قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين في باب في اليقين والتوكل:
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ «عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب»، ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: «ما الذي تخوضون فيه؟» فأخبروه فقال: «هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون؛ وعلى ربهم يتوكلون» فقام عكاشة ابن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: «أنت منهم» ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: «سبقك بها عكاشة» متفق عليهصحيح البخاري(5752) وصحيح مسلم(216).
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فهذا الحديث حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ في قصة عرض الأمم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المنام فقوله: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ»[صحيح البخاري (5705)، ومسلم (220)] أي في منامه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وقيل: هذا العرض لما أسري به والصواب أنه عرض في المنام كان قد رآه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى فيه الأمم أي: رأى الأنبياء ومن أجابهم من الأمم المتقدمة.
فرأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس معه أحد يعني لم يستجب له أحد، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط يعني من دون عشرة، ورأى سوادًا قد سد الأفق، فإذا ظن أنهم أمته فإذا هو موسى وقومه وهذا لكثرة من تبع موسى من الناس من بني إسرائيل، ثم رأى سوادًا عظيمًا فقيل له هذه أمتك ومعهم سبعون ألفًا وهذه ميزة ليست في الأمم السابقة سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
أقسام الناس في الحساب يوم القيامة:
وهذه منقبة كبرى إذ الناس يوم القيامة في الحساب على ثلاثة أقسام:
الأول: قسم يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ومعنى بلا حساب أي: لا يجري لهم موازنة بين الحسنات والسيئات، بل يمحو الله سيئاتهم ولا يعد عليهم من كان من الخطايا، وإلا فما من أحد إلا وعنده ذنب «كلُّ ابنِ آدمَ خطاءٌ ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوابونَ»[سنن ابن ماجه (4251)، وحسنه الألباني] لكن الله بفضله يتجاوز عنهم يدخلون الجنة من غير حساب فلا يحاسبون ولا توزن أعمالهم موازنة الحسنات والسيئات.
الثاني: قوم يحاسبون حسابًا يسيرًا، وهم أهل الإيمان الذين تعرض عليهم ذنوبهم ويقررون بها فيعفو الله ـ تعالى ـ عنهم ويقول لهم سترتها عليكم في الدنيا وأنا اغفرها لكم اليوم.
من نوقش الحساب عذب:
والقسم الثالث: من نوقش الحساب عذب وهم الذين يناقشون الحساب مناقشة، فيعرض عليهم الذنب ويسألون عنه ويوبخون عليه وهذا حال أهل الكفر الذين تعرض عليهم سيئاتهم ويقررون بها ثم يصار بهم إلى النار نعوذ بالله من الخذلان، فيأتي الرجل إلى الله ـ عز وجل ـ فيقول: ألم أرأسك ألم أزوجك ألم أربعك فيعدد عليه نعمه، أكنت تظن أنك ملاقيه! يعني هل كنت تظن أنك ستحاسب وتلاقي ربك وترجع إلى يوم الدين فيقول: لا يا رب فيقول: اليوم أنساك كما نسيتني فيلقى في النار نعوذ بالله، هذه أقسام الناس في الحساب.
ثم انصرف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبعض شغله، الصحابة أثارهم هذا الحديث الذي ذكر فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوما يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فخاضوا في أولئك لتحديد أوصافهم لعلهم أن يكونوا منهم فقالوا: هم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئًا، وقيل في ذلك أقوال خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسألوه فقال: "هم لا يسترقون يعني لا يطلبون الرقية من أحد" وقوله: لا يسترقون يعني طلبًا وإلا فالرقية مشروعة يرقي الإنسان نفسه لكنه لا يطلبها من غيره توكلًا على الله واعتمادًا عليه، ولا يكتوون أي: ولا يستعملون الكي والكي مما يعالج به وقد ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أنفع العلاجات، لكنه يتضمن من الأذى على البدن ما جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تركه مما يؤجر عليه الإنسان بهذا الأجر، ولا يتطيرون أي ولا يتشاءمون والتشاؤم هو أن يتوقع الإنسان الشر بلا سبب، إما بسبب مسموع، إما أن يسمع صوت يقول اليوم تأتي مشكلة أو يرى منظر يكرهه ويقول: اليوم تتعكس أموري أو يبلغه علم فيتشاءم به ويقول: سيصيبني شؤم اليوم بسبب هذا العلم الذي جاءني، ومنه ما يفعله بعض الناس إذا رفت عينه اليمنى قال: يأتي خير، وإذا رفت عنه اليسرى قال: يأتي شر، وإذا سمع طنين في الأذن قال يأتي خير أو يأتي شر أو ما أشبه ذلك.
كل هذا من التطير الذي جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ السلامة منه موجبة بدخول الجنة بغير حساب ولا عذاب، ذكر ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة أمور لا يرقون ولا يكتوون ولا يتطيرون ثم ذكر وصفًا قيل: هو الوصف الجامع لهذه الأوصاف الثلاثة، وقيل هو وصف مستقل وعلى ربهم يتوكلون هذا هو الشاهد من الحديث.
وعلى ربهم يتوكلون أي يصدقون في الاعتماد على الله، ويفوضون الأمر إليه في جلب ما يريدون من خير وفي دفع ما يكرهون من الشر وعلى ربهم لا على غيره يتوكلون فنعم المولى ونعم النصير، هو نعم الوكيل جل في علاه هذه خصال أربعة وفي رواية ولا يرقون وهذا غلط فالرواية هذه غير محفوظة لا يرقون يعني لا يرقون غيرهم وهذا إحسان وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما سأل عن الرقى قال: «مَن استطاعَ منكم أنْ يَنفَعَ أخاهُ فلْيفعَلْ»[صحيح مسلم (2199)].
فليس ثمة إشكال في رقية الغير، إنما الكمال في أن يستغني الإنسان عن كل أحد، ويفوض أمره للذي بيده الأمر جل في علاه ويثق بالله –سبحانه وبحمده- وهذا جزاء عظيم وأجر كبير لا يناله إلا من حقق تمام التوكل على الله –عز وجل- وكل هذه الأمور لا يسترقون لا يكتوون لا يتطيرون هي إشارات لعظيم ما في قلوبهم من التعلق بالله –عز وجل- والإقبال عليه والانقطاع له –سبحانه وبحمده-.
الأخذ بالأسباب:
ولا يعني هذا ألا يأخذ الإنسان الأسباب، فإن الأسباب مشروع أخذها، وهي من تمام التوكل أعقلها وتوكل، وليس ذلك منافي للتوكل والله تعالى يقول: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ﴾[الأنفال: 60] فأمر بأخذ الأسباب في مقابلة الأعداء، وفي كل شأن فما من شيء إلا وله سبب أخذ الأسباب من تمام العقل ومن سلامة الدين، لكن خذ السبب ولا تعلق قلبك به، علق قلبك بالمسبب بالله.
ففي كل أمر من أمورك علق قلبك بالله، وخذ بالأسباب لأنها مقدمة الزارع يبذر لو ما بذر ما طلع الزرع، لكن لا يعلق قلبه بفعله بزرعه يبذر ويعلق قلبه بالله، الذي ييسر نبات هذا البذر وحصول المقصود منه ثمر، وهكذا في كل الأمور الخاصة والعامة في بيتك وفي عملك وفي حاضرك وفي مستقبلك ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[المائدة: 23].
اللهم ارزقنا تمام التوكل عليك وأملأ قلوبنا بتفويض الأمر إليك، لا حول ولا قوة إلا بك حسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله وسلم على نبينا محمد.