قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين: باب التقوى.
قَالَ اللهُ ـ تعالى ـ: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [سورة ءال عمران/102]، وَقَالَ اللهُ ـ تعالى ـ: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [سورة التغابن/16]، وهذه الآية مُبَيّنَةٌ للمراد من الأولى، وَقَالَ الله ـ تعالى ـ: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً﴾ [سورة الأحزاب/70]، وَالآيَاتُ في الأَمْرِ بِالتَقْوَى كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَالَ الله ـ تعالى ـ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَهُ مخْرَجًا (2) وَيَرْزُقهُ مِنْ حَيثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [سورة الطلاق/2-3]، وَقَالَ الله ـ تعالى ـ: ﴿إن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفّر عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُم وَيَغْفِر لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [سورة الأنفال/29]، والآياتُ فِي البَابِ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فالله ـ تعالى ـ أمر في كتابه بالتقوى في مواضع كثيرة، ولم يخص بالتقوى أحدًا دون أحد بل أمر بها عموم الخلق كما قال ـ تعالى ـ:﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء:131]، وأمر المؤمنين بتقواه ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [سورة ءال عمران/102]، وأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتقوى فقال:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ [الأحزاب:1].
عموم الأمر بالتقوى:
وجاء الأمر بالتقوى عامًا للناس ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾[النساء:1]، فالأمر بالتقوى في القرآن شمل كل أحد وجاء عامًا وخاصًا أمر فيه عموم الناس وأمر فيه خصوصهم وأشرفهم, وهو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمر به المؤمنون، وهذا يدل على أنه ما من أحد إلا وهو مأمورٌ بالتقوى وهو محتاجٌ إلى العمل بها والأخذ بخصالها وصفاتها وأعمالها، فالتقوى عملٌ قلبيٌ في الأصل وهو أن يجعل الإنسان بينه وبين عذاب الله وقاية وذلك بفعل ما أمر الله تعالى به ظاهرًا وباطنًا وترك ما نهاه الله تعالى عنه ظاهرًا وباطنًا.
ولهذا يأتي الأمر بالتقوى مطلقًا ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [سورة آل عمران/102]، ويأتي مقرونًا به بعض الأعمال كقوله ـ تعالى ـ: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً﴾ [سورة الأحزاب/70]، هنا بعد أمر بالتقوى وهي شاملة لكل ما يستقيم به دين الإنسان ظاهرًا وباطنًا، يشمل الفرائض والواجبات ومن أصول الدين في العمل وفي القلب ثم ذكر منها عملاً واحدًا وهو القول السديد.
ومنه أيضًا قوله ـ تعالى ـ:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر:18] فيأتي التذكير لبعض ما يحتاج الإنسان إليه على وجه الخصوص للفت الأنظار إليه وتنبيه أهل الإيمان إلى أهمية الاعتناء به، وإن القول من أعظم ما ينبغي أن يحفظه الإنسان؛ لأنه أكثر ما يصدر عن الإنسان قوله.
اللسان من أهم أصول التقوى:
ولذلك جاءت النصوص آمرة بالقول الحسن وناهية عن القول السيئ ومحذرة من مغبة قول السوء ومحذرة من مغبة التفريط في اللسان، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ بعد أن سمى له جملةً من الأعمال الصالحة قال: «ألا أخبرُك بمِلاكِ ذلِك كلِّه؟»يعني التي تملك بها أبواب الخير على اختلاف أبوابها وصنوفها، «قُلتُ بلَى، يا نبيَّ اللهِ، فأخذَ بلسانِهِ، وقال: كُفَّ عليكَ هذا»[سنن الترمذي (2616)، وقال: حسن صحيح] أي أمسك عليك لسانك.
وضابط ذلك قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»[صحيح البخاري (6018)، ومسلم (47)] والقول الخير هو القول السديد المأمور به في قوله: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً﴾ [سورة الأحزاب/70]، الثمرة؟﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ ثم جاء ما يبشر بكل خير لمن امتثل هذه الوصايا ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:71].
ولهذا احجز لسانك واحفظ قولك وراقب ما يصر عنك، لا تكن ممن يتكلم ولا يبالي بما يتكلم به، زن الكلام قبل أن تخرجه في الغضب والرضا وفي الفرح والحزن وفي النشاط والكسل وفي الصحة والمرض، زن ما تقول، فإنك ستحاسب على ما يصدر عنك، قال الله ـ تعالى ـ:﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18]، ما يفظ من قولٍ قليل أو كثير إلا لديه رقيب عتيد.
الإمام أحمد في مرض الموت كان يتألم ويصدر منه بعض الأحيان أنين وهذا شيء فطري طبيعي غير اختياري، قد يصدر من الإنسان، فقيل له: يا أبا عبد الله إن طاووس وهو أحد التابعين يقول: يكتب على ابن آدم كل شيء حتى الأنين، فامتنع من الأنين ـ رحمه الله ورضي عنه ـ خشي أن يكون في كتابه وفي صحيفته ما قد يضره أو ما لا ينفعه كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» والخير إما أن يكون خير في ذاته بأن يكون قولاً صالحًا أمر بمعروف، نهي عن منكر، توجيه إلى خير أو أن يكون خيرًا في عاقبته، يعني في نتيجته وثمرته، قد لا يكون هو في ذاته خير كأن تسأل شخصًا كيف الحال؟ هذا في ذاته كلام عادي لكن لما تقصد به الاطمئنان على أخيك، تقصد به إدخال السرور عليه صار خير بالنظر إلى عاقبته؛ لإدخال السرور عليه، وليس الغرض أن الحديث ذاته نافعٌ، إنما لأجل ما فيه من إدخال السرور عليه وإيناسه.
ولهذا يا إخواني أوصيكم ونفسي بأن نكف علينا ألسنتنا، راقب ما يصدر عنك، ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾[البقرة:83]، ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ [الإسراء:53].
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا وارزقنا قول الخير والحق واحفظ ألسنتنا وجوارحنا عن كل ما تكره يا ذا الجلال والإكرام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.