قوله:"ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغير عن وجهه، والصحيح منها هم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنهم خير القرون) (رواه البخاري (3651)، ومسلم (253)، من طريق إبراهيم النخعي عن عبيدة بن عمرو الراوي عن ابن مسعود)، (وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم) (رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541)، من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد)، ثم إذا كان قد صدر عن أحد منهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه.
فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين؛ إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور.
ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح.
وبيان هذا أن «مذهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم. وما وقع؛ منه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفورا. فالخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من الناس بغضا وذما، ويكون هو في ذلك مخطئا، بل عاصيا، فيضر نفسه، ومن خاض معه في ذلك، كما جرى لأكثر من تكلم في ذلك؛ فإنهم تكلموا بكلام لا يحبه الله، ولا رسوله؛ إما من ذم من لا يستحق الذم، وإما من مدح أمور لا تستحق المدح، ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السلف» (منهاج السنة النبوية (4/ 448 – 449)، انظر: مجموع الفتاوى (4/ 434). وليس هذا خاصا بما جرى بين الصحابة فقط، بل «ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة، أو ممن بعدهم. فإذا تشاجر مسلمان في قضية ومضت، ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلاما بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة» (المصدر السابق (5/ 146 - 147).
فالواجب فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم أن يقال: «إما أن يكون عمل أحدهم سعيا مشكورا، أو ذنبا مغفورا، أو اجتهادا قد عفي لصاحبه عن الخطأ فيه. فلهذا كان من أصول أهل العلم: أنه لا يمكن أحد من الكلام في هؤلاء بكلام يقدح في عدالتهم وديانتهم، بل يعلم أنهم عدول مرضيون، لا سيما والمنقول عنهم من العظائم كذب مفترى» (مجموع الفتاوى (27/ 477)، وله كلام مهم في أنه ليس من لازم الإمساك اعتقاد أن كل واحد من العسكر لم يكن إلا مجتهدا. ينظر: مجموع الفتاوى (4/ 434)، (4/ 237).
«ولهذا كان الإمساك عما شجر بين الصحابة خيرا من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال» (منهاج السنة النبوية (4/ 311)، كما أن الخوض «فيما شجر يوقع في نفوس كثير من الناس بغضا وذما، ويكون هو في ذلك مخطئا، بل عاصيا، فيضر نفسه ومن خاض معه في ذلك، كما جرى لأكثر من تكلم في ذلك» (منهاج السنة النبوية (4/ 449). «فمن سلك سبيل أهل السنة استقام قوله، وكان من أهل الحق والاستقامة والاعتدال، وإلا حصل في جهل وكذب وتناقض» (المصدر السابق (4/ 313).
ومن وسطية أهل السنة وعدلهم أنهم «لا يعتقدون العصمة من الإقرار على الذنوب، وعلى الخطأ في الاجتهاد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سواه فيجوز عليه الإقرار على الذنب والخطأ» (مجموع الفتاوى (4/ 434). وينظر: (35/ 69). لكن الصحابة رضي الله عنهم «هم كما قال تعالى: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم} الأحقاف: 16» (المصدر السابق). «بل يجوز أن يذنب الرجل منهم ذنبا صغيرا، أو كبيرا، ويتوب منه، وهذا متفق عليه بين المسلمين، ولو لم يتب، فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر عند جماهيرهم، بل عند الأكثرين منهم أن الكبائر قد تمحى بالحسنات التي هي أعظم منها» (منهاج السنة (4/ 310)، «وقد يبتلون أيضا بمصائب يكفر الله عنهم بها، وقد يكفر عنهم بغير ذلك» (المصدر السابق (6/ 196 – 197)، فإن لهم رضي الله عنهم «من التوبة، والاستغفار، والحسنات ما ليس لمن هو دونهم، وابتلوا بمصائب يكفر الله بها خطاياهم لم يبتل بها من دونهم، فلهم من السعي المشكور، والعمل المبرور ما ليس لمن بعدهم، وهم بمغفرة الذنوب أحق من غيرهم ممن بعدهم» (المصدر السابق (4/ 336)، انظر: (6/ 196، 205)، (7/ 83).
هذا فيما كان ذنبا محققا منهم رضي الله عنهم، فكيف و «ما يذكر عن الصحابة من السيئات كثير منه كذب، وكثير منه كانوا مجتهدين فيه، ولكن لم يعرف كثير من الناس وجه اجتهادهم» (المصدر السابق (4/ 310)؛ «فإنهم خير قرون هذه الأمة كما قال صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم) (رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533) عن عبد الله بن مسعود بلفظ: خير الناس، وفي لفظ: خير أمتي)، وهذه خير أمة أخرجت للناس» (مجموع الفتاوى (3/ 406).
«ومما ينبغي أن يعلم أنه وإن كان المختار الإمساك عما شجر بين الصحابة والاستغفار للطائفتين جميعا وموالاتهم؛ فليس من الواجب اعتقاد أن كل واحد من العسكر لم يكن إلا مجتهدا متأولا كالعلماء، بل فيهم المذنب والمسيء وفيهم المقصر في الاجتهاد لنوع من الهوى، لكن إذا كانت السيئة في حسنات كثيرة كانت مرجوحة مغفورة. وأهل السنة تحسن القول فيهم وتترحم عليهم وتستغفر لهم، لكن لا يعتقدون العصمة من الإقرار على الذنوب وعلى الخطأ في الاجتهاد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سواه، فيجوز عليه الإقرار على الذنب والخطأ، لكن هم كما قال تعالى: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم} الأحقاف: 16. وفضائل الأعمال إنما هي بنتائجها وعواقبها، لا بصورها» (المصدر السابق (4/ 434).