قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه "رياض الصالحين" في باب المراقبة.
عن أنسٍ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتعمَلُونَ أعْمَالًا هي أدَقُّ في أعيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ، كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنَ المُوبِقاتِ. رواه البخاري(4692).
وَقالَ: «المُوبقاتُ»: المُهلِكَاتُ.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
هذا الأثر عن أنس بن مالك ـ رضي الله تعالى عنه ـ يبين ما كان عليه الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ من عظيم الديانة وكبير المراقبة لله ـ عز وجل ـ حيث قال للتابعين وهم في الفضل من يلي الصحابة «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» [صحيح البخاري (2652)، ومسلم (2533)] التابعون وتابعي التابعين.
يقول أنس ـ رضي الله تعالى عنه ـ: «إِنَّكُمْ لَتعمَلُونَ أعْمَالًا» يعني تأتون أشياء أما أقوال، أو أفعال «هي أدَقُّ في أعيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ» يعني لا تعدونها شيئًا من حيث الحرج في فعلها أو خوف عاقبتها أو التأثم في غشيانها «إِنَّكُمْ لَتعمَلُونَ أعْمَالًا هي أدَقُّ في أعيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِكُنَّا نَعُدُّهَا» أي نحتسبها ونعتبرها «عَلَى عَهْدِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم» من الكبائر «مِنَ المُوبِقاتِ»[صحيح البخاري (6492)] أي من الكبائر والمهلكات هذا الأثر يبين ما كان عليه الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ من خوف الله ـ عز وجل ـ ومراقبته والتحرز من مخالفة أمره سواء ذلك ترك ما أمر أو فعل ما نهى عنه وزجر، وفيه التحذير من استصغار المعصية فإن استصغار المعصية يجرأ على مواقعتها فكلما استصغر الإنسان الخطأ سهل عليه أن يأتيه وأن يغشاه.
احذر محقرات الذنوب:
ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إيَّاكم ومُحقَّراتِ الذُّنوبِ» [مسند أحمد (3818) وحسنه محققو المسند لغيره] يعني احذروا الذنوب التي تحتقرونها ما ترونها شيء وهي قد تكون في الوزر والمنزلة عند الله في منزلة عظيمة كما قال تعالى: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾[النور: 15] فقد يرى الإنسان الذنب الذي ألفه واعتاده الخطأ الذي يتكرر معه قد يراه شيئًا ما هو كبير ليس لأنه ليس كبيرًا، لكن لأنه اعتاده أو أنه انتشر، مثل الغيبة التي يتورط فيها كثير من الناس، مثل الاستهزاء، السخرية، الظلم بالنيل من الأعراض، وما أشبه ذلك من الأعمال التي هي عظيمة عند الله ـ عز وجل ـ لكن لأن الناس يمارسونها ويقعون فيها كثيرًا أصبحت لا تعني شيئًا كما قال أنس: «إِنَّكُمْ لَتعمَلُونَ أعْمَالًا هي أدَقُّ في أعيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ» يعني مثل الشعر إذا نظرت إليها دقيقة قد لا تراها وهي «كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المُوبِقاتِ» أي من المهلكات لمن واقعها.
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حذر من صغائر الذنوب فقال: «إيَّاكم ومُحقَّراتِ الذُّنوبِ» أي الذنوب التي تحتقرونها والسبب في هذا أن احتقار الذنب يجرأ على الوقوع فيه، كما أنه لا ينشط الإنسان للتوبة منه لأنه ما يشوفه شيء ويشوفه صغير، فبالتالي ما يتوب منه لأنه يرى أنه ما زين شيء كبير يستوجب أن يقول: استغفر الله العظيم وأتوب إليه.
معرفة الذنوب والاعتراف بها والاستغفار:
لذلك ينبغي للإنسان أن يعرف أن كل خطأ يعظم ويكبر بقدر ما يستهين به الإنسان، فبقدر ما تستهين بالذنب بقدر ما يكون عند الله عظيم لماذا؟ لأن الاستهانة ليست بقدر الذنب، إنما بقدر من أمرك بتركه أو أمرك بفعله ولم تفعله فلهذا يجب على المؤمن أن يحذر الذنوب الصغيرة والكبيرة والدقيقة والجليلة وأن يستغفر من الجميع.
ولهذا كان من الأدعية: (اللهم اغفر لي ذنبه كُلَّه دقه وجِلَّه) يعني الصغير والكبير صغيره وكبيره أوله وآخره كل هذا مما ينبغي أن يستحضر الإنسان، ثم إن الذنوب الصغيرة يستكثر منها الإنسان وإذا استكثر منها الإنسان أهلكته، لهذا جاء في حديث عبد الله بن مسعود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إيَّاكم ومُحقَّراتِ الذُّنوبِ» ثم ضرب مثل قال: كمثل قوم نزلوا واديًا في رحلة وأرادوا حطبًا فهذا جاء بعود وهذا جاء بعود احتطبوا كل جاء بعود يجتمع عندهم كومة هذه الكومة تنضج طعامهم يتدفئون بها أنضجوا طعامهم بهذه الكومة التي هي عبارة عن أعواد مجموعة، هكذا الذنوب قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فإنهن إذا اجتمعن على الرجل يهلكنه» الذنوب الصغيرة هذه إذا اجتمعت على الإنسان نتيجتها أن توقعه في الهلاك.
فنسأل الله أن يعفو عنا الصغير والكبير، والدقيق والجليل، وأن يغفر لنا الخطأ والزلل في السر والعلن، وأن يحفظنا في الغيب والشهادة وأن يعيذنا وإياكم من نزغات الشياطين، ويجعلنا من التوابين المستغفرين استغفر الله العظيم وأتوب إليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.