قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه "رياض الصالحين" في باب المراقبة
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: «مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ». حديث حسن رواه الترمذي(2317) وغيرُه.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على البشير النذير السراج المنير نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
هذا الحديث المختصر ذو الجملة الواحدة من أجمع الأحاديث لما يصلح به دين الإسلام، فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أجمل ما يحسن به دين الإسلام وما يدرك به صلاح معاشه ومعاده فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في حديث أبي هريرة: «مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ» يعني مما يحسن به إسلام الإنسان ويطيب ويصح ويستقيم، تركه ما لا يعنيه أي أن لا يشتغل بما لا يهمه ولا يخصه وذلك في القول وفي العمل فيترك كل ما لا اهتمام له فيه، ولا عناية له فيه في قوله وفي عمله وفي نظره وفي سمعه وفي فكره وفي اهتمامه فكلما أبعد الإنسان عن ما لا يعنيه كان ذلك من سلامة دينه ومن صحة إسلامه ومن استقامة عمله.
أسباب استقامة الدين:
ولذلك جمع هذا الحديث كل ما يكون سببًا لاستقامة الدين وصلاحه، الإسلام نعمة عظمى يتفضل الله تعالى بها على من يشاء من عباده كما قال ـ تعالى ـ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ﴾[الأنعام: 125].
درجات المسلمين:
والمسلمون في الإسلام على درجات ليسوا على درجة واحدة كما قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾[فاطر: 32] وذكر أقسامهم ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾[فاطر: 32] فحسن الإسلام هو أن تترقى في دينك وإسلامك وقيامك بما فرض الله ـ تعالى ـ عليك، وتركك لما نهاك الله ـ تعالى عنه ـ إلى أعلى الدرجات.
وثمة ثلاث مراتب:
الظالم لنفسه: وهو الذي ترك ما يجب، ترك بعض ما يجب أو فعل بعض ما حرم عليه، هذا هو الظالم لنفسه وسمي ظالم لنفسه لأنه من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، الطاعة يعود نفعها للإنسان كما يعود ضررها على الإنسان، كما يعود ضرر تركها على الإنسان فمن أطاع أفلح ومن عصى خسر كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَافَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَاقَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾[الشمس: 7- 9] بالطاعة والإحسان والاستقامة والبعد عن المحرم ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾[الشمس: 10] أهملها فأوقعها في المعاصي والسيئات.
أما القسم الثاني: من المسلمين المقتصد: وهو الذي يأتي بما يجب عليه، ويترك ما حرم الله ـ تعالى ـ عليه، يفعل الواجب ويترك المحرم ولا يزيد على هذا، وهذا سالم.
أعلى منه مرتبة: الذي يسابق في الخيراتولذلك قال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾[فاطر: 32] فيسارع في كل فضيلة فيأتي بالواجبات ويجتنب المحرمات ثم لا يكتفي بذلك، بل يبادر إلى التنفلات والتطوعات فيكون ذلك اشتغالًا بما زاد من الفضائل والخيرات.
حسن إسلام المرء يعني الذي يبلغ به الإسلام الحسن الذي يرضي الله ـ تعالى ـ به عنه ألا يشتغل بما لا يفيده بما لا يهمه بما لا يعنيه، وبقدر قيامك بهذه الخاصية وهذه الخصلة تكون سالمًا في دينك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «المسلمُ مَن سلِمَ المُسلمونَ مِن لِسانِه ويدِه»[صحيح البخاري (10)، ومسلم (40)] وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أيُّ الإسلامِ خيرٌ؟ قال: "تُطْعِمُ الطَّعامَ وتقرَأُ السَّلامَ على مَن عرَفْتَ ومَن لم تعرِفْ»[صحيح البخاري (12)، ومسلم (39)].
ومن حسُن إسلامُه يا إخواني فاز بعطاء جزيل من الله ـ عز وجل ـ لأنه من حسن إسلامه عومل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله تعالى.
أما من لم يحسن إسلامه فإنه سيؤاخذ بسيئاته والله ـ تعالى ـ يعاقبه على الأول والتالي، فلذلك حسن إسلام المرء موجب لمغفرة ذنوبه وحط خطاياه وفوزه برضا ربه جل في علاه.
خلاصة ما في هذا الحديث الحث على أن يجتهد الإنسان في أن يترقى في خصال الإسلام، ولا يكتفي فقط باسم الإسلام الظاهر، بل لابد أن يجتهد في أن يتحلى بالفضائل ويرتسم الخيرات ويترك كل ما ينقص دينه في القول أو في العمل، في النظر في السمع في الفكر في المعاملة في السر في العلن كل ما ينقص دينك ابتعد عنه، وكل ما يعلو به ويرتفع احرص عليه والموضوع يحتاج إلى دوام مجاهدة، ما يفهمه بعض الناس من أن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعينه يعني ويقتضي أنك ما تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر فهذا غلط، تجد بعض الناس إذا وجهت إليه أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر قال: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. هذا ليس صحيح، ترك ما لا يعني هو ترك ما يحرم عليك والاشتغال عما يجب عليك فإذا تركت ما يحرم عليك واشتغلت بما يجب عليك فإنك قد فعلت ما يعينك.
المنكرات التي يقع فيها من تراه هو مما يعينك، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ»[صحيح مسلم (49)].
وهذا يعني أن كل مخالفة لأمر الله فهي تعني المؤمن، يجتهد في إصلاحها وإزالتها حسب طاقاته وقدرته على المراتب الثلاثة أقل ذلك القلب أن تكره المعصية ولا ترضاها وتبعد عن المكان الذي هي فيه أو الذي هو مشغول بها، وهذا مما يعنيك لكن أن تتدخل في شئون الناس وين راحوا وين أتوا ماذا قالوا ماذا عملوا؟ وما إلى ذلك سواء تشتغل بظواهرهم أو ببواطنهم ما نيته ما قصده ماذا يريد؟ كل هذا مما لا يعنيك لست موكلًا بقلوب الخلق ولا موكلًا بما يكون من أعمال فهذا إلى الله ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾[الغاشية: 25- 26] فليس عليك حسابه، إنما عليك أن تبذل جهدك في إصلاح نفسك وفي هداية الخلق إلى أقوم طريق وأحسن سبيل ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًاوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾[الطلاق: 2- 3].
أسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقني وإياكم حسن الإسلام ظاهرًا وباطنًا، وأن يوقفنا إلى ما يحب ويرضي في السر والعلن وصلى الله وسلم على نبينا محمد.