اعرف قدر مَا ضَاعَ مِنْك وابك بكاء من يدْرِي مِقْدَار الْفَائِت لَو تَخَيَّلت قرب الأحباب لأقمت المأتم على بعْدك لَو استنشقت ريح الأسحار لأفاق مِنْك قَلْبك المخمور من استطال الطَّرِيق ضعف مَشْيه
وَمَا أَنْت بالمشتاق إِن قلت بَيْننَا ... طوال اللَّيَالِي أَو بعيد المفاوز
أما علمت أَن الصَّادِق إِذا هم ألْقى بَين عَيْنَيْهِ عزمه إِذا نزل آب فِي الْقلب حل آذار فِي الْعين هان سهر الحرّاس لما علمُوا أَن أَصْوَاتهم بسمع الْملك من لَاحَ لَهُ حَال الْآخِرَة هان عَلَيْهِ فِرَاق الدُّنْيَا إِذا لَاحَ للباشق الصَّيْد نسي مألوف الْكَفّ يَا أَقْدَام الصَّبْر احملي بَقِي الْقَلِيل تذكر حلاوة الْوِصَال يهن عَلَيْك مر المجاهدة قد علمت أَيْن الْمنزل فاحد لَهَا تسر أَعلَى الهمم همة من استعد صَاحبهَا للقاء الحبيب قدم التقادم بَين يَدي الْمُلْتَقى فَاسْتَبْشَرَ بِالرِّضَا عِنْد الْقدوم وَقدمُوا لانفسهم الْجنَّة ترْضى مِنْك بأَدَاء الْفَرَائِض وَالنَّار تنْدَفع
عَنْك بترك الْمعاصِي والمحبة لَا تقنع مِنْك إِلَّا ببذل الرّوح لله مَا أحلى زمَان تسْعَى فِيهِ أَقْدَام الطَّاعَة على أَرض الاشتياق لما سلم القوب النُّفُوس إِلَى رائض الشَّرْع علمهَا الْوِفَاق فِي خلاف الطَّبْع فاستقامت مَعَ الطَّاعَة كَيفَ دارت دارت مَعهَا
وَإِنِّي إِذا اصطكت رِقَاب مطيهم ... وثور حاد بالرفاق عجول
أُخَالِف بَين الراحتين على الحشا ... وَأنْظر أَنِّي ملثم فأميل
فصل:
علمت كلبك فَهُوَ يتْرك شَهْوَته فِي تنَاول مَا صَاده احتراما لنعمتك وخوفا
من سطوتك وَكم علمك معلم الشَّرْع وَأَنت لَا تقبل حرم صيد الْجَاهِل والممسك لنَفسِهِ فَمَا ظن الْجَاهِل الَّذِي أَعماله لهوى نَفسه جمع فِيك عقل الْملك وشهوة الْبَهِيمَة وَهوى الشَّيْطَان وَأَنت للْغَالِب عَلَيْك من الثَّلَاثَة إِن غلبت شهوتك وهواك زِدْت على مرتبَة ملك وَإِن غلبك هَوَاك وشهوتك نقصت عَن مرتبَة كلب لما صَاد الْكَلْب لرَبه أُبِيح صَيْده وَلما أمسك على نَفسه حرم مَا صَاده مصدر مَا فِي العَبْد من الْخَيْر وَالشَّر وَالصِّفَات الممدوحة والمذمومة من صفة الْمُعْطِي الْمَانِع فَهُوَ سُبْحَانَهُ يصرّف عباده بَين مُقْتَضى هذَيْن الاسمين فحظ العَبْد الصَّادِق من عبوديته بهما الشُّكْر عِنْد الْعَطاء والافتقار عِنْد الْمَنْع فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُعْطِيهِ ليشكره ويمنعه ليفتقر إِلَيْهِ فَلَا يزَال شكُورًا فَقِيرا
قَوْله تَعَالَى {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظهيرا} هَذَا من ألطف خطاب الْقُرْآن وأشرف مَعَانِيه وَأَن الْمُؤمن دَائِما مَعَ الله على نَفسه وهواه وشيطانه وعدو ربه وَهَذَا معنى كَونه من حزب الله وجنده وأوليائه فَهُوَ مَعَ الله على عدوه الدَّاخِل فِيهِ وَالْخَارِج عَنهُ يحاربهم ويعاديهم ويغضبهم لَهُ سُبْحَانَهُ كَمَا يكون خَواص الْملك مَعَه على حَرْب أعدائه والبعيدون مِنْهُ فارغون من ذَلِك غير مهتمين بِهِ
وَالْكَافِر مَعَ شَيْطَانه وَنَفسه وهواه على ربه وعبارات السّلف على هَذِه تَدور ذكر بن أبي حَاتِم عَن عَطاء بن دِينَار عَن سعيد بن جُبَير قَالَ عونا للشَّيْطَان على ربه بالعداوة والشرك وَقَالَ لَيْث عَن مُجَاهِد قَالَ يظاهر الشَّيْطَان على مَعْصِيّة الله يُعينهُ عَلَيْهَا وَقَالَ زيد بن أسلم ظهيرا أَي مواليا وَالْمعْنَى أَنه يوالي عدوه على مَعْصِيَته والشرك بِهِ فَيكون مَعَ عدوه معينا لَهُ على مساخط ربه
فالمعية الْخَاصَّة لتي لِلْمُؤمنِ مَعَ ربه وإله قد صَارَت لهَذَا الْكَافِر والفاجر مَعَ الشَّيْطَان وَمَعَ نَفسه وهواه وقربانه وَلِهَذَا صدّر الْآيَة بقوله {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَنْفَعهُمْ وَلَا يضرهم} وَهَذِه الْعِبَادَة هِيَ الْمُوَالَاة والمحبة وَالرِّضَا بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم الْخَاصَّة فظاهروا أَعدَاء الله على معاداته ومخالفته ومساخطه بِخِلَاف وليه سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ مَعَه على نَفسه وشيطانه وهواه وَهَذَا الْمَعْنى من كنوز الْقُرْآن لمن فهمه وعقله وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صمًّا وعميانا} قَالَ مقَاتل إِذا وعظوا بِالْقُرْآنِ لم يقعوا عَلَيْهِ صمًّا لم يسمعوه وعميانا لم يبصروه وَلَكنهُمْ سمعُوا وأبصروا وأيقنوا بِهِ وَقَالَ ابْن عَبَّاس لم يَكُونُوا عَلَيْهَا صمًّا وعميانا بل كَانُوا خَائِفين خاشعين وَقَالَ الْكَلْبِيّ يخرّون عَلَيْهَا سمعا وبصَرا وَقَالَ الْفراء اذا تلِي عَلَيْهِم الْقُرْآن لم يقعدوا على حَالهم الأولى كَأَنَّهُمْ لم يسمعوه فَذَلِك الخرور وَسمعت الْعَرَب تَقول قعد يَشْتمنِي كَقَوْلِك قَامَ يَشْتمنِي وَأَقْبل يَشْتمنِي وَالْمعْنَى على مَا ذكر لم يصيروا عِنْدهَا صمًّا وعميانا وَقَالَ الزّجاج الْمَعْنى إِذا تليت عَلَيْهِم خروا سجدا وبكيا سَامِعين مبصرين كَمَا أمروا بِهِ وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة أَي لم يتغافلوا عَنْهَا كَأَنَّهُمْ صم لم يسمعوها وَعمي لم يروها قلت هَهُنَا أَمْرَانِ ذكر الخرور وتسليط النَّفْي عَلَيْهِ وَهل هُوَ خرور الْقلب أَو خرور الْبدن للسُّجُود.