قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه "رياض الصالحين" باب المراقبة
عن أبي يعلى شداد بن أوس ـ رضي الله عنه ـ عن النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بعدَ المَوتِ، والعَاجِزُ مَنْ أتْبَعَ نَفْسَهُ هَواهَا وَتَمنَّى عَلَى اللهِ». رواه الترمذي (2459)، وَقالَ: «حديث حسن».قَالَ الترمذي وغيره من العلماء: معنى «دَانَ نَفْسَهُ»: حاسبها.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
هذا الحديث الشريف حديث أبي يعلى شداد بن أوس ـ رضي الله تعالى عنه ـ تضمن ذكر صنفين من الناس، فالناس على اختلافهم يرجعون إلى واحد من هذين الرجلين؛ الكيس، والعاجز.
الكيس هو العاقل، والعاجز هو ضعيف العقل وفي بعض الروايات الأحمق يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الفرق بين هذين «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ» [سنن الترمذي (2459)، وحسنه] قبل الموت؛ أي حاسبها. وقال بعض أهل العلم: أذلها بطاعة الله والقيام بحقه. والمعنيان كلاهما صحيح، لكن فيما يظهر والله ـ تعالى ـ أعلم أن المراد بدان في هذا الحديث: المحاسبة؛ لأنه قيد ذلك بما قبل الموت ومعلوم أن ما بعد الموت ليس موضعًا للعمل، وإنما هو موضع للحساب.
فالحساب إما أن يقع في الدنيا، فيدقق الإنسان في عمله ويتأمل ما يصدر عنه ويراقب ما يكون من شأنه فيصلح الفاسد ويكمل الناقص ويتلافى القصور ويستغفر عن التقصير وما أشبه ذلك مما تفيده المحاسبة فالمحاسبة تفيد إصلاح لفاسد، تفيد استكثارًا من الخير، تفيد توبة من زلل وخطأ، تفيد إرجاع الحقوق إلى أهلها، كل ذلك مما ينتج عن المحاسبة.
محاسبة النفس:
فالكيس من دان نفسه قبل الموت أي قبل أن يغادر الدنيا، فإنه بالموت تطوي الصحف ويدان الإنسان بعمله ويرتهن بما يكون منه كما قال الله ـ جل وعلا ـ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾[المدثر: 38].
أما العاجز وهو الأحمق الذي ترك مقتضى العقل والبصر والرشد من أتبع نفسه هواها جعل نفسه تصير وراء ما تشتهي وما تحب وما تهوى لا يقف عند حدود الله ولا يراعي حقوقه، ولا يراجع مسيره إلى ربه فينظر القصور والتقصير ويستغفر عن الذنب والخطأ، بل هو منهمك في إتباع هواه كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾[الكهف: 28] أي ضياعًا فهو وراء ما يشتهي وما يحب.
عاقبة السعي وراء الهوى:
وعاقبة هذا الذي يمشي وراء هواه وما يشتهي وما يحب الهلاك، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «حُفَّتِ الجنةُ بِالمَكَارِهِ، وحُفَّتِ النارُ بِالشَّهَوَاتِ»[صحيح مسلم (2822)] فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» أي لم يصلح عملًا ولم يستغفر من خطأ، ومع هذا يرجو من الله أن يعطيه وأن يكون في منقلبة ونهاية أمره إلى خير وإلى نجاح وإلى فلاح، وهذا غاية الغرور والاغترار الذي يوقع الإنسان في الهلاك.
والخلاصة:أن الإنسان إما أن يكون عاقلًا كيسًا يحجز نفسه عما يضرها ويراجع عمله ويصلح التقصير الذي في شأنه في سره وإعلانه، لأنه التقصير منه ما هو ظاهر ومنه ما هو خفي، وإما أن يكون مفرطًا أحمقًا بعيدًا عن إصلاح نفسه ومراجعة عمله ومع هذا يضيف إليه أن يتمنه السلامة ويرجوها فهذا مآله إلى هلاك.
وينبغي لمن أراد السلامة أن يكون من الصنف الأول، ولا يكون كذلك إلا إذا راقب الله تعالى وعلم أن الله تعالى يحصي عليه عمله وأنه في المآل سيحاسبه فثمة موقفان للمحاسبة، المحاسبة اليوم هي تحت نظرك وإذا أردت أن تعرف كيف تحاسب نفسك انظر كيف لو أتى شريك لك في عمل أو في مشروع أو وكلك أحد في عمل أو أحد راقبك فيما يكون منك كيف تتحرى ألا يقع منك نقص الله عليك شهيد، الله عليك رقيب، ولم يكن –جل وعلا- رقابة لا شهادة فيها بل ثمة شهود عليك من الملائكة ولا يقتصر الأمر على الحفظة الكاتبين ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾[الطارق: 4] بل ثمة تقييد وتسجيل لكل ما يصدر عنك ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الجاثية: 29] تذكر كل هذه المعاني أن الله يراقبك وأن الملائكة يشهدون عليك ويحصون عملك وأن هذا العمل مسجل في كل ما تأتي من سيئة أو صالحة.
وسيكون له الأثر البالغ في التقلل من السيئات والاستكثار من الخيرات، وسيكون له الأثر البالغ في الاجتهاد في التوبة والاستغفار حتى تمحى من صحائفك كل السيئات، لأن المحاسبة يوم القيامة على الحسنات والسيئات، الحسنات يحفظها الله وينميها ويضاعفها، والسيئات كل سيئة بمثلها إن لم يغفر الله تعالى ويتجاوز، السيئات التي ستعرض عليك يوم القيامة هي ما لم تتب منه أما ما تبت منه واستغفرت الله تعالى وأوبت إليه فإن الله تعالى يمحوه، ولا يكون في صحيفتك من السيئ شيء التائب من الذنب كمن لا ذنب له، اللهم أعنا على طاعتك واصرف عنا معصيتك واستعملنا ربنا فيما تحب وترضى واصرف عنا السوء والفحشاء وصلى الله وسلم على نبينا محمد.