموصي وما هو عليه من علم وصلاح وكمال في العقل وإدراك يحث النفوس على استقبال هذه الوصايا، ويجعل النفس تتشوَّق إلى خبر هذا المتكلم الذي جمع الله له فضائل عديدة وزكاه بهذه التزكية العظيمة حيث قال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَلقمان: 12؛ ولهذا جعل الله تعالى في صدر هذه الوصايا صفةَ وخبرَ الموصي ليحتفي المؤمنون بهذه الوصايا وتتطلع نفوسهم لما تضمنته، ثم ذكر أمرًا آخر وهو أن هذه الوصايا لم تكن وصايا عامة، بمعنى أنها لم تكن خطابًا لعموم الناس، بل كانت خطابًا لأخص الناس بالإنسان وهو ابنه.

﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِلقمان: 13، ولا يمكن أن يوصي الإنسان ابنه إلا بما فيه صلاحه ورشده، ويبين رفيع منزلة هذه الوصايا أنها من والد لولده، وأشفق ما يكون الناس هو شفقة الوالد على ولده لما فطر الله تعالى عليه القلوب من محبة صلاح الولد، والحرص على وقايته كل شرٍّ ودلالته على كل خير، ثم ذكر الله تعالى ما كانت عليه هذه الوصايا، بمعنى أنها بأي صورة صدرت من لقمان، لم تصدر من لقمان بصيغة جافة، أو بصيغة خارجة عما يستدعي قبولها، بل كانت على صفة من القول والصدور تتشوف النفوس إلى قبولها وتنقاد لها؛ حيث إنها خرجت بصفة الموعظة.

قال:وهو يعظه؛ أي: وهو يوجه إليه الكلام مشفقًا عليه، حريصًا على إنجائه، باذلًا الجهد في إيصال الخير إليه برفق، والوعظ هو الأمر والنهي، هل هو مقترن بالترغيب والترهيب؟ هل هو محتفٌّ بكمال الشفقة وتمام الرحمة لمن تتحدث معه؟ وهذه كلها صفات بيَّنها الله تعالى في صدر هذه الوصايا تنبيهًا على ضرورة أن تكون الوصايا الصادرة من الإنسان لكل أحد ولولده على وجه الخصوص بهذه الصورة من اللطف والشفقة والرحمة والحنو والصبر وبذل الجهد في تمحيص ما ينصح به ليصل إلى ما يريد فهو يعظه.

ثم ذكر الله تعالى هذه الوصايا، وهذه الوصايا تسع وصايا مذكورة في الآيات الكريمات، وقد جاء في غير القرآن من ذكر وصايا لقمان عدد من الوصايا، لكن الذي يهمنا ما ذكره الله تعالى، فهي أصول ما تصلح به حال الإنسان، هذه الوصايا التسع هي قواعد كبرى في إصلاح ما بين العبد وربه، وفي إصلاح ما بين العبد والخلق، وفي إدراك الحياة الطيبة وإدراك السعادة في الدنيا والآخرة، ولذلك ينبغي أن يعتني الإنسان بتحقيق هذه الوصايا وأن يقيس مدى حرصه ومدى تمكنه من التحلي بهذه الوصايا ومضامينها؛ فإن فوز الإنسان وسبقه ونجاحه، إنما يكون بقدر ما يحقق من هذه الخصال ومن هذه الوصايا التي تضمنتها هذه الآيات الكريمة.

وأولى هذه الوصايا هي الوصية بحق الله - عز وجل - بتوحيده وإفراده بالعبادة - سبحانه وبحمده -، وهذه الوصية هي وصية الله للأولين والآخرين، ولا عجب أن يصدِّر لقمان -عليه السلام- وصاياه لابنه بهذه الوصية العظيمة الجليلة التي بها صلاح المعاش والمعاد، وبها تحقيق غاية الوجود؛ قال الله تعالى في ذكر هذه الوصية: ﴿يَا بُنَيَّلقمان: 13 وفيه من الحنو والراحة والرحمة والشفقة والحرص ما تنضح به هذه الكلمة، ويشعر بها الإنسان عندما يقرؤها مستحضرًا وصية الوالد لولده ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌلقمان: 13 فنهاه أولًا عن الشرك، ثم لم يترك ذلك غير مسبب بل ذكر السبب الموجِب لهذا النهي، وهو أن الشرك ظلم عظيم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌلقمان: 13 ولا غرابة ولا عجب في نهيه عن الشرك بنهي ابنه عن الشرك وفي بيان الغاية والعلة.

أما كونه نهاه عن الشرك فهذا أمرٌ له بالتوحيد؛ لأن الشرك لا يخلص منه الإنسان إلا بتحقيق التوحيد؛ تحقيق العبادة لله وحده لا شريك له ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِلقمان: 13 وهذه وصية لكل إنسان على هذه البسيطة أن يتجنب الشرك في قوله، الشرك في عمله، وقبل ذلك الشرك في قلبه؛ فإن التوحيد أصله إخلاص العبادة لله بأن يقر العبد بأنه لا إله إلا الله، هي الشهادة التي شهد الله بها لنفسه وأشهد عليها خيار خلقه من الملائكة المسبحة بقدسه، وأولي العلم القائمين بالقسط، ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِآل عمران: 18، فالشهادة لله بالتوحيد هي التي ينجو الإنسان بها من الشرك، بأن يعتقد أنه لا يستحق العبادة أحد سوى الله، فلا يتوجه في قلبه محبة أو تعظيم أو خوف أو رجاء أو توكل إلى غير الله، بل إياه نعبد - جل في علاه - وإياه نستعين.

كذلك يخلص لسانه من أن يقع في شيء من الشرك، سواء كان ذلك بالحلف بغير الله، أو كان ذلك بدعاء غير الله، أو الاستغاثة بغير الله، أو ما أشبه ذلك من صور الشرك اللفظية التي توبق على الإنسان إيمانه وتفسد عليه يقينه، وتنقض توحيده أو تخلُّ به فيما إذا كان ذلك في شيء من الشرك الأصغر.

الأمر الثالث في الفعل؛ فيسلم من الشرك في فعله، سواء كان ذلك في الذبح، أو كان ذلك بالتقرب بأنواع القربات أو كان ذلك بلبس ما يعتقد دفع الشر عن نفسه، أو جلب الخير له أو ما أشبه ذلك مما يوقع في الشرك الذي نهى الله عنه في قوله: ﴿لا تُشْرِكْ بِاللَّهِلقمان: 13 فهذا نهي عن الشرك الأكبر الذي يخرج عن الملة، ونهي عن الشرك الأصغر الذي هو وسيلة وطريق للوقوع في الشرك الأكبر، ولا يتحقق للعبد ذلك إلا بأن يخلص العبادة لله في قلبه وفي قوله وفي عمله، فلا إله إلا الله؛ لا معبود حق إلا الله.

هذا الذي ينجو به الإنسان من الشرك، وإذا تورط في شيء من الشرك، فقد وقع في أعظم ظلم، وذلك أنه عدل بالله غيره، سوَّى بالله غيره؛ إذ الشرك حقيقته هو تسوية غير الله بالله؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَالأنعام: 1 أعاذنا الله وإياكم من هذا المسلك، وهذا هو الشرك؛ تسوية غير الله بالله، ولا يلزم أن تكون التسوية في كل شيء، لو سوَّى غير الله بالله في شيء من الأشياء، كان ذلك موقعًا في الشرك؛ ولهذا يجب على المؤمن أن يتوقَّى الشرك دقيقه وجليله، صغيره وكبيره، سره وإعلانه، فإن ذلك ظلم عظيم يوقع الإنسان في هلاك الدنيا والآخرة.

هذا هو ما يتعلق بالوصية الأولى، والتعليل أن الشرك ظلم عظيم؛ إذ كيف يسوَّى رب العالمين مالك الملك الذي له ما في السموات وما في الأرض وهو على كل شيء قدير، ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىالأعلى: 2- 4 كيف يسوَّى الأعلى - سبحانه وبحمده - بغيره من العباد، بغيره من الخلق، تعالى الله عما يقوله الجاهلون علوًّا كبيرًا.

لذلك يوم القيامة المشركون يندبون على أنفسهم أن سووا بالله غيره؛ قال الله تعالى فيما يقوله المشركون يوم القيامة: ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَالشعراء: 97 - 98 فيشهدون بعظيم الضلال حيث سووا غير الله تعالى بالله، ﴿إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَالأعراف: 190 أي: أن يكون له ندٌّ، تعالى الله أن يكون له كفء، تعالى الله أن يكون له سمي، تعالى الله أن يكون له نظير - سبحانه وتعالى -، ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌالإخلاص: 1- 4 - سبحانه وبحمده-.

هذه الوصية هي صدر الوصايا وهي عنوان صلاح ما بين العبد وربه؛ لأنه إذا حقق العبد التوحيد لله -عز وجل - بقلبه صلح ما بينه وبين الله، وإذا صلح ما بينه وبين الله جاءت كل الأمور صالحةً بعد ذلك بتوفيق من الله وتيسيره.

المقدم: فضيلة الشيخ؛ قبل أن نكمل الحديث حول ما ابتدأنا به الحديث في هذه الحلقة عن وصايا لقمان التي وردت في كتاب الله تعالى الكريم، اسمح لي أن نأخذ فقط مشاركات من الإخوة المستمعين الكرام ومعنا على الهاتف الأخ أحمد عبد الله من عسير، حياك الله يا أحمد، أهلًا وسهلًا.

المتصل: السلام عليكم.

المقدم: أهلًا وسهلًا، حياك الله

المتصل: عندي سؤالان لك وللشيخ، الحلقة الماضية ذكر الشيخ أن سجود القرآن ليس واجبًا.

المقدم: طيب يا أحمد، إن شاء الله تسمع الجواب، معنا مشاركة ثانية.

المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المقدم: أهلًا وسهلًا، من معنا؟

المتصل: معك سعيد سليمان من جدة.

المقدم: حياك الله يا سعيد، أهلًا وسهلًا.

المتصل: حياك أخي الكريم وحيا ضيفنا الكريم الشيخ المصلح، عندي استفسار للشيخ بارك الله فيك، أبدأه بقول الله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِالبقرة: 269.

 الله - سبحانه وتعالى - في معرض الكلام في سورة لقمان ذكر أنه آتى لقمان -عليه السلام- الحكمة، بناءً على بلوغ الدرجة لهذا الشكر العالي، فهل بعض الوصايا التي وردت في وصية لقمان لابنه هل هذه تعتبر من أسباب الشكر والوصول للمراتب، وأولها الشكر لله - عز وجل – بالتوحيد، ثم شكر الوالدين، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... إلى آخره؟ هل هذه من أسباب الحصول على المراتب العالية التي ينالها الإنسان بالحكمة، والتي يؤتيها الله - سبحانه وتعالى - من يشاء، يؤتيها للأنبياء كما ذكر الله - سبحانه وتعالى - ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُالبقرة: 129؟

جزاكم الله خيرًا.

المقدم: وإياكم يا سعيد، شكرًا جزيلًا يا سعيد.

طيب شيخ خالد نجيب سريعًا على الأخ أحمد يبدو عنده إشكال في قضية سجود التلاوة في القرآن الكريم، ومن ثم نكمل الحديث في ذات الموضوع.

الشيخ: سجدة التلاوة سنة بالاتفاق، إن شاء سجد، وإن شاء لم يسجد، ولعلنا نخصص -إن شاء الله- حلقة فيما نستقبل بإذن الله.

المقدم: بإذن الله، شيخ خالد الأخ سعيد سليمان يسأل عن طرق الوصول للحكمة، وذكر أن الله -تبارك وتعالى - ذكر في سورة لقمان أن الطرق للوصول إلى الحكمة يكون بالشكر وتحصيل المراتب العالية، يسأل عن طرق الوصول للحكمة؛ هل هذه الوصايا التي أوردها الله - تبارك وتعالى - في كتابه الكريم توصل إلى الحكمة؟

الشيخ: بالتأكيد؛ لأن العمل بهذه الخصال المذكورة هي من السبل التي يدرك بها الإنسان الحكمة؛ لأن الحكمة قد قدمنا معناها وأنها: العلم النافع المقرون بالعمل الصالح، ويكمل ذلك إذا كان علمًا فهم فيه الإنسان الغايات والحكم والأسرار والمقاصد فيما شرعه الله تعالى من الأحكام وما أخبر به من الأخبار.

لاشك أن الأمر بالشكر هنا هو مقابل هذه النعمة: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِلقمان: 12 هو مقابل ما تفضل به على لقمان، حيث ذكر أول النعمة وهو إتيان الحكمة ثم أمره بالشكر، وهذا في مقابل كل نعمة، كل نعمة ينعم الله تعالى بها على العبد، فإنَّ حقها الذي به تُحفظ ويؤدى فيها حق الله - عز وجل - أن يشكره عليها، ومِن شكر الحكمة تعليمُها؛ ولذلك ذكر الله تعالى بعد الأمر بالشكر ما قام به لقمان من أنه لم يحتفظ بها لنفسه، بل بدأ بها لأخص الناس به؛ «ابدأ بنفسك ومن تعول» وهو ابنك فقال: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِلقمان: 13 كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُالتحريم: 6، وكما قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىطه: 132، فكان أول من يعلم هذه الحكمة الذي يحصل به شكرها هم ذووه وأقرب الناس إليه، وهو ابنه في قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌلقمان: 13.

وفي العلم مراتب ودرجات ومنازل بدأ برأس العلم وأساسه وأهمه وهو العلم بالله - عز وجل -؛ وذلك بتوحيده وإخلاصه؛ كما قال الله تعالى لرسوله: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَمحمد: 19 فالعلم بالتوحيد وإفراد الله تعالى بالعبادة هو أصل العبادة ورأسها، وهو أُسُّها الذي يُبنى عليه كل خير في الدنيا والآخرة، فلا خير في الدنيا ولا خير في الآخرة إلا بتحقيق التوحيد لله - عز وجل -، وكل فساد في الدنيا وكل شرٍّ وهلاك في الآخرة، إنما هو بسبب الإخلال بأصل هذه الوصية أو بما يكون مكملًا لتحقيقها والإتيان بها، فالآية الكريمة بدأت بالوصية بالتوحيد وإفراد الله تعالى بالعبادة في قوله تعالى: ﴿لا تشْرِكْ بِاللَّهِلقمان: 13 أي: لا تسوِّ بالله غيره، هذا معنى قوله: ﴿لا تشْرِكْ بِاللَّهِلقمان: 13، لا تجعل لله نِدًّا، لا تجعل لله مثيلًا، لا تجعل لله مساويًا، لا في العبادة القلبية، ولا في العبادة القولية، ولا في العبادة العملية، فالله - جل وعلا - أعلى من أن يكون له نظير ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّامريم: 65 لا يمكن أن يكون له سمي - سبحانه وتعالى - ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُالشورى: 11، ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَالبقرة: 22 فكل هذه الآيات والقرآن كله دائر على تحقيق هذه الوصية، ﴿لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌلقمان: 13.

فإذًا؛ انتهت هذه الوصية، ننتقل للوصية الثانية.

المقدم: ننتقل لها فضيلة الشيخ.

الشيخ: الوصية الثانية هي وصية الله تعالى بالوالدين؛ حيث قال تعالى في ذكر ذلك في هذه الآية الكريم: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِلقمان: 14 فمِن هنا جاء الكلام في سياق توجيه لقمان لابنه على وجه صريح قال: ﴿وَصَّيْنَا الإِنسَانَلقمان: 14 لماذا اختلفت الصيغة؟ الصيغة الأولى قال: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِلقمان: 13، وفي الصيغة الثانية لم يقل: ﴿يَا بُنَيَّ﴾، بعدها قال: ﴿يَا بُنَيَّ﴾، كل الوصايا جاءت مصدَّرة بـ: ﴿يَا بُنَيَّ﴾، إلا هذه الوصية؛ فما الحكمة في ذلك؟

الحكمة أن وصية لقمان لابنه بوالديه مصلحتها تعود إلى من؟ إلى لقمان نفسه، فلما كانت المصلحة عائدةً إلى نفس الموصي لم يأت فيها بصيغة الأمر، ولم يأت فيها بصيغة الخصوصية، بل جاء فيها بصيغة العموم ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ﴾لقمان: 14 خبر عن وصية عامة حتى يخرج الموصي الداعي إلى الله تعالى من دائرة اتهام أنه يجلب لنفسه مصلحة بهذه الوصية، فلقمان يوصي ابنه بأن يبَرَّه وأن يحسن إليه، لكن هذا غير وصية الله تعالى للناس كافة، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاالإسراء: 23، لكن لما يأتي الإنسان يوصي ولده بشيء يتعلق به هو في حق له هو، يحسن ألا تكون هذه الوصية توحي وتوهم الشخص الموصَى بأنني أريد أن أجلب إلى نفسي نفعًا، وإنما أريد أن أنفعك أنت بهذه الوصية؛ فهذه الوصية نفعها لك قبل أن يكون نفعها لي، وإن كنت أنا الذي سيتوجه إليه أثر هذه الوصية.

المقدم: نعم، فضيلة الشيخ عفوًا؛ أي: حتى لا يكون في نفس المتلقِّي أن هذا الذي يوصي ويعظ يريد حظًّا لنفسه وحده.

الشيخ: نعم، حتى لا يتوهم السامع لهذه الوصية من توجه إليه النصح أن الموصي والناصح يريد أن يستفيد، يريد أن يعود عليه نفع لا، أنا في الحقيقة وصيتي ليست لنفع نفسي، إنما هي لنفعك أنت، بَرَرْت أم لم تبرَّ فأنت الذي ستستفيد بالبر، وأنت الذي سينالك الضرر وتتضرر فيما إذا لم تتحقق هذه الخصلة وهذه الوصية.

يقول الله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِلقمان: 14 هذه الوصية الثانية من وصايا لقمان، وقد أحسن، وهذا دالٌّ على ما أخبر الله تعالى به في وصفه له ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَلقمان: 12 عطف على حق الله حَقَّ أعظم الخلق ممن لهم حقوق في غير الرسل والأنبياء، وهم الوالدان ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِلقمان: 14 بأبيه وأمه، هذه وصية يشترك فيها جميع الناس؛ حيث إن الوصية لكل بني آدم، ولكل الآباء والأمهات؛ ﴿بِوَالِدَيْهِ﴾ يعني بمن كانا سببًا لوجوده، أبوه وأمه، ثم لما ذكر الوصية بالوالدين، والوصية بالوالدين تتضمن أداء حقوقهما، الاجتهاد في برِّهما، البعد عن كل ما يكون سببًا لإلحاق الضرر بهما، هذه هي الوصية التي أوصى الله تعالى بها الإنسان، أن يحسن إلى والديه؛ ولذلك قال: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِلقمان: 14 هنا في هذه الآية الكريمة لم يذكر الله تعالى ما هي الوصية؟ لكنها معلومة بما دلت عليه الآيات وبما دل عليه السياق أن الموصَى به هنا هو الإحسان للوالدين، وقد ذكر الله تعالى ذلك في غير ما آية فقال - سبحانه وبحمده -: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًاالعنكبوت: 8 أي: إحسانًا إليهما ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاالإسراء: 23 في الآية الأخرى ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاالإسراء: 23، وقال تعالى في سورة العنكبوت: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَاالعنكبوت: 8 هنا لم يذكر الموصى به للعلم به، والعلم به جاء من أين؟ مما ذكره الله تعالى من وصف الأم حيث ذكر تعالى ما تحمَّلَتْه في حق ابنها، وهذا تشترك فيه جميع الأمهات، هنا ذكر الأم منفردةً، وإنما ذكر الأم منفردةً لبيان علوِّ رتبتها في هذه الوصية؛ يعني وصية الله بالوالدين مشتركة، أيهما أحق بهذه الوصية في حال عدم إمكان الجمع؟ أعني الأحقية في مقام عدم التمكن من بذل الحق لهما؟ قال: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُلقمان: 14 الأم هي الأحق، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء في الصحيح: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أبوك»[صحيح البخاري:ح5971] فرتَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - الحقوق على هذا النحو.

وهنا ذكرت الآية حق الأم على وجه الخصوص تنويهًا، أو ذكر الله تعالى في هذه الآية متاعب الأم في تربية الولد وفي تنشئته وفي شأنه على وجه الخصوص لبيان علو مرتبتها في هذه الوصية؛ قال: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍلقمان: 14 يعني تعبًا على تعب، وهذا منذ أن تحمل به في أوائل حملها إلى أن يستتم بانقطاع حاجته عنها في الرضاع؛ حيث قال: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِلقمان: 14 كل هذه المدة هي مدة معاناة عظيمة بالنسبة للأمهات.

قال الله تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِيلقمان: 14 عاد إلى التذكير بحقه ﴿وَلِوَالِدَيْكَلقمان: 14، والتذكير بحق أعظم الخلق بالنسبة لكل إنسان وهما أبواه، أما الرسل فحقهم تابع لحق الله - عز وجل -، والوصية هنا في حق من يعاشر الإنسان، والرسل قد يعاشرهم الإنسان وقد لا يعاشرهم، وحقهم ثابت في كل الأحوال، وهو فرعٌ عن حق الله تعالى قال: ﴿وَلِوَالِدَيْكَلقمان: 14.

بعد ذلك بعد أن أوصى بأداء الحقوق وبذل الوسع في هذه الحقوق في حق الله أولًا، وفي حق الوالدين ثانيًا قال: ﴿إِلَيَّ الْمَصِيرُلقمان: 14 لماذا ختم الآية بهذا؟ ختم الآية بهذا تذكيرًا ووعظًا، وهذا وعظ، والوعظ فيه ترغيب وترهيب، إذا ذكر العبد أن إلى الله المصير رغَّبه في أن يقوم بما أمره الله تعالى به، ويبذل ما ندبه الله إليه، وإذا علم أن إلى الله المصير خاف من التقصير في حق من أوصاه الله به، فإنه سيحاسبه، سيقف بين يديه فيسأله عن الدقيق والجليل؛ ولذلك قال: ﴿إِلَيَّ الْمَصِيرُلقمان: 14.

ليس كل الوالدين ممن يقوم بحق الولد على وجه المطلوب، من الآباء والأمهات من يقصر، وقد يبلغ التقصير في مسلك الأب أو الأم مرتبةَ أن يسعى في الإضرار بولده، فكيف يتعامل معه؟

الآية الأخرى جاءت في بيان كيف يتعامل مع الأب أو الأم المقصرين؟

قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَلقمان: 15 هذه الآية الكريمة في غاية الإتقان والإبداع أن جيء بها في هذا الموضع؛ لأن الوصية بالوالدين قد تحمل بعض الناس على الموافقة للوالدين في مخالفة أمر الله - عز وجل -، في نقض حقه - جل في علاه -، في التقصير فيما يجب عليه من حقوق الله؛ فبيَّن الله تعالى بعد أن أوصى بحقه وحق الوالدين أن حقه لا يقدم عليه شيء، لكن هذا لا يعني أن يسقط حق الوالد عندما يسعى في الإضرار بولده ويسعى في إيقاعه في فساد أو شر أو ضرر، وهذا أعظم الضرر الذي يكون من الوالد لولده أن يجاهده، والمجاهدة معاناة وبذل وسع وسعي حثيث في تحصيل المطلوب: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌلقمان: 15 يعني ليس أمرًا عارضًا، إنما مجاهدة وسعي قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، وقد يكون بالترغيب، وقد يكون بالترهيب ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَالقمان: 15 طاعة الله أوجب، وهي مقدمة على طاعة كل ما سواه، «إنما الطاعة في المعروف»[صحيح البخاري:ح7145]، وكل طاعة تخرج عن طاعته أو تضاد طاعته فإنه منهي عنها بقوله: ﴿فَلا تُطِعْهُمَالقمان: 15 لا تطع أباك ولا تطع أمك إذا زيَّنا لك الشرك أو مخالفة أمر الله - عز وجل-.

هذا ما دلت عليه الآية.

وهل يسقط حقهما بهذه المجاهدة وهذا السعي في الإضرار بالولد وإخراجه عن الصراط المستقيم؟ الجواب: لا، قال الله تعالى: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًالقمان: 15 أي: قارنهما ولا تنابذهما، فالمصاحبة تقتضي المقارنة، وكيف تكون الصحبة؟ تكون الصحبة بالمعروف، والمعروف هو كل ما أمر الله به ورسوله، وما دعت إليه الأعراف من الفضائل والمكرمات ﴿فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًالقمان: 15 وفيما يتعلق بحق ربه قال: ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّلقمان: 15 وهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.

 ﴿واتَّبِعْ﴾ أي: الزم واسلك سبيل المنيبين إلى الله القائمين بحقه الراجعين إليه، ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْلقمان: 15 هذا تأكيد بأن هذه المعاناة ليست معاناة ممتدة لا نهاية لها، هي معاناة اختبار في الدنيا، وستنقضي ثم يؤول الأمر إلى الحساب ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَلقمان: 15 ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ أي: إليه - سبحانه وتعالى – الرجوع؛ وذلك أنه ما من أحد إلا سيسأله الله - عز وجل -؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحد إلا سيُكلِّمه الله ليس بينه وبينه تُرجُمان»[صحيح البخاري:ح6539] التذكير بالموقف بين يديه حامل للنفس على لزوم الطاعة والصبر على هذه المجاهدة التي يجاهدها الوالدان في سبيل إغواء الولد مع قيامه بحقهما، هذا تذكير بلزوم الصراط المستقيم ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّلقمان: 15 والصبر على أذى الوالدين مع الإحسان إليهما ﴿فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَلقمان: 15 والإنباء هنا ليس إخبارًا مجردًا بل هو إخبار يترتب عليه الجزاء من الإثابة والعقاب.

ولهذا ينبغي للمؤمن أن يفرح بأنه إلى الله راجع؛ لأنه لن يضيع لديه شيء، كما قال تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىآل عمران: 195، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهالزلزلة: 7 فيفرح بذلك ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهالزلزلة: 8 ويخاف أن يلقى الله تعالى بذلك وإن كان قليلًا ﴿فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَلقمان: 15 لما كان العمل كثيرًا، والعمل متنوعًا جاء التذكير بأن العمل بكل صوره، الله مُحصيه، والله سيأتي به، ولن يظلم الله تعالى الناس شيئًا؛ قال: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍلقمان: 16 هنا قال: ﴿يَا بُنَيَّ﴾ عاد إلى التذكير بالملاطفة وبذكر البنوة؛ لأن التذكير هنا لا يتعلق بحق الوالدين، إنما هو مجمل عمل الإنسان.

المقدم: اسمح لي فضيلة الشيخ قبل أن نكمل في الوصية الثالثة أدركنا الوقت كثيرًا، اسمح لي أن نستكمل الحديث وهذه الوصايا في حلقة قادمة بمشيئة الله تعالى، ربما تكون الأسبوع القادم؛ لأن الوقت أدركنا كثيرًا فضيلة الشيخ.

الشيخ: بإذن الله تعالى.

المقدم: بإذن الله، شكرًا جزيلًا، شكر الله لك وكتب الله أجرك فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح؛ أستاذ الفقه بجامعة القصيم، وعضو لجنة الإفتاء بمنطقة القصيم، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ.

الشيخ: أشكركم جميعًا الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأشكر أخي وائل وفريق الإعداد والإخراج، وأسأل الله العظيم لي ولكم التوفيق، وأن يرزقنا الحكمة، وأن يحلِّيَنا بفضائل الأعمال ظاهرًا وباطنًا، وأن يسددنا في القول والعمل وفي السر والعلن، وأن يوفق بلادنا إلى ما فيه الخير وأن يحفظ ولاة أمرنا وأن يسددنا ويجعل لنا من لدنه سلطانًا نصيرًا، وأن يجمع كلمة المسلمين على كل خير، وأن يدفع عنا وعنكم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

 

الاكثر مشاهدة

3. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات90573 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات87036 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف