قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين: في باب في التقوى.
قال: عَن ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنه ـ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم ـ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إنّي أَسْأَلُكَ الهُدَى والتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى". رَوَاه مسلمٌ حديث رقم (2721).
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
فهذا الحديث حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه ـ أخبر فيه عن دعاءٍ نبوي كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقوله في دعاءه، وأجمع الدعاء أدعية المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد جمعت كمال العلم في المسئول والإجمال في السؤال والأدب في الطلب، ولهذا ليس فوق أدعية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعاء من حيث جمعها للخير ومن حيث استيفاء شروط إجابة الدعاء التي يؤذن بإجابة الدعاء فيها.
سؤال جماع الخير:
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دعائه: «اللَّهُمَّ إنّي أَسْأَلُكَ الهُدَى والتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى» [صحيح مسلم (2721)] هذه أربع مسائل سألها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صدرها بالتوسل إلى الله ـ عز وجل ـ بإلهيته، اللهم، واللهم كلمة تقال في صدر الدعاء هي بمعنى يا الله، فاللهم دعاء الله ـ تعالى ـ بإلهيته، يا الله، «اللَّهُمَّ إنّي أَسْأَلُكَ» أي أطلب منك، «الهُدَى» والهدى هو معرفة الحق والعلم به، «والتُّقَى» وهو ثمرة ذلك، فإن التقوى ثمرة العلم وهي العمل بالعلم، فسأل الله ـ تعالى ـ العلم وثمرته، العلم هو الهدى وثمرته التقى، وهو أن يطيع الله ـ تعالى ـ فيما أمر رغبةً فيما عنده، وأن يترك ما نهى عنه وزجر خوفًا من عقابه، رغبة ورهبة.
ثم بعد ذلك قال: «وَالعَفَافَ» والعفاف هو ترك ما لا يباح، فسؤال الله ـ تعالى ـ العفاف، سأل الله أن يعينه على ترك ما لا يحل وما لا يباح، سواء كان ذلك في شأن الأموال أو كان ذلك في شأن الفروج، أو كان ذلك في شأن النظر والسماع أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.
ورابع المسائل التي سألها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ «وَالغِنَى»، والغنى هنا يشمل معنيين:
المعنى الأوسع: غنى النفس لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما جاء في الصحيحين «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ» يعني عن كثرة الأموال والممتلكات، «وَلكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ»صحيح البخاري (6446), وصحيح مسلم (1051)، بأن يمتلأ قلب الإنسان كفاية عن الخلق وتعلق بالخالق، فغنى النفس قوامه أن يمتلأ القلب اكتفاءً بالله ـ عز وجل ـ عن خلقه، فإذا اغتنت النفس كفت اليد عن سؤال الناس، والعين عن النظر إلى ما في أيديهم، وكان ذلك من أعظم ما يناله الإنسان من الطمأنينة والانشراح والراحة وهدوء البال.
فقوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «وَالعَفَافَ وَالغِنَى» ذكر مسألتين مرتبطتين، فإن الغنى مما يعين على العفاف، فسأل الله ـ عز وجل ـ العفاف وهو الثمرة، والغنى وهي المقدمة؛ لأن النفس إذا اغتنت بالله كفت عما يغضبه ـ جل في علاه ـ فلم تطلب ما حرم، لا في مسمع ولا في مبصر ولا في مأكل ولا في لذة ومتعة ولا في شيء من شئون المحرمات.
الرسل أيضا تسأل الله عز وجل:
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد، من فوائده أن السؤال والطلب لا يقتصر فقط على عموم الخلق دون النبيين والمرسلين، بل الرسل أشرفهم بحاجة إلى سؤال الله ـ عز وجل ـ فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسأل الله ويطلبه، فكل من له حاجة فليتوجه إليه ـ جل في علاه ـ كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَأسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾[النساء:32]، ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء:32]، فينبغي للإنسان أن يتوجه في سؤاله إلى عز وجل وينزل حاجته به.
وفيه عظم هذه المسائل وأنها من جوامع الخير الذي يجمع للإنسان خير الدنيا والآخرة، فالهدى والتقى والعفاف والغنى مما يصلح به دين الإنسان ودنياه، ومما يسعد به في العاجل والآجل.
الكل محتاج إلى العلم:
وفيه أن كل أحد محتاجٌ إلى العلم وهو أشرف المطلوبات، ولهذا قدمه في هذه المسائل، فسأل الله أول ما سأل العلم؛ لأنه مصدر كل فضيلة ومنبع كل خير، ولهذا لم يطلب في القرآن الزيادة إلا في أمرين في العلم وثمرته التقى، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة:197]، وقال في العلم ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114]، فالعلم مفتاح الخيرات لذلك قدمه في المسائل والمطلوبات، ثم التقى؛ لأن التقى به يصلح حال الإنسان وهو خير ما خرج به الإنسان من دنياه، ثم تكملت ذلك بما يصلح معاشه وآخرته من العفاف والغنى، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.