قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين في باب في اليقين والتوكل:
عن جابر رضي الله عنه: أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معهم، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا وإذا عنده أعرابي، فقال: «إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا، قال: من يمنعك مني ؟ قلت: الله ثلاثا» ولم يعاقبه وجلس. متفق عليه.
وفي رواية قال جابر: كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معلق بالشجرة فاخترطه، فقال: تخافني؟ قال:«لا» فقال: فمن يمنعك مني ؟ قال: «الله».
وفي رواية أبي بكر الإسماعيلي في "صحيحه"، قال: من يمنعك مني؟ قال: «الله». قال: فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم السيف ـ فقال: «من يمنعك مني؟». فقال: كن خير آخذ. فقال: «تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟» قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فأتى أصحابه، فقال: جئتكم من عند خير الناس.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
والله يعصمك من الناس:
فهذا الحديث حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ في قصة هذا الرجل المشرك الذي خلا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسلَّ سيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليقتله فقال له: لما سأله الرجل من يمنعك مني؟ يعني من الذي يعصمك ويحميك ويقيك من أن أقتلك أو أنالك بشر هكذا سأل المشرك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأجاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الله كررها ثلاث كما في بعض الروايات وهذا الخبر يبين عظيم ما كان في قلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من اليقين بصدق خبر الكريم المنان الرحيم الرحمن ـ جل في علاه ـ فالله ـ تعالى ـ قد وعد رسوله بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾[المائدة: 67].
أي: يمنعك من أن ينالوك بأذى بقتل أو نحوه يحول بينك وبين تبليغ الرسالة، فلما جاء هذا الرجل وخلا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس معه أصحابه إذ تفرق أصحابه في هذا المكان الذي نزلوا فيه، وأخذ سيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان نائمًا يعني غير متهيئ ولا مستعد حتى للمدافعة سأله قال: من يمنعك مني؟ ولعلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الذي يمنعه هو الله، وأن الله ـ تعالى ـ لا يخلف الميعاد، وأنه على كل شيء قدير، قام كل ذلك في قلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يكن لما في يد المخلوق من قوة ظاهرة معنى، بل قال: «الله»[صحيح البخاري (2910)، ومسلم (843)].
التوكل واليقين بوعد الله وحفظه:
وذاك لكمال يقينه وتصديقه بوعد الله وتوكله في تحقيق ما يؤمل من السلامة والنجاة من المرهوب، وهذا لا يكون إلا عن تمام يقين وكمال توكل، فإن الذي يصدق وعد الله مهما بدا أن وعد الله متخلف أي لا يكون فإن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولهذا مهما ظهر لك أن الأمر سيكون على خلاف ما أخبر الله به ورسوله، فإن الذي يذهب عن كل هذه الأوهام وهذه المظاهر أن تعلم أن الله لا يخلف الميعاد، وأنه على كل شيء قدير، وإنه لما شاء ـ سبحانه وبحمده ـ قدير وأنه إذا شاء شيء كان مهما بدا خلاف ذلك، ولهذا يقول الله ـ تعالى ـ في قصة يوسف في ختم القصة قال: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾[يوسف: 100].
وهذا تعقيب على أول الخبر في سورة يوسف حيث أخبر ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾[يوسف: 4] مضت الأيام وتعاقبت الليالي وكرت الحوادث وتوالت السنون ثم كان ما كان من صدق ما رآه في المنام فقال: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾[يوسف: 100] يعني إذا شاء شيئًا فإنه لا يكون إلا على وفق ما أراد ولو كان من طرف خفي، أو من جهة غير ظاهرة، فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كيف تحدث العصمة؟
فلِيقين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصدق وعد الله وأنه سيعصمه من أعدائه وخصومه قال: «الله»، كيف يكون هذا؟ يعني كيف تحصل العصمة؟ الله على كل شيء قدير لا تقل كيف؟ فإن الله تعالى على كل شيء قدير وإذا شاء كان النار وهي محرقة قال لها: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾[الأنبياء: 69] فانقلبت خلاف ما جرت به العادة كل هذه بيده، وهو الذي إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، فثق بخبر الله وصدق ما جاء به الوعد عنه جل في علاه، ولا تقل كيف يكون ذلك فإن ذلك شأنه جل في علاه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو قد أحاط بكل شيئًا علمًا، وهو على كل شيء قدير وبكل شيء محيط.
كريم سجايا النبي صلى الله عليه وسلم:
هذا الحديث فيه كريم سجايا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث حرص على أن يشهد أصحابه عظيم قدرة الله في حمايته فدعاهم ليروا ما كان من صدق وعد الله لرسوله ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾[المائدة: 67] فيه أيضًا رحمته بهذا المشرك حيث أنه أخذ السيف قال: من يمنعك مني؟ فقال: كن خير أخذ فكان خير أخذ يعني كن خير من تمكن من عدوه فتركه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن تعهد بألا يقاتله وألا يقاتل معه أحد وفي شهادة المشركين للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بطيب الخصال وكريم السجايا حيث أن هذا الرجل لما ذهب إلى قومه قال لهم: جئتم من خير الناس وهو خير الناس ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير الناس في عمله وخاصته وخير الناس في معاملته ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، والمؤمن والكافر.
التقوى من العبد سبب المعية من الله عز وجل:
فهو خير الناس للناس ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وفيه أيضًا العبد إذا بذل السبب متقيًا الله ـ عز وجل ـ فإن الله ـ تعالى ـ سيكون معه ومن كان الله معه فلا خوف عليه، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ امتثل أمر الله في طاعته والخروج للجهاد في سبيله، فعلى ما أذن الله ـ تعالى ـ له من الراحة التي لا يجب عليه فيها أن يأخذ حذره إذ إنه بين أصحابه فلما كان ما كان حماه الله ـ تعالى ـ ووقاه ومن يتوكل على الله فهو حسبه، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنفال: 64] أي كافي من اتبعك من المؤمنين وفيه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المشرك بعدم أسره وذلك إذا اقتضته مصلحة ولو كان معتديًا هذا الرجل من عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفكه من الأسر أو القتل مع كونه مشركًا مصر على الشرك رجاء المصلحة وكان ما كان من شهادة هذا الرجل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه خير الناس.
والخلاصة: إذا أطعت الله وأصابك ما أصابك مما تخاف وتحذر، فكن على يقين أن العاقبة للمتقين وسيدفع الله عنك إن الله يدافع عن الذين آمنوا، اللهم اجعلنا من عبادك الموقنين، واسلك بنا سبيل أوليائك الصالحين، واجعلنا من حزبك المفلحين وخذ بنواصينا إلى ما تحب وترضى من الأعمال والأقوال في السر والعلن يا رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد.