قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين في باب في اليقين والتوكل:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:«يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير» رواه مسلمحديث رقم (2840). قيل: معناه متوكلون، وقيل: قلوبهم رقيقة.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
هذا الحديث حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ فيه خبر نبوي جليل، وهو بيان صفة قلوب من يدخل الجنة جعلنا الله ـ تعالى ـ وإياكم منهم يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يَدخُلُ الجنَّةَ أقوامٌ أفئدتُهم مثلَ أفئدةِ الطيرِ»[صحيح مسلم (2840)] الجنة هي دار النعيم الكامل الذي أعد الله ـ تعالى ـ فيها لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهي رحمة الله التي يرحم بها أولياءه وأصفيائه «يَدخُلُ الجنَّةَ أقوامٌ أفئدتُهم مثلَ أفئدةِ الطيرِ» يعني مثل أفئدة الطير.
والطير المقصود به جنس الطير وهو من أرق الحيوان قلبًا، ولذلك كان الطير من أشد الحيوان تأثرًا ويضرب به المثل في النوح والتأثر على الفقد وغير ذلك.
أقوال العلماء في التشبيه بالطير:
وتشبيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قلوب هؤلاء بالطير للعلماء فيه عدة أقوال فقيل: إن تشبيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قلوب هؤلاء بالطير لأنهم أهل توكل وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما جاء في المسند من حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ: «لو توكلتم على اللهِ حقَّ توكُّلِه لرزقكم كما تُرْزَقُ الطيرُ تَغْدُوا خِماصًا وتَرُوحُ بِطانًا» (مسند الإمام أحمد (373)
أي كما يرزق الطير بسبب توكله واعتماده على الله ـ عز وجل ـ في تحصيل مطلوبه وإدراك معاشه ومصالحه فلو توكل عبد على الله كتوكل الطير كان ذلك موجبًا لإدراك ما يؤمل ويسلم مما يخاف ويرهب وهذا معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو هذا مما فسر به قوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ «يَدخُلُ الجنَّةَ أقوامٌ أفئدتُهم مثلَ أفئدةِ الطيرِ» في توكلها وتفويضها الأمر إلى الله ـ عز وجل ـ واعتمادها عليه في تحصيل مصالحها والسلامة مما تخاف وترهب وهذا هو أنسب المعاني للباب لأن الباب يتكلم عن اليقين والتوكل.
وجزاء المتوكل الجنة جاء به الخبر، بل أعلى ما يكون من جزاء المؤمنين أن يدخلوا الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهذا قد بين النبي –صلى الله عليه وسلم- من يفوز به في قوله في حديث عبد الله بن عباس في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قال: «هُمُ الذينَ لا يَرقُونَ، ولا يَسترقُونَ، ولا يَتطيَّرُونَ، ولا يَكتَوُونَ، وعلى ربِّهمْ يَتوكَّلُونَ».
فالتوكل من الصفات الموجبة للفوز بالجنة ودخولها على هذه الصفة بغير حساب ولا عذاب، وهذا الحديث حديث أبي هريرة «يَدخُلُ الجنَّةَ أقوامٌ أفئدتُهم مثلَ أفئدةِ الطيرِ» بيان أن التوكل من أسباب دخول الجنة، وأن جزائه الجنة مع أن التوكل متعلق ومتعدد يعني التوكل ليس له متعلق واحد، بل متعلق متعدد فيتوكل الإنسان على الله –عز وجل- في إصلاح قلبه، يتوكل على الله –عز وجل- في توفيقه للطاعة والإحسان وصالح الأعمال، يتوكل على الله –عز وجل- في أن يتوقى السيء من العمل ويسلم من الخطأ والزلل وكل هذا من التوكل الديني، وهو من أشرف أنواع التوكل وهو توكل الأصفية والأولية من عباد الله الصالحين.
التوكل لتحصيل المعايش أيضا:
يكون التوكل أيضًا فيما يتعلق بأمر المعاش في تحصيل المكاسب، وإدراك المرغوبات والسلامة من المرهوبات يكون التوكل من الحيوان ولهذا التوكل من العبادات التي يشترك فيها الإنسان مع غيره من سائر خلق الله –عز وجل- فالحيوان يتوكل على الله، ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «كافئ ذات الطير» وقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «لو توكلتم على اللهِ حقَّ توكُّلِه لرزقكم كما تُرْزَقُ الطيرُ» أي: في توكله وفي اعتماده على الله في جلب مطلوبة والأمن من مرهوبة.
فالتوكل متعلق ومتعدد ومع ذلك جعل الله ـ تعالى ـ جزاءه وأجره الجنة فمن يتوكل على الله في دينه يفوز بالجنة ومن يتوكل على الله في دنياه أي: في سلامة ديناه وإصلاحها أيضًا تحقق عبادة ينال بها الأجر والثواب من الله –عز وجل- إذا استوفى بقية ما يكون من واجبات دخول الجنة وسلم من الموانع ومما فسر به الحديث أن هؤلاء قلوب الطير في خوفها، فالطير من أشد الحيوان حذرًا وخوفًا.
فهم يخافون الله –عز وجل- ويخشونه كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[فاطر: 28] وهذا المعنى لم يشر إليه المصنف في كلامه أشار إلى المعنى الثالث وهو أن قلوبهم كقلوب الطير في رقتها أي: في لينها وعدم قسوتها وزوال خشونتها وصلفها، وهذا بالتأكيد من دلائل سلامة القلب وصلاحه أن يكون رقيقًا والرقة في القلب معناه أنه سريع الانفعال والتأثر والاتعاظ والاعتبار بما يسمعه من آيات الكتاب أو بما يشاهده من الآيات التي بثها الله تعالى في الآفاق والأنفس ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾[يوسف: 105] لأن قلوبهم قست فعميت قال –سبحانه وتعالى-: ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾[الحج: 46].
قسوة القلوب تحول دون رؤية آيات الله وآلائه:
فهؤلاء لما عميت قلوبهم لم تتأثر بما تشاهده من الآيات، قست حتى كانت كما قال الله تعالى: ﴿كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾[البقرة: 74] لذلك ينبغي للإنسان أن يتفقد قلبه وأن يعتني بأسباب رقته ولينه وكل عمل صالح يصدق فيه العبد ويخلص فيه العمل، فإنه سبب وموجب من موجبات رقة القلب التسبيح، التحميد، التكبير، الصدقة، الصلاة، كل الأعمال غايتها إصلاح القلوب، ولذلك فتش عن قلبك بعد الأعمال الصالحة كيف أثرها في قلبك، فإنها توجب لها رقة وصلاح كما أن المعاصي توجب له قسوة وهلاكًا، فإذا وقعت في ذنب فاستغفر وإذا أتيت حسنة فأسال الله أن يكون ذلك موجبًا لصلاح قلبك واستقامته لتكون من أولئك الذين قال فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم-: «يَدخُلُ الجنَّةَ أقوامٌ أفئدتُهم مثلَ أفئدةِ الطيرِ».
اللهم ألن قلوبنا بذكرك، وأعمرها بمحبتك، واجعلها من أصلح قلوب عبادك، وفقنا إلى صالح العمل في السر والعلن، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.