قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين: باب في التقوى.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قيل: يا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: «أَتْقَاهُمْ. فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ : فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابْنُ نَبِيِّ اللهِ ابْنِ نَبِيِّ اللهِ ابنِ خَلِيلِ اللهِ، قَالُوا: لَيْسَ عَن هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فَعَن مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلامِ إذَا فَقُهُوا». مُتَّفَقٌ عليه.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
هذا الحديث هو أول حديث ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ في باب التقوى، وقد تقدم أن تقوى الله ـ عز وجل ـ هي فعل ما أمر الله ـ تعالى ـ به وترك ما نهى الله ـ تعالى ـ عنه رغبةً فيما عنده وخوفًا من عقابه، فأسأل الله أن يجعلني وإياكم من المتقين.
علو المنزلة هو بالتقوى:
هذا الحديث الشريف سأل فيه الصحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ «مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أَتْقَاهُمْ»، وهذا جوابٌ مطابق لما جاء في القرآن في قول الكريم المنان جلا في علاه: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[الحجرات:13] ، فالفضل والشرف وحسن المقام كريم المنزل هو بالتقوى، ولذلك بادر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصحابة الجواب على سؤالهم من أكرم الناس بقوله: «أَتْقَاهُمْ» أي إن أتقى الناس في كل أمرٍ من الأمور هو أكرمهم عند الله عز وجل وأعلاهم منزلةً وأشرفهم مكانةً.
«فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ» أي لم نقصد بأكرم الناس من يكون سابقًا بالتقوى فقط، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن ذكر الكرم المنوط بالتقوى قَالَ : «فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابْنُ نَبِيِّ اللهِ ابْنِ نَبِيِّ اللهِ ابنِ خَلِيلِ اللهِ» هذا البيان النبوي لأكرم الناس، هو ذكرٌ لأكرم الناس من حيث النسب، وهذا ما ظنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من سؤالهم بعد أن أجابهم بمعيار السبق الذي لا سبق فوقه وهو السبق بالتقوى انتقل إلى بيان السبق بالنسب وهو سبق يوسف ـ عليه السلام ـ حيث إنه تسلسل في المنزلة والشرف بهذه السلسلة المباركة من الأنبياء خليل الرحمن نبيٌ من أنبياء الله ثم نبيٌ من أنبياء الله، ويوسف ذاته نبيٌ كريم من أنبياء الله، فكان أكرم الناس من جهة نسبه عليه الصلاة والسلام.
«قَالُوا: لَيْسَ عَن هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: "فَعَن مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِي؟» أي عن أصولهم وما يكون من خصالهم التي يتصفون بها قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «الناسُ معادِنٌ» وهذا جواب عن أكرم الناس على العموم أن الناس يختلفون فيما وهبهم الله تعالى من هبات، ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:«معادِنٌ كمعادِنِ الذهبِ والفضةِ» وثمة فرق بين الذهب والفضة في المعدنين وفي المكانة والمنزلة وفي الوفرة والكثرة.
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «الناسُ معادِنٌ كمعادِنِ الذهبِ والفضةِ، خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلامِ إذَا فَقُهُوا»[صحيح البخاري (3353)، ومسلم (2378)]، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أثبت خيريةً في الجاهلية وهي ما يكون عليه أصل الإنسان من نسبه وكريم أصله الذي هو مظنة الخير، مظنة الخصال الشريفة، ولذلك ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا المظنة وهي أكرم الناس في النسب والمنزلة والجاه والمكانة هم أكرم الناس في الإسلام، لكن ثمة شرط لا بد من التنبيه إليه في بيان السبق في الإسلام وأنه يختلف عن السبق في الجاهلية «إذَا فَقُهُوا».
الفقه والعلم من أسباب تحصيل التقوى:
ومعنى «إذَا فَقُهُوا» يعني إذا علموا وإذا أدركوا من العلم ما يشرفون به على غيرهم فينضاف إلىطيب النسب وطيب الأصل الذي هو مظنة الخير ومظنة الشرف ومظنة الخصال الحميدة الفقه الذي به تبرز السمات المطلوبة والخيرية المنشودة، وهذا فيما يتعلق بأمور الناس، فالكرم عند الناس هو باعتبار الأصل؛ لأن الأصل في العادة ينتج خصالاً حميدة يظن فيه أنه يقدم الإنسان إلى الأماكن المحمودة، لكن إذا جاء من الأصل الطيب الفعل الرديء، فإنه لا يستحق المدح، بل يستحق الذم وذمه أعظم من أصحاب المنزلة النازلة والمكانة الوضيعة، ولهذا أبو لهب أصوله شريفة فهو هم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن نزل هذا الرف وسلب هذا الحمد لخسته ودناءته وسوء عمله قال الله جل وعلا:﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)﴾ [المسد 1-5].
هنا تنبيه طيب الأصل يتوقع منه جميل العمل لكن عندما يكون طيب الأصل صدر عنه ما هو رديء يكون الأمر على أسوء ما يكون منزلة وأردأ ما يكون مكانة وتضاعف في حقه العقوبة، إذًا هذا البيان النبوي في جواب الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ عند سؤالهم من أكرم الناس تدرج أولاً بذكر المعيار الأساس الذي ينبغي أن يكون هو الأصل في التفاضل بين الناس وهو التقوى وذلك بقيام خصالها، وإلا ما في القلوب لا يعلمه إلا علام الغيوب.
طيب الأصل كمن معايير التقوى:
وأما المعيار الآخر الذي ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو طيب الأصل حيث جاءت سلسلة النبوة ليوسف ـ عليه السلام ـ ثم لما قالوا: ليس عن هذا نسألك، وإنما سألوه عن أصول العرب وأنسابها وقبائلها قال: «الناسُ معادِنٌكمعادِنِ الذهبِ والفضةِ، خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلامِ» لكن الإسلام لا يكتفي بالنسب بل إذا فقهوا، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»[صحيح مسلم (2699)] فالنسب لا يرتفع به الإنسان إنما هو مظنة أن يكون صاحبه جميل الخصال طيب العمل من أهل التقوى والصلاح فإذا لم يقم ذلك كان ذلك وبالاً على صاحبه موجبًا لذمه ذمًا مضاعفًا.
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقني وإياكم الهدى والتقى والصلاح وأن يجعلنا من عباده المتقين وحزبه المفلحين وأوليائه الصالحين وصلى الله وسلم على نبينا محمد.