الخطبة الأولى
إِنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
أيها المؤمنون.
اتقوا اللهَ تعالى، فإن اللهَ تعالى شرعَ الصيامَ لتتَّقوه، واشكروا اللهَ عبادَ الله أن بلَّغكم شهرَ رمضانَ العظيمَ، الذي أنزلَ فيه أحسنَ كتبِهِ، وبعثَ فيه خاتم رسله، وجعله روضةً من رياضِ الجنة، وموسماً عظيماً من مواسم الخير، فيه تغلق أبوابُ النيرانِ، وفيه تفتح أبواب الجنان وتصفد الشياطين.
واعلموا عباد الله، أن الله تعالى قد خصَّ الصيامَ بأجرٍ عظيمٍ، جازَ قانونَ التقديرِ والحسابِ، وذلك فضلُ الله يؤتِيه من يشاءُ، واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ، ففي الصحيحين من حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: (كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له، يضاعفُ الحسنةَ بعشرِ أمثالِها إلى سبعمائةِ ضعفٍ، إلا الصومَ فإنه لي، وأنا أَجزِي به)([1]).
أيها المؤمنون.
إن الفضائلَ والأجورَ التي جعلها اللهُ تعالى للصائمين لا تحصلُ إلا إذا أخلصَ فيه العبادُ للهِ تعالى، واقتفي فيه أثرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإن اللهَ تعالى طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيِّباً، وقد قالصلى الله عليه وسلم: (من صامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه)([2]) والإيمانُ والاحتسابُ إنما يكون بإخلاصِ النيةِ للهِ تعالى وابتغاءَ وجهِهِ، ومتابعةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
فعليك يا عبد الله، بإخلاصِ النيةِ للهِ تعالى، فإن اللهَ لا يقبلُ من العمَلِ إلا ما كان خالصاً، وابتُغي به وجهُه.
وعليك أيضاً أن تتابعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قولِه وفعلِه، فإنَّ اللهَ تعالى قد سدَّ كلَّ الطُّرُقِ الموصلةِ إليه سبحانه، إلا طريقَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فاجتهدوا بارك الله فيكم في معرفة سننِ نبيكم وأحوالِه وأقواله، فإن فيهما خيرَ الدنيا والآخرة.
أيها المؤمنون.
إن مما يجِبُ على الصائمِ أن يعلَمَه أحكامَ المفطرات التي يجبُ عليه اجتنابُها في الصِّيامِ، وقد ذكرها اللهُ تعالى في قوله: ﴿ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾([3]) .
فأكبرُ هذه المفطراتِ وأعظمُها: الجماعُ في نهارِ رمضانَ، فإنّ فيه الكفارةَ المغلظةَ وهي عِتقُ رقبةٍ، فإن لم يجد فصيامُ شهرين متتابعين، فإن لم يستطِعْ فإطعامُ ستين مسكيناً.
أما ثاني هذه المفطراتِ: فهو إنزالُ المنيِّ بشهوةٍ اختياراً، فإذا نزلَ المنيُّ بغيرِ اختيارٍ، كأنْ يحتلمَ الصائمُ فإنه لا يفطرُ بذلك.
أيها المؤمنون.
ثالثُ هذه المفطراتِ: الأكلُ والشُّربُ، سواءٌ كان عن طريقِ الفمِّ أو الأنفِ، لقوله صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة رضي الله عنه: (بالغْ في الاستنشاقِ، إلا أن تكونَ صائما) ([4]).
أيها المؤمنون.
إن مما يلتحق بالأكلِ والشربِ في حصولِ الفطرِ به الإبرَ المغذيةَ، والتي يستغني بها آخذُها عن الطعامِ والشرابِ؛ لأنها بمعناهما.
وأما الإبرُ العلاجيةُ فإنها لا تفطِّر؛ لأنها لا تقومُ مقامَ الطعامِ والشرابِ.
أيها المؤمنون.
رابعُ هذه المفطراتِ: تعمُّد القيءِ، وهو إخراجُ ما في الجوفِ من طعامٍ أو شرابٍ، فإذا تعمَّد ذلك الصائمُ، وخرجَ منه شيءٌ فإنه يفطر بذلك، لكن إذا خرجَ ما في جوفِه بدونِ تعمُّدٍ ولا معالجةٍ، فإنه لا يفطرُ وصيامُه صحيحٌ، لقوله صلى الله عليه وسلم : (من ذرعه القيء –أي: غلبه- فليس عليه القضاء، ومن استقاءَ عمداً فليقض)([5]).
أيها المؤمنون.
إنَّ من رحمةِ الله بنا أن هذه المفطِّراتِ، لا يفطرُ بها الصائمُ إلا إذا فعلها عالماً ذاكراً مختاراً، فلا يفطرُ إن فعلَها جاهلاً، مثل أن يفعلَ شيئاً من المفطراتِ يظنُّ أنه لا يفطرُ، وهو يفطرُ، أو يظنُّ أن الفجرَ لم يطلعْ، وهو طالعٌ، أو يظنُّ أن الشمسَ قد غربت، وهي لم تغربْ، فليس عليه في ذلك حرجٌ ولا قضاءٌ، وصيامُه صحيحٌ، لقوله تعالى:﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾([6]).
ولما في "صحيحِ البخاري" عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالت: (أفْطَرْنا على عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في يومِ غيمٍ، ثم طلعَت الشمسُ)([7]) ولم تذكرْ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَهُم بالقضاءِ، وهذا يفيدُ أنه لا يجبُ القضاءُ مع الجهلِ بالحالِ، لكن متى علِمَ بأنه في نهارِ وَجَبَ عليه الإمساكُ.
ولا يفطرُ الصائمُ إذا فعل شيئاً من هذه المفطراتِ ناسياً؛ لقولِ الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾([8]) ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من نسِيَ وهو صائمٌ فأكلَ أو شربَ فليتمَّ صومَه، فإنما أطعمَه اللهُ وسقاه)([9]).
ولا يفطر الصائمُ أيضاً إذا حصل له شيءٌ من هذه المفطراتِ، بغيرِ اختيارِه، فلو طارَ إلى جوفِه غبارٌ، أو تسرب إلى جوفه ماءٌ عند المضمضةِ أو الاستنشاقِ، فلا شيء عليه، وصومه صحيح.
أيها المؤمنون.
إن من المفطراتِ خروجَ دمِ الحيضِ أو النفاسِ، وهذا المفطرُ مما تختصُّ به النساءُ، فمتى خرجَ دمُ الحيضِ أو النفاس أفطرت المرأةُ ، ولو كان ذلك قبلَ غروبِ الشمسِ بثانية ، وعليها قضاءُ ذلك اليومِ ، لكن لو أحسَّت بحركته قبل الغروبِ ، ولم يخرجْ إلا بعده فصومُها صحيحٌ، ولا قضاء عليها.
أيها المؤمنون.
إن مما أباحه اللهُ تعالى للصائمِ الاكتحالَ بأيِّ كُحلٍ شاءَ؛ ومما أباحَه اللهُ تعالى له التطيِّبُ بأيِّ طِيبٍ كان، إلا إن كان بخوراً، فعليه ألا يستنشقَه، لئلا يدخلَ الدخانُ إلى جوفِه، ويجوز له أن يبخِّرَ ثيابَه ، أو المكانَ الذي يجلسُ فيه .
ومما يجوزُ للصائم أيها المؤمنون، أن يقطِّرَ دواءً في عينِه أو أذنِه، وأن يداويَ جروحَه، فليست هذه الأمورُ مما يحصلُ به الفطرُ.
أيها المؤمنون.
إن مما يسنُّ للصائمِ أن يتسوكَ في أوَّلِ النهارِ وآخرِه، ومما يُسنُّ له أيضاً أن يعجِّلَ الفطرَ وأن يؤخِّرَ السُّحورَ، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزالُ الدِّين ظاهراً ما عجلَ الناسُ الفطرَ؛ فإن اليهودَ والنصارى يؤخِّرون)([10]).
ومما يُسنُّ أيضاً أن يُفطِرَ على رُطَبٍ، فإن لم يكن فتَمْرٍ، فإن لم يكن فماءٍ، فإن لم يكن فعلى ما شاءَ مما أحلَّ اللهُ تعالى، من الطعامِ والشرابِ.
أيها المؤمنون.
هذه بعضُ الأحكامِ الشرعيةِ والآدابِ النبويةِ التي يجِبُ على الصَّائمِ تعلُّمُها، فاحرصوا على معرفتِها والعمـلِ بهـا، فإن أشكلَ عليكم شـيءٌ من ذلك، فاعملـوا بوصيةِ اللهِ لكم، كما قال تعالى: ﴿ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾([11]).
الخطبة الثانية
أما بعد.
فاغتنموا عبادَ اللهِ هذا الموسمَ الكريمَ بالاستكثارِ من الطاعاتِ والقرباتِ، واحذروا فيه مواقعةَ السيئاتِ، فإن السيئةَ في رمضانَ أعظمُ عندَ اللهِ تعالى من السيئةِ في غيرِه.
بادروا يا عبادَ اللهِ بالأعمالِ الصالحاتِ ، واحذروا التسويفَ والتأجيلَ ، فإنه أصلُ كلِّ عجزٍ وبلاءٍ، وإيَّاكم والفتورَ والمللَ:
فما هي إلا ساعةٌ ثم تنقضِي ويُصبِحُ ذو الأحزانِ فرحانَ جاذلا([12])
أيها المؤمنون.
إن الله تعالى قد فرضَ عليكم الصيامَ لغايةٍ كبرى، ولمقصدٍ أسمَى، ألا وهو تحقيقُ التقوى في قلوبِكم وأقوالِكم وأعمالِكم، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾([13]) وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في "الصحيح": (من لم يدَعْ قولَ الزورِ والعملَ به، فليس للهِ حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابَه)([14]).
فليس مقصودَ الشارعِ من الصومِ الجوعُ والعطشُ، ولا تركُ اللذةِ والشهوةِ فحسبْ، بل مقصودُه الأعظمُ استقامُة القلب والجوارح على الطاعة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾([15]) فـ:
طوبى لمن كانت التقوى بضاعتَه في شَهرِه وبحبلِ اللهِ معتصما([16])
فأعيذكم باللهِ يا أيها المؤمنون أن تكونوا ممن منعَ نفسَه الطعامَ والشرابَ وما أحلَّ اللهُ، ثم أسرفَ على نفسِه بارتكابِ المعاصي ومقارفةِ السيئاتِ.
أيها المؤمنون.
إن تقوى اللهِ التي من أجلِها شرَعَ الصيامَ هي أن تجعلَ -يا عبد الله- بينك وبين عذابِ اللهِ وقايةً، بفعلِ الطاعةِ وتركِ المعصيةِ.
فيا ليت شعري، هل اتقى اللهَ عبدٌ صامَ عن الطعامِ والشرابِ، ثم أعمل لسانَه بالغِيبةِ والنميمةِ والفاحشِ من القولِ؟!
أم هل اتقى اللهَ عبدٌ أضاعَ الصلاةَ واتبعَ الشهواتِ؟!
أم هل اتقى اللهَ من أحيا لياليَ شهرِه بالملاهي والمنكراتِ؟!
أم هل اتقى اللهَ من شغلَ أُذنَه بسماعِ المحرماتِ، ونظرَه بالنظرِ إلى الممنوعاتِ والمحظوراتِ؟!
أم هل اتقى اللهَ رجلٌ ضيَّع الواجباتِ وأهملَ الأولادَ والبناتَ، ويسر لهم سبلَ الفسادِ؟!
لا والله، لا والله ، لم يتقِّ اللهَ من تورَّطَ في تلك السيئاتِ، إنما اتقى من قامِ بالواجباتِ وانتهى عن المنهياتِ وزاده صيامُه استقامةً وصلاحاً.
اللهم أصلح قلوبنا واغفرْ ذنوبنا، اللهم بارك لنا في رمضانَ، وارزقنا فيه الأعمالَ الصالحات، واجعلنا ممن صام رمضان إيماناً واحتسابا.
([1]) أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
([2]) أخرجه البخاري (38)، ومسلم (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([3]) سورة البقرة ( 187).
([4]) أخرجه أبو داود (142)، والترمذي (788)، والنسائي (87)، وابن ماجه (407) من حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه وصححه الترمذي.
([5]) أخرجه أبو داود ( 2382) والترمذي (720)، ، وابن ماجه ( 1676) وحسنه الترمذي.
([6]) سورة الأحزاب ( 5)
([7]) "صحيح البخاري "(1959) .
([8]) سورة البقرة ( 286)
([9]) أخرجه البخاري (1933)، ومسلم (1155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([10]) أخرجه أحمد (2/450)،وأبو داود ( 2353) وصححه ابن خزيمة(2058)، من حديث أبي هريرة.
([11]) سورة النحل ( 43)
([12]) انظر "زاد المعاد"(3/75)، ومدارج السالكين (3/8).
([13]) سورة البقرة ( 183)
([14]) "صحيح البخاري" (1903) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([15]) سورة البقرة ( 183)
([16]) قاله ابن رجب الحنبلي في "لطائف المعارف"(1/184).