قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين: باب في التقوى.
عَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ ـ رَضِيَ اللهُ عنه ـ عَنِ النَّبِيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم ـ قَال: «إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإنَّ اللهَ تَعَالَى مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّــقُوا الدُّنْيَا وَاتَّـــقُوا النّسَاءَ فَإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النّسَاءِ». رواه مسلمٌ حديث رقم (2742).
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على البشير النذير والسراج المنير نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
حقيقة الدنيا:
هذا الحديث حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله تعالى عنه ـ تضمن تنبيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولفت الأنظار إلى حقيقة الدنيا، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ» حلوة خضرة في طعمها وفي بهاء منظرها، فهي حلوة طعمًا ونضرة أو خضرة في المنظر، فتجذب النفوس ويغتر بها كثير من الخلق، وهذا هو أحد معنيي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ «إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ».
والمعنى الآخر أن الدنيا سريعة الانقضاء، سريعة الزوال كحال الخضرة في زوال نظرتها ويبسها وتحول حالها وكما قال ـ تعالى ـ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى(1)الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)﴾ [الأعلى:1-4] أي النبات الأخضر، ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾ [الأعلى:5] تحول من جمال وبهاء ونفع إلى غثاء لا نفع فيه، أحوى أسود قد احترق من طول الزمن ومن مضي الليالي والأيام، فالدنيا مهما طابت وزانت فهي في النهاية تتحول وتتغير لا تبقى على حالها، بل تزول وتذهب بهجتها ولا يبقى منها ما تتعلق به النفوس.
فالحديث على هذين الوجهين والمعنيين بيان لحقيقة الدنيا، والدنيا ينطبق عليها الوصفان، فهي حلوة خضرة يغتر بها من يغتر لكن سرعان ما تتحول وتذهب نظرتها وتنكشف عورتها ويتبين للإنسان حقيقة الدنيا وأنها فانية زائلة وأن ما فيها من المتع ليس له دوام، إما أن يرتحل عنه الإنسان وإما أن ترتحل عنه الدنيا.
«إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإنَّ اللهَ ـ تَعَالَى ـ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا» أي الله ـ عز وجل ـ جعلكم فيها خلفاء يخف بعضكم بعضًا يأتي قرن ويذهب آخر ويأتي قرن ويذهب آخر وهلم جر إلى أن تنقضي الآجال ويبلغ الكتاب أجله، وهذا معنى الاستخلاف فالله ـ تعالى ـ جعل الناس خلائف في الأرض يخلف بعضهم بعضًا، «فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» أي يرى ما يكون من عملكم بما يجريه عليكم من تحول أحوال الدنيا وبهجتها وزينتها وتغير ذلك.
حكمة الابتلاء في الدنيا:
فالله ـ تعالى ـ يبتلي الناس بما يبتليهم به من الخير والشر والنعمة وأنواع العطاء والسلب، كل ذلك اختبار، الصحة اختبار، المرض اختبار، الغنى اختبار، الفقر اختبار، القوة اختبار، الضعف اختبار، كلنا في ابتلاء كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء:35]، أي اختبار فيبتلي الله ـ تعالى ـ الخلق في هذه الدنيا بما يبتليهم به مما يجريه عليهم، فالدنيا ليس دار بهجة ومتعة ودار قرار يسر بها الإنسان بل هي دار اختبار ينبغي أن نكون فيها على غاية الحذر والاستبصار في العواقب والخواتيم.
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فَاتَّــقُوا الدُّنْيَا وَاتَّـــقُوا النّسَاءَ»[صحيح مسلم (2742)] اتقوا الدنيا أي اجعلوا بينكم وبين ما يخاف من أمر الدنيا وقاية، وليس المقصود بـ "اتقوا الدنيا" الترك الكلي لها؛ لأنه لا يمكن هذا، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص:77].
فتنة النساء:
فالمقصود بــ «فَاتَّــقُوا الدُّنْيَا» أي أطيعوا الله ـ عز وجل ـ فيما يتعلق بشأن الدنيا، «وَاتَّـــقُوا النّسَاءَ» أي وأطيعوا الله ـ تعالى ـ فيما يتعلق بأمر النساء، فتقوى النساء ليس باجتنابهن، إنما بالقيام بأمر الله تعالى في شأنهن، والله ـ تعالى ـ يذكر بعض الأشياء ويأمر بتقواه فيها أو بتقواها أي بجعل وقاية بينها وبين ما يخاف من الضرر الناتج عن التفريط فيها كما قال ـ تعالى ـ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ ثم قال: ﴿وَالأَرْحَامَ﴾ [النساء:1]، في قراءة يعني واتقوا الأرحام.
ومعنى اتقوا الأرحام أطيعوا الله في الأرحام فلا تضيعوها ولا تبخسوها حقوقها، وما إلى ذلك فقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَاتَّـــقُوا النّسَاءَ» أي احذروا منإضاعة حق الله في النساء، وذكر النساء وليس هذا تفريطًا في حق الرجال، فإن الرجال مبتلُون بالنساء كما أن النساء مبتلَون بالرجال كما قال ـ تعالى ـ:﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ [الفرقان:20]، وكما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام:53].
فالفتنة تحصل من الرجل بالمرأة ومن المرأة بالرجل، فأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتقوى النساء يتضمن أمر النساء بتقوى الله ـ تعالى ـ في الرجال بأداء الحقوق التي عليهن تجاه الرجال.
ثم بعد ذلك ختم النبي ـصلى الله عليه وسلم ـ هذا الحديث بذكر أن فتنة بني إسرائيل، «فَإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النّسَاءِ»أي في شأن النساء بإضاعة حق الله فيهن، وهذا قد يفهمه بعض الناس أنه تحذير من الافتتان بالنساء الأجنبيات، وهذا غلط، ليس هذا المقصود فقط بل اتقوا الله في النساء وفتنة بني إسرائيل في النساء شاملة لإضاعة حق الله في النساء فيما يتعلق بالزوجات، فيما يتعلق بالبنات، فيما يتعلق بكل من له حق في النساء على الإنسان، وفيما يتعلق بالأجنبيات من غض الأبصار والبعد عن طرائق الزنا وما أشبه ذلك الذي قال الله ـ تعالى ـ فيه:﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾[الإسراء:32].
فالحديث بعد أن ذكر ما ذكر من فتن الدنيا، حذر من فتنتين يختبر فيهما الناس، الدنيا على وجه العموم ثم النساء على وجه الخصوص لما يجري من كثير من الناس من التفريط والتضييع لحقوق الله تعالى المتعلقة بالنساء.
الحديث فيه جملة من الفوائد، من الفوائد بيان حقيقة الدنيا، وأن الإنسان ينبغي ألا تغريه نظرتها وحلاوتها وبهاؤها، بل ينظر إلى عاقبتها ونهاية مآلها، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في شأن الدنيا بعد أن ذكر نضرتها وحلاوتها قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَإنَّ اللهَ ـ تَعَالَى ـ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا» فليس فيها بقاء لا بد من الارتحال والزوال.
استحضار وجوب الرحيل:
وفي الحديث التذكير بالرحيل ووجوب استحضار ذلك؛ لأن هذا مما يعين الإنسان على القيام بحق الله عز وجل، وفيه التحذير من الافتتان بالدنيا عمومًا ومن الافتتان بالنساء خصوصًا فيما يتعلق بحقوقهن، وفيه أن بني إسرائيل فرطوا في شأن النساء تفريطًا عظيمًا فكان ذلك موجبًا لافتتانهم وكان أول فتنتهم.
هذه الأمة جاء الخبر في السنن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «وفِتنَةُ أُمَّتي المَالُ» سنن الترمذي (2336) فالفتنة ليست مقصورة على صورة يفتن الإنسان في نفسه فيما يتعلق بما آتاه الله من قدرات، فيما آتاه الله من مال، فيما يتعلق بالنساء، فيما يتعلق بالوظيفة، فيما يتعلق بحق والديه، كل ذلك مما يبتلى فيه الناس ليتبين الصادق في إيمانه من المقصر في ذلك ومن الكاذب في ذلك.
نسأل الله أن يعيننا وإياكم على تقواه وأن يرزقنا القيام بحقه وأن يرزقنا حفظ ما أمر به في خاصتنا وفي سائر شأننا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.