قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين في باب في اليقين والتوكل:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت. اللهم أعوذ بعزتك؛ لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا تموت، والجن والإنس يموتون» متفق عليه، وهذا لفظ مسلم(2717) واختصره البخاري(7383).
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فهذا الحديث حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ في الصحيحين وهو بعض ما كان يقوله النبي –صلى الله عليه وسلم- في افتتاح صلاة الليل «اللهمَّ لك الحمد، أنت نور السَّموات والأرض ومَن فيهنَّ، ولك الحمد، أنت قيُّوم السموات والأرض»[صحيح البخاري (1120)، ومسلم (769)] إلى آخر الدعاء وفي أثنائه في رواية مسلم كان يقول –صلى الله عليه وسلم-: «اللهمَّ لك أسلمتُ» اللهم يعني يا الله لك أسلمت أي انقدت لك وأتبعت أمرك والإسلام في مثل هذا السياق يتعلق بالعمل الظاهر، لأنه عطف عليه الإيمان فقال: «اللَّهمَّ لكَ أسلَمتُ، و بكَ آمَنتُ» وبك أقررت وصدقت تصديقًا جازمًا لا ريب فيه ولاشك.
بين الإسلام والإيمان:
فيكون الإسلام فيما يتعلق بالعمل الظاهر والإيمان فيما يتعلق بعمل القلب، وبه يكمل حال الإنسان «اللَّهمَّ لكَ أسلَمتُ، و بكَ آمَنتُ» ثم بعد ذلك ذكر ثمرة الانقياد لحكم الله –عز وجل- وثمرة الإيمان به قال: «وعليكَ توكَّلتُ» أي فوضت الأمر وصدقت في الاعتماد والتوكل عليك في كل ما اطلبه من تحصيل مرغوب أو الأمن من مرهوب.
التوكل ثمرة الإيمان:
وهذا يدل على أن التوكل ثمرة الإيمان، فكلما ازداد الإنسان إيمانًا زاد توكلًا على الله –عز وجل- «وإليكَ أنَبتُ» يعني رجعت وذلك أن الإنسان قد يحصل منه عثرة، قد يحصل منه تقصير، قد يحصل منه غفلة، فيحتاج إلى دوام الأوبة والرجوع والإنابة إليه –سبحانه وتعالى- فقال: وإليك أنبت أي في حال حصول شيء من القصور أو التقصير فإني إليك منيب وإليك أنبت أي رجعت بالتوبة والاستغفار ولزوم الإيمان والإسلام والتوكل عليك.
«ولكَ خاصَمتُ» أي بما تفتحه من الحجج أخاصم من يخاصمني في ديني أو فيما هو من حقوقك، فالمخاصمة ليس بحولي ولا قوتي، إنما بعونك وتسديدك وهدايتك وتوفيقك، والإنسان لا يخلو من خصام في هذه الدنيا لأن الخصوم متنوعون، فمنهم من يخاصمك في دينك، ومنهم من يخاصمك في دنياك على اختلاف مراتب ودرجات الخصوم.
ولهذا كان الإنسان محتاجا إلى عون الله في دفع ما يكرهه من شأن الخصوم، ولا يمكن أن يسلم ويستقيم له حاله إلا بأن يكون مخاصمًا بالله، ومن خاصم بالله لم يتعد حدوده، ومن خاصم بالله كفي من كل ما أهمه في شأن من خاصمه واعتدى عليه.
بعد الثناء يأتي السؤال:
بعد هذه الأمور الخمسة «للَّهمَّ لكَ أسلَمتُ، وبكَ آمَنتُ، وعليكَ توكَّلتُ، وإليكَ أنَبتُ، ولكَ خاصَمتُ» جاء السؤال والطلب «أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت» أي: احتمي واعتصم وألتجأ إليك متوسلًا بعزتك والعزة هي الغلبة والقوة والظهور والقدرة، فهي صفة تجمع صفات العظمة والامتناع والقدرة والغلبة «أَعُوذُ بعِزَّتِكَ، لا إلَهَ إلَّا أَنْتَ» توسل بالتوحيد أي: مقرًا بأنه لا معبود حق سواك فما هو المطلوب؟
أن تضلني أعوذ بعزتك احتمي بعزتك أن أقع في شيء من الضلال، والضلال هو الهلاك والضياع والذهاب عن الحق والهدى، وهو نوعان؛ ضلال بعدم العلم، وضلال بعدم العلم، عدم العلم ضلال، وعدم العمل بالعلم ضلال وكلاهما مما استعاذ منه النبي –صلى الله عليه وسلم- في هذا الدعاء متوسلًا إلى الله بعزته ومتوسلًا إليه بتوحيده أي: أن أقع في شيء من الضلال أو أن أتورط في شيء من الانحراف الذي يخرجني عن الصراط المستقيم.
بعد الإقرار بما تقدم من الأعمال الجليلة العائدة إلى العبادة والإنابة والاستعانة والتوكل جاء الطلب، ثم عاد متوسلًا إلى الله –عز وجل- مظهر الافتقار إليه فقال: «أَعُوذُ بعِزَّتِكَ، لا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الحَيُّ الذي لا يَمُوتُ» فلا يسأل سواه ولا يلجأ إلى غيره وسائر الخلق قال: «وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ»[صحيح مسلم (2717)] وذكر موت الجن والإنس لأجل يتم اعتقاد الإنسان أنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، وأنه لا يمكن أن يؤمل إلا بلجئه إلى الله واعتصامه به وتوكله عليه.
هذا الدعاء النبوي تضمن توسلا إلى الله –عز وجل- بالعمل ثم بعد ذلك جاء الطلب، توسل إلى الله بالعمل حيث أقر له بالإسلام له والإيمان به والتوكل عليه والإنابة إليه والمخاصمة به كل هذه أعمال توسل بها بين سؤاله بين يدي سؤاله وطلبه فقال: «أَعُوذُ بعِزَّتِكَ، لا إلَهَ إلَّا أَنْتَ» توسل بصفاته وإلهيته أن تضلني وعاد إلى إظهار تمام الافتقار إلى الله بقوله: «أَنْتَ الحَيُّ الذي لا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ» ومن يموت لا يلجأ إليه لتحصيل مطلوب، إذ هو فقير عاجز مقهور مربوط، إنما يلجأ إلى الحي القيوم الذي هو قائم على كل نفس لما كسبت.
افتقار لإنسان إلى هداية الله عز وجل:
والخلاصة أن هذا الذكر العظيم وهذا الدعاء الجليل يبين عظيم افتقار الإنسان إلى هداية الله، وقد قال الله –عز وجل-: «يا عبادي، كلُّكم ضَالٌّ إلَّا مَن هديْتُه» ما فينا أحد إلا وهو معرض للضلال، ولا يمكن أن يسلم منه إلا باللجأ إلى الله –عز وجل- وسؤال الهداية «فاستهدُوني» أي اطلبوا الهداية مني أهدكم أي أدلكم وأعنيكم فالهداية هنا تتضمن الدلالة والإعانة على تحصيل المطلوب وسلوك الصراط المستقيم.
اللهم اهدنا فيمن هديت، أملأ قلوبنا بالتوكل عليك واليقين بأمرك وحكمك، لا إله غيرك سبحانك وبحمدك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.