قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين في باب في اليقين والتوكل قال:
قال الله ـ تعالى ـ: {وتوكل على الحي الذي لا يموت}، وقال ـ تعالى ـ: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}، وقال ـ تعالى ـ: {فإذا عزمت فتوكل على الله}، والآيات في الأمر بالتوكل كثيرة معلومة.
وقال ـ تعالى ـ:{ومن يتوكل على الله فهو حسبه}: أي كافيه. وقال ـ تعالى ـ: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون}، والآيات في فضل التوكل كثيرة معروفة.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فهذه الآيات الكريمات جاء بها المؤلف ـ رحمه الله ـ في باب التوكل على الله ـ عز وجل ـ باب اليقين والتوكل لبيان منزلة التوكل وجميل عواقبه، فالتوكل واجب فرضه الله ـ تعالى ـ على المؤمنين فأمر به ـ جل وعلا ـ في مثل قوله: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾[الفرقان: 58] وهو أمر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمر لكل من بلغه الخطاب أن يصدق في اعتماده على الله ـ عز وجل ـ في جلب ما يحب ودفع ما يكره لأن التوكل يدور على أمرين؛ توكل على الله ـ عز وجل ـ في جلب ما يحب، وتوكل على الله ـ عز وجل ـ في دفع ما يكره.
سعي الإنسان بين المرغوب والمرهوب:
فالإنسان إما أن يسعى إلى مطلوب، وإما أن يسعى في الافتكاك من مخوف مرهوب والتوكل هو الطريق الذي يصل به الإنسان إلى تحقيق مطلوبه والفوز بأربه من السلامة من المكروه وتحصيل المحبوب.
وذكر هذه الصفة ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾[الفرقان: 58] تنبيه إلى أن من يستحق أن يركن إليه القلب وأن يعتمد عليه في شئونه هو من اتصف بهذا الوصف، وهو الحي الذي لا يموت الحي كامل الحياة الذي لا يتطرق إليه الموت وهو الحي القيوم جل في علاه، فإنه القائم على كل نفس بما كسبت وبقدر يقين الإنسان بصفات الله وكمالاته بقدر ما يكون في قلبه من التوكل عليه هذا تلازم إذا أردت أن تعرف قدر ما في قلبك من التوكل انظر إلى ما في قلبك من العلم بالله ومعرفته.
ولذلك قرن المؤلف ـ رحمه الله ـ بين اليقين والتوكل في هذا الباب، لأن التوكل ثمرة اليقين ولا يكون يقين إلا بتمام العلم، بما لله ـ عز وجل ـ من الأسماء الحسنى والصفات العلى وجميل الأفعال ـ سبحانه وبحمده ـ وقد ذكر الله تعالى عواقب التوكل ومن جميل عواقبه أنه من توكل على الله كفاه كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[الطلاق: 3] ومعنى فهو حسبه أي: كافيه كل ما أهمه والإنسان همه يدور إما على إدراك ما يحب، وإما على السلامة مما يخاف.
التوكل طريق إدراك المطلوب:
فالتوكل هو الطريق الذي يدرك به الإنسان السلامة من المكروهات ويدرك به بلوغ ما يؤمل من المحبوبات والتوكل على الله يكون في كل شأن دقيق أو جليل، صغير أو كبير، ولذلك هنا لم يذكر في أي شيء نتوكل عليه بل قال: وتوكل على الله وقال في الآية الأخرى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[الطلاق: 3]، ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[المائدة: 23] فلم يقل توكلوا عليه في الرزق، أو توكلوا عليه في تحصيل مطلوب معين، بل التوكل عليه يكون في كل شأن في أمر الدين بصلاح القلوب، فيتوكل المؤمن على الله ـ عز وجل ـ في إصلاح قلبه وإصلاح عمله وسلامته من الشرك وسلامته من النفاق وسلامته من البدعة وسلامته من المعصية فمن توكل على الله في صلاح دينه بلغه الله ـ تعالى ـ ما يؤمل في صلاح الدين.
التوكل سبيل إدراك المعاش:
ومن توكل عليه في صلاح معاشه بأن يكفيه في بدنه مأكلًا ومشربًا وملبسًا ويكفيه في نفسه وماله وولده وأهله أمنًا فإن الله ـ تعالى ـ يبلغه ذلك، ولهذا كلما عظم توكل الإنسان على الله ـ عز وجل ـ أدرك مطلوبة ولهذا أقوى أسلحة المرء في إدراك ما يريد أن يتوكل على الله ـ عز وجل ـ وقد قيل: إن أعظم أية جاء بها هود ـ عليه السلام ـ هو عظيم توكله وإظهاره التوكل على الله ـ عز وجل ـ في مقابلة قومه، فإنه لم يأتيهم بأية أو معجزة بل توكل على الله ـ عز وجل ـ في السلامة منهم، وفي السلامة من كيدهم ومكرهم وفي مضيه في رسالة ربه، فبلغه الله ـ تعالى ـ ذلك فكان ـ عليه السلام ـ متوكلًا على الله –عز وجل- في إدراك مطلوبة.
وقد قال بعض أهل العلم: إن من صدق توكله على الله ـ عز وجل ـ في أي شأن فلابد أن يدركه، وسيأتينا أحاديث كثيرة في التوكل، لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير فالتوكل قرين حصول المطلوب، إذا أردت أن تعرف هل تدرك مطلوبك أو لا فانظر إلى ما في قلبك من التوكل.
ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ادعُوا اللهَ وأنتم مُوقِنُون بالإجابةِ» [سنن الترمذي (3479)]وهذا كله معنى قوله ـ سبحانه ـ: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ والتوكل خصلة من خصال الإيمان وهو عمل قلبي يقوم في قلب الإنسان ثمرة لمعرفته بالله وصدق إيمانه به.
ولذلك قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾[الأنفال: 2] وانظر كيف جاء بالتوكل بعد زيادة الإيمان لأن التوكل ثمرة كمال الإيمان.
أسال الله أن يرزقني وإياكم صدق التوكل عليه في الدقيق والجليل، والصغير والكبير، وفي صلاح ديننا ودنيانا وأن يعيذنا من الشياطين وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم على نبينا محمد.